انفرط عقد الهدوء الحذر على نحو سريع بين دولة الاحتلال “إسرائيل” و”حزب الله” اللبناني من جهة، والولايات المتحدة وإيران من جهة أخرى، في سوريا، خلال الأيام الأخيرة، لتحل محله حالةٌ من الاستنفار والترقب النشط، على خلفية التصعيد العسكري وكسر الخطوط الحمراء الذي بدأته “إسرائيل”.. فما القصة؟
قصفٌ غير عادي
كعادتها في استباحة الأجواء السورية لضرب أهداف النظام ومناطق التموضع الإيراني، شنت دولة الاحتلال غارات جوية جديدة على أهداف عسكرية بالقرب من مطار دمشق السوري يوم الإثنين الماضي.
في البداية كان ما نعرفه عن هذه الغارات، ما ذكرته وكالة الأنباء السورية “سانا” عن تصدي الدفاعات الجوية السورية لغارةٍ جوية، في سماء العاصمة، دمشق، نفذها طيرانٌ إسرائيلي معادٍ قادم من منطقة مجدل شمس الواقعة في الجولان السوري المحتل. وفي تفصيلٍ لصحيفة “الوطن” السورية، علمنا أن الغارة تركزت على ريفي دمشق الجنوبي والجنوبي الغربي، وأن الدفاعات الجوية، وفقًا للرواية الرسمية، تمكنت من إعاقة عدد من الصواريخ “جو أرض” المعادية عن الوصول إلى أهدافها.
وفي وقتٍ لاحق، علمنا من إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي (كان) أن الغارة الجوية التي تمت بعد معلومات استخبارية، استهدفت شحنة أسلحة وصلت على متن رحلة من إيران في الأيام الأخيرة، ودولة الاحتلال تخشى من رد “حزب الله” عليها.. فما سر هذه الشحنة الإيرانية؟ وما علاقة “حزب الله” بالرد على استهدافها؟
أهداف مزدوجة
بحسب روي بن يشاي ودانيال سلامة، المحللين العسكريين في موقع “واي نت” العبري، فإن شحنة الأسلحة الإيرانية التي استهدفتها “إسرائيل” هي منظومات دفاع جوي ومعدات صاروخية دقيقة أرسلتها طهران لدمشق عبر طائرات شحن مؤخرًا.
وقد أتى إرسال هذه المؤن العسكرية المهمة، بحسب المحللين، على ضوء الاتفاقية العسكرية الإيرانية السورية التي تبلورت خلال زيارة رئيس الأركان الإيراني الجنرال محمد حسين باقري إلى سوريا، حيث تتولى طهران بموجب هذه الاتفاقية تزويد دمشق بوسائل دفاع جوي لردع تل أبيب عن استباحة المجال الجوي السوري، وضرب الأهداف الإيرانية، خاصة بعد إثبات فشل الجانب الروسي أو تقاعسه، بسبب تنسيقه مع “إسرائيل”، عن حماية الأجواء السورية.
لكن الطائرات الحربية الإسرائيلية وخلال أداء المهمة المكلفة بها في ضرب العتاد العسكري الإيراني الجديد، اخترقت الخط الأحمر الذي رسمه الأمين العام للحزب حسن نصر الله، خلال الصيف الماضي، عندما أعلن أن أي استهداف إسرائيلي لكوادر بشرية تابعة للحزب في سوريا، فضلًا عن لبنان، بطبيعة الحال، لن يقابل بصمت مجددًا، وأن دولة الاحتلال ستدفع ثمنًا له، فقد قتلت “إسرائيل” عنصرًا للحزب خلال هذه الغارة.
سرعان ما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، وبشكل غير مفهوم، لتنكأ الجراح الإيرانية المفتوحة بعد عدد كبير من الهجمات الإسرائيلية
كان بوسع “حزب الله” الصمت عن مقتل عنصره، ومن ثم أن يرفع عن كاهله مسؤولية الالتزام بالرد على انتهاك الخط الأحمر الذي خطه أمينه العام، لكنه أعلن في اليوم التالي، الثلاثاء، في بيان رسميٍ قائلًا “بمزيدٍ من الفخر والاعتزاز، تزف المقاومة الإسلامية الشهيد علي كامل محسن جواد، من بلدة عيتيت، جنوب لبنان، الذي ارتقى أثناء قيامه بواجبه الجهادي”.
أدركت “إسرائيل”، من هذا البيان، أنها ارتكبت خطأً خلال تنفيذ عمليتها الجوية، سيتعين عليها أن تدفع ثمنه، الذي لن يكون شكليًا على الأغلب كما جرى عندما استهدفت عناصر “حزب الله” شاحنةً عسكرية إسرائيلية داخل الأراضي المحتلة، الصيف الماضي، فسارعت بالعمل على محورين هما: رفع جهوزية عناصرها على الحدود الشمالية، ومحاولة امتصاص غضب الحزب عبر طلب الوساطة الروسية، المحملة برسالة مفادها: “إسرائيل” حرصت خلال الشهور الماضية أن تتجنب الكوادر العسكرية لحزب الله خلال غاراتها الجوية على سوريا، ومن ثم فإنه لا داعي للتصعيد هذه المرة.
الولايات المتحدة
سرعان ما دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على الخط، وبشكل غير مفهوم، لتنكأ الجراح الإيرانية المفتوحة بعد عدد كبير من الهجمات السايبرانية “الإسرائيلية” ضد طيف من المواقع ذات الأهمية المزدوجة مدنيًا وعسكريًا في إيران، وتقوم باعتراض طائرة ركاب مدنية إيرانية، باستخدام مقاتلتين عسكريتين، فوق أجواء “النتف” على الحدود السورية العراقية.
التقديرات الأولية الإيرانية رجحت أن يكون الفاعل مقاتلة إسرائيلية، فيما يبدو أنه تأثير استهداف مواقعها المتزامن بطهران ودمشق، وفي وقت لاحق، وبعد نفيٍ “إسرائيلي”، قال التليفزيون الإيراني: “مغامرة أمريكية جديدة تمت يوم الخميس، من خلال اعتراض طائرة ركاب تابعة لشركة ماهان إير، في المجال الجوي السوري، مما دفع الطيار للارتفاع سريعًا لتجنب الصدام، وإصابة عدد من الركاب”.
ومساء الجمعة، أعلن عن زيارة مفاجئة من رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي مارك ميلي إلى “إسرائيل”، التقى خلالها 3 مستويات من القيادات: القيادة السياسية ممثلة في رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عبر الفيديو، والقيادة العسكرية ممثلة في بيني غانتس وزير الحرب وأفيف كوخافي رئيس هيئة الأركان العامة في جيش الاحتلال ويوسي كوهين رئيس الموساد، والقيادة اللوجيستية ممثلة في الميجور جنرال يهودا فوكس ملحق الجيش في واشنطن والعميد آفي ديفرين رئيس لواء العلاقات الدولية في الجيش، وهي زيارة جزم جميع المحللين بعلاقتها بالتصعيد الحاليّ في المنطقة.
وبالتزامن مع هذه الزيارة، عاود جيش الاحتلال الإسرائيلي قصفه لمواقع رصد واستخبارات تابعة للجيش السوري، جنوب البلاد، عبر الطائرات المروحية، فيما قال إنه ردٌ على إطلاق نار قادم من الأراضي السورية تجاه الجولان المحتل، يوم الجمعة.
الرد المنتظر
تحاول أصواتٌ برلمانية لبنانية ثني “حزب الله” عن استخدام الأراضي اللبنانية في الرد على “إسرائيل” محتجةً في ذلك بسوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية في البلاد، واعتذار “إسرائيل” الضمني عن الحادث، بالإضافة إلى مقتل الشاب اللبناني التابع للحزب في الأراضي السورية، وارتفاع أصوات “التحييد”، أي تحييد لبنان الممزق عن الصراع الإيراني مع أمريكا “وإسرائيل”.
احتمالية انزلاق الأوضاع بين الجانبين واردة، حيث يستعد الطرفان منذ عام 2006 للحرب القادمة
فيما تقول أصواتٌ إسرائيلية منها تساحي دبوش، إن إعلان “حزب الله” مقتل عنصره في الغارة الجوية، ومعلومات وتقديرات لدى الجيش، تحذر من نية الحزب الرد والانتقام لمقتل عنصره في سوريا، وعدم الاستجابة لهذه الأصوات الرافضة للرد في بيروت.
لذلك، أعلن جيش الاحتلال إعادة تمركز قواته على الحدود الشمالية وسحب معظم عناصره من القوات الأمامية وغلق عدد من المحاور الرئيسية وتعزيز فرقة الجليل بوحدات إضافية من قوات المشاة، وأبلغ اللواء أمير برعام قائد المنطقة الشمالية رؤوساء المجالس البلدية باستمرار عمل معظم الأنشطة المدنية، مع احتمالية تقييد الأنشطة الزراعية واستعداد الجيش لكل السيناريوهات.
وبحسب “الموسوعة العسكرية السورية”، وهي مدونة مختصة تقف على مسافة واحدة من الجميع، فإن احتمالية انزلاق الأوضاع بين الجانبين واردة، حيث يستعد الطرفان منذ عام 2006 للحرب القادمة، لذلك فإن حدث هذا التصعيد، فسوف تخرج دولة الاحتلال أفضل ما لديها في ترسانتها العسكرية من استثمار لقدراتها على جمع المعلومات في “أنظمة إدارة المعارك” واستخدام الطائرات المسيرة والحرب السايبرانية والقذائف الذكية وقنابل القطر الصغير، دون قيود على قصف المدنيين.
بينما ستكون فرص النصر العسكري، مع ذلك، أكبر بالنسبة للحزب، لعدد من الأسباب، أهمها أن جيش الاحتلال وضع لنفسه قيدًا عملياتيًا وفق خطة “تنوفا” وهو ضرورة تحقيق الانتصار “السريع”، مما سيجعل مهمة الأشباح التي سيقاتلها داخل لبنان، أيسر، في إنهاكه، بالإضافة إلى امتلاك التنظيم اللبناني قدرات عسكرية واسعة وخبرات متراكمة في مجال الحرب غير المتماثلة، وما يتفرع عنها من استخدام للطائرات المسيرة والأنفاق والإغلاق الصاروخي.