بتكليف قيس سعيد شخصية جديدة لتشكيل الحكومة وخلافة رئيس الوزراء المستقيل إلياس الفخفاخ، وذلك بعدما حسمت الأحزاب السياسية موقفها واختارت أسماء مرشحيها، تدخل الأزمة السياسية في تونس طورًا جديدًا، فالاسم الذي سيختاره ساكن قرطاج، سواء من بين الذين اقترحتهم الأحزاب أو من اختياره شخصيًا، سيكون الرجل الذي من الممكن أن يفتح صفحة جديدة في مسيرة الأداء الحكومي أو أن تصل معه الأزمة السياسية في البلاد إلى ذروتها التي لا مخرج منها سوى حلّ البرلمان والذهاب إلى انتخابات جديدة، وهو السيناريو الذي يُحذّر منه المراقبون باعتباره خيارًا قد يُعيد البلاد إلى مربع الفوضى التي أعقبت سقوط بن علي في يناير عام 2011.
ورغم أنّ التجربة الديمقراطية التونسية تُعد الأنجح نسبيًا ضمن سلسلة الثورات العربية التي وئدت بآلة العسكر، إلاّ أنّ المثال التونسي مازال يُقارع المؤامرات الخارجية التي تُحيكها الجهات الإقليمية الراعية للثورة المضادة في الإمارات ومصر والسعودية، ما يعنى أنّ الاستقرار في البلد الواقع في شمال إفريقيا ما يزال رهين إرادة الداخل وتوافق الأحزاب والفاعلين السياسيين على هدنة تُؤجل من خلالها المعارك الضيقة إلى غاية هدوء العاصفة.
ويعيب كثير من المحللين السياسيين على الرئيس قيس سعيد الذي اكتسب شرعية شعبية عقب الانتخابات الرئاسية لعام 2019، سعيه إلى مزيد إرباك الوضع السياسي في البلاد من خلال تصريحاته الغامضة والمتماهية مع مشروع ضرب الاستقرار، إضافة إلى عدم حرصه على جمع لفرقاء السياسيين وإنهاء الخلاف فيما بينهم، بهدف إنقاذ البلاد التي تعاني من وضع اقتصادي متدهور وحالة احتقان اجتماعي.
رجل التناقضات
وبالعودة إلى العرض الكرونولوجي لأداء قيس سعيد السياسي منذ توليه رئاسة الجمهورية التونسية، يُمكن القول إنّ رافع شعار “الشعب يُريد” لم يخرج من جلباب الخطاب الفضفاض والعام الموجه لفئة من المواطنين دون غيرهم وهي الفئة الانتخابية (الشباب المعطل والمحروم) التي أوصلته إلى الحكم والحال أنّه رئيس جامع لكل التونسيين وعد برعاية مصالحهم والسهر على خروج البلاد من أزماتها، وبالتالي فإنّ سعيد وفريقه عجزوا عن تغيير خطتهم الاتصالية من حيث تحميلها بعض الرسائل الإيجابية.
من جهة أخرة، فإنّ سعيد الذي حملته رياح “حالة الوعي” التي أُطلقت تزامنًا من انتخابات 2019 الرئاسية، وكان وقودها الشباب الطامح إلى التغيير وإقامة دولة العدل والحقوق واسترجاع الثروات المنهوبة واستعادة السيادة الوطنية، أخفق مرة أخرى في امتحان الحكم، فكانت زيارته إلى باريس وتصريحاته التي أكّد فيها أنّ الاستعمار الفرنسي لم يكن احتلالًا بل حمايةً، بحسب المتابعين، نكوصًا جديدًا ونكثًا بالوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، وهي مرحلة مهّدت فيما بعد إلى دخوله على الخط في الصراع السياسي في تونس، وبدل من توجيه “أسلحته” الدستورية لإعادة المشهد إلى الجادة، انخرط بقوّة في السجال وأصبح طرفًا في الخصومة السياسية وذلك بتقمصه دور المعارضة أو من خلال دعم شق في البرلمان على حساب آخر، ووصل به الأمر إلى إقصاء رئيس البرلمان وتغييبه عن اجتماعات حضرها معظم أعضاء “مجلس الأمن القومي” من كبار القيادات العسكرية والأمنية.
وعلى الرغم من أن رئيس الجمهورية يملك كل المقومات (الشرعية والسياسية) لفرض الاستقرار من خلال القيام بواسطة لإقناع الأحزاب السياسية بضرورة الجلوس إلى طاولة الحوار وإرساء هدنة سياسية، أو من خلال خلق الظروف الملائمة لإطلاق مبادرة وطنية تشارك في المنظمات الرئيسية كاتحاد الشغل واتحاد الأعراف والفلاحة أو هيئات وطنية كالمحامين، من أجل إنقاذ ما يُمكن أنقاذه وتجنيب البلاد الانزلاق إلى الفوضى، إلاّ أنّ سعيد خيّر لعبة كسر العظام والمرور إلى السرعة القصوى بذهابه إلى خيار حلّ البرلمان وكأنّه الحل الأمثل وذلك في غياب أي خارطة طريق بديلة باعتبار أنّ النظام الانتخابي سيفرز برلمان مشابه للحالي حيث لا يمكن لأي حزب فائز من تشكيل حكومة بمفرده.
“من نفقتو باين عشاه” مثل شعبي يلخص مسار ترشيحات الأحزاب لرياسة الحكومة… سننتهي إلى تكرار نفس السيناريو في غياب مشاورات حقيقية وستسقط الحكومة خلال شهرين …. هل نؤكد مرة أخرى غياب الخيال الخلاق لدى “صناع القرار” في بلادنا؟ هل أن غايتهم مزيد تأزيم الاوضاع؟
— Nadhir Ben Ammou (@nbenammou) July 24, 2020
مشروع سعيد
من هذا الجانب، أرجع كثير من التونسيين رفض الرئيس القيام بدور الوساطة بين الأحزاب لتخفيف حدة الاحتقان وتداعياته الكارثية على السلم الأهلية وعلى المناخ الاجتماعي، إلى أنّه تكتيك من قبل سعيد يهدف من ورائه إضعاف الأحزاب وإفقادها شرعية وجودها، تمهيدًا لطرح برنامجه المتمثل في تغير النظام السياسي للبلاد والمتمثل في الحكم الشعبي المباشر، وهو ما أقرّه في تصريح سبق الانتخابات أكّد فيه أنّ برنامجه القادم سيرتكز على “تطهير البلاد ثم تنظيم الانتخابات” دون الاستفاضة في شرح وتبيان مقصده فكلمة تطهير حمالة لأكثر من معنى.
الأمر ذاته صدر عن الناشط السياسي رضا شهاب مكي “لينين” المقرّب من الرئيس في تدوينة على موقع فيسبوك وجاء فيها: “انتهى الدرس وحان الوقت لتغادر النخبة السياسية مشهد الحكم والمعارضة’، حيث وصفها ‘بالنكبة السياسية’، لتحل مكانها منظومة حكم الشعب بالشعب ولفائدة الشعب وتحت رقابة الشعب”، داعيًا إلى عدم الانزعاج لأنه ليس خيارا تونسيًا بل هو اتجاه عالمي، حسب وصفه.
ويبدو أنّ قيس سعيد يعلم سلفًا أنّه بلا كتلة برلمانية تدعمه ولا حزب يقف وراءه أو يسنده، علاوة على أنه صعد إلى السلطة دون برنامج واضح المعالم يطرحه ويمكّنه من إطلاق مبادراتٍ واقعيةٍ تساهم في تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، لذلك فهو متخوف من تراجع خزانه الانتخابي المتمثل في قرابة ثلاثة ملايين، ومن اضمحلال فكرته الطوباوية لديهم، وبالتالي فإن الاستثمار في المعارك الصغرى (ملف سيارة الوزير) مقابل الصمت في الأزمات الكبرى (الفخفاخ غايت)، التي تتخذ من الشعبوية أداة ووسيلة، سيمكنه من تنفيذ مشروعه السياسي.
ويرتكز مشروع الرئيس قيس سعيد على قاعدة “البناء الجديد” ويهدف إلى الحصول على السّلطة التّشريعية والرقابية عبر الانتقال من المحلي نحو المركزي، وهي أشبه بسلطة الجماهير على طريقة حكم العقيد الليبي السابق والتي تعتمد على تذويب الأحزاب السياسية، حيث تتركز السلطة التنفيذية بيد رئيس الدولة الذي يتم انتخابه بالاقتراع على الأفراد في دورتين ويتكفّل الأخير بتعيين رئيس حكومة.
ويرى معارضو هذا الطرح أنّه يحتاج إلى تبويب وإعادة تطوير عبر استشارة موسعة متفرعة عن لجان غير مرتبطة بفاصل زمني، كما أنّها تخلط بين تقنيات الانتخاب والتزكية والقرعة في اختيار ممثلي المحليات والجهات، وهو أمر لا يستقيم وقد يكرس لحكم دكتاتوري كـ”اللجان الثورية”.
في غضون ذلك، فإنّ الإشارات القوية والرسائل المشفرة لتصريحات سعيد توحي بأن سياسة الرجل تتجه نحو سكب مزيد من الزيت على النار لـتأجيج الصراعات بين الأحزاب السياسية تحت قبة البرلمان، وهو ما أكّده القيادي بحزب قلب تونس عياض اللومي في تصريح إعلامي من أن “رئيس الجمهورية يريد حلّ البرلمان”.
ضامن الدستور.. صانع الأزمات
من المؤكد أنّ دستور 2014 فيه الكثير من الهنات والثغرات التقنيّة التي من شأنها إحداث وضعيات تعطيل أو عدم استقرار حكومي، خاصة وأنّه أنشأ نظامًا تتداخل فيه صلاحيات المؤسسات الدستورية أي رئاسة الحكومة والبرلمان، ومن المعلوم أيضًا أنّ سعيد يحرص في كل مناسبة على التأكيد على احترامه لعلوية الدستور رغم الجدل الحاصل في تأويل القوانين وخاصة تلك التي تحمل أكثر من تفسير، إلاّ أنه في الوقت ذاته على خرق بعض نصوص الدستور وخاصة منه الفصل 18 الذي ينص على أنّ “الجيش التونسي جيش جمهوري مُلزم بالحياد التام”، ولم يحترم مبدأ تجنب أي خطاب سياسي أو إيديولوجي أمام القيادات العسكرية العليا.
تحذيرات الرئيس التونسي من محاولات لتفجير الدولة من الداخل، وزعزعة أمن البلاد من خلال تآمر أطراف داخلية، لم يسمها، مع أخرى أجنبية على الأمن القومي، ومحاولة البعض إقحام الجيش في المعارك السياسية، كانت أبرز أسباب الانتقادات التي طالته، فالرئيس الذي أكّد في أكثر من مرة على ضرورة تحييد المؤسسة العسكرية والأمنية عن الخلافات السياسية واستنكر في مناسبات عدة الزج بهاتين المؤسستين في الصراعات السياسية الضيقة، أطنب في استعمال معاجم الحرب والعسكر في كل خطبه دون تحديد طبيعة المخاطر أو الجهات التي تقف وراء هذه المحاولات، وبالتالي فإنّ ساهم من حيث يعلم أو لا يعلم بمزيد إرباك المناخ السياسي والاجتماعي في البلاد.
يبدو أنّ قيس سعيد أصبح جزءًا من الأزمة في تونس، خاصة وأن تلميحاته وإشاراته المستمرة لمخططات انقلابية ومؤامرات تحاك في الغرف المظلمة تستهدف البلاد، قد تؤثر على صورة البلاد في الخارج من حيث فرص الاستثمارات وإنعاش قطاع السياحة، وذلك في وقت تشكو فيه البلاد من ظرف اقتصادي صعب، حيث كل المؤشرات شارفت على اللون الأحمر، فضلا عن أنّ التوقعات التي تشير الى وصول نسبة نمو بين 7 و 8% سلبًا، نتيجة لتداعيات جائحة ( كوفيد-19).
ويبقى السؤال الأبرز الذي يشغل التونسيين في الوقت الراهن وعقب التهديدات المتواترة للرئيس قيس سعيّد بخصوص “المتآمرين على الدولة في الداخل والخارج” هو، هل يلجأ الرئيس إلى “اعتبار البلاد أمام خطر داهم” يبرّر استخدام الفصل 80 من الدستور(فصل الخطر الداهم)، وهو ما سيمنحه “صلاحيات استثنائية” منها ممارسة صلاحيات رئيس الحكومة وتعطيل السير العادي لبعض المؤسسات وللفصل بين السلطات مؤقتاً، وذلك من خلال الاستفادة من تراجع ثقة الشارع التونسي في نخبه السياسية، وضعف أداء الأحزاب ومن عملية ترذيل البرلمان المستمرة، لإضفاء شرعية شعبية قوية على هذه الخطوة التي تسمح له بتوسيع صلاحياته.
بالمحصلة، فإنّ الأزمة السياسية في تونس مرجحة لأن تتعمق أكثر فأكثر في ظل وجود نخب تهتم أكثر بتحصيل السلطة من ممارستها، وضرب الخصوم والمختلفين معهم إيديولوجيًا أكثر من سعيهم نحو البناء والارتقاء بالخطاب السياسي وصولًا إلى إرساء دولة ديموقراطية حقيقية قائمة على مبدأ التداول السلمي للسلطة، وبالتالي فإنّ تونس أمام مرحلة دقيقة وحاسمة تتطلب أولًا إعادة لنظر في النظام الانتخابي الأعرج باعتباره المتسبب في الأزمة وإرساء عقد سياسي واجتماعي يُنهي الصراع ويمهد لإصلاحات اقتصادية كبرى يمكنها تحقيق مطالب الثورة المؤجلة.