ما إن خرج وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من مبنى رئاسة الوزراء في المنطقة الخضراء، بعد لقائه رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي منتصف الشهر الحاليّ، حتى بدأت فصائل الكاتيوشا تصعد أمنيًا في بغداد، وعلى الرغم من حالة التهدئة التي كانت موجودة نسبيًا قبل هذه الزيارة، يبدو أن إيران غير مقتنعة بالسياسات التي يعتمدها الكاظمي، سواء على مستوى العلاقات التي تربط الحكومة العراقية بالفصائل الولائية أم تلك المرتبطة بإيران.
إن التهدئة التي أعلنتها الفصائل الولائية خلال فترة تمرير حكومة الكاظمي، وكانت بالأساس جزءًا من سياسة تهدئة أعلنها المرشد الإيراني علي خامنئي بداية شهر يونيو الماضي حيال الولايات المتحدة، وصلت إلى حالة قطيعة بعد إقدام هذه الفصائل على اغتيال الباحث العراقي المقرب من الحكومة العراقية هشام الهاشمي، لتعلن هذه الفصائل بداية مرحلة جديدة للمواجهة مع الكاظمي، وهو ما تكرر في حادثة الطارمية التي أرادت منها هذه الفصائل أن تخلق واقعًا أمنيًا يغير اهتمامات الحكومة العراقية.
أعُلن في العراق تشكيل فصائل مسلحة جديدة تندرج أغلبها ضمن خانة الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، ومن أبرزها لواء منتقمون الذي تشكل في أثناء زيارة الكاظمي لطهران.
وعلى الرغم من الآمال الكبيرة التي عقدها الكاظمي في زيارته الأخيرة لطهران، من أجل أن تثمر هذه الزيارة عن دور إيراني في ضبط حركة الفصائل الولائية في العراق، فإن المواقف السياسية التي أعلنها المرشد الأعلى الإيراني خامنئي، من خلال تأكيده تصميم إيران على الانتقام لمقتل سليماني وضرورة الاستمرار بمقاومة الوجود الأمريكي في العراق، إلى جانب المواقف السياسية الفضفاضة التي أعلنها رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني، تؤكد بما لا يقبل الشك، أن هناك توجهًا إيرانيًا لتصعيد الأمور في العراق، بالإطار الذي يعيد حسابات الكاظمي قبل ذهابه لواشنطن في زيارة مرتقبة لم يحدد موعدها بعد، ومن المتوقع أن تحرز تقدمًا واضحًا في موضوع الحوار الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، خصوصًا أن ملفات الفصائل الولائية وإيران تحتل موقعًا مهمًا في هذا الحوار.
مسارات التصعيد متواصلة
مثلت عملية عثور الاستخبارات العسكرية العراقية على طائرة درون مسيرة تحمل صاروخًا تفجيريًا يزن كيلوغرامين فوق أحد الأبنية في منطقة الجادرية المقابلة للمنطقة الخضراء، إلى جانب عملية القصف الصاروخي الذي طال معسكر بسماية في جنوب شرق بغداد، إحدى أبرز فصول التصعيد الأمني من هذه الفصائل في العراق، وسبقتها حادثة اختطاف الناشطة الألمانية هيلا مفيس في بغداد أيضًا، ما يؤشر بدوره لفشل الملف الأمني الذي راهن الكاظمي على نجاحه عبر زيارته لطهران، بل والأكثر من ذلك، أعُلن في العراق تشكيل فصائل مسلحة جديدة تندرج أغلبها ضمن خانة الفصائل الولائية المرتبطة بإيران، ومن أبرزها لواء منتقمون الذي تشكل في أثناء زيارة الكاظمي لطهران.
التملص الإيراني من ضبط هذه الفصائل، يأتي كتوجه إيراني في قطع الطريق على أي التزامات قد يقدم عليها الكاظمي حيال واشنطن أو الرياض
تنظر الفصائل الولائية في العراق، وكذلك إيران، بأن الحكومة العراقية غير جادة في موضوع إخراج القوات الأمريكية من العراق، وهناك محاولات حثيثة لتسويف هذا الملف من الكاظمي، الذي ينظر لوجود القوات الأمريكية في العراق، كعنصر توازن يستطيع أن يتحرك من خلاله بنوع من الحرية، بعيدًا عن ضغوط الفصائل الولائية، وهو ما أكده قائد القيادة المركزية الأمريكية كينيث ماكينزي في زيارته السرية لبغداد بداية الشهر الحاليّ، عندما أشار إلى أن الحكومة العراقية سترغب في الاحتفاظ بالقوات الأمريكية، وأن الكاظمي يسير في حقل ألغام، ومن واجب الولايات المتحدة دعمه.
مواقف حكومية غير واضحة
ما زالت حتى هذه اللحظة المبادرات الحكومية غير واضحة حيال مواجهة موجة التصعيد الأمني الخطيرة، ففي دراسة نشرتها صحيفة واشنطن بوست، تحدثت الصحيفة بأن الكاظمي ما زال مكبلًا في طريقة التعاطي من الفصائل الولائية في العراق، كما أنه ما زال مترددًا في كشف الجناة الحقيقيين الذي يقفون خلف عملية اغتيال الهاشمي، رغم معرفته لهم، وهو مؤشر خطير جدًا، وعلى الرغم من تعهده بكبح جماح الفصائل الولائية، كما أشارت الصحيفة، فلا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سيجرؤ الكاظمي على المضي قدمًا فيما يتعلق بمقتل الهاشمي.
قد يشكل استمرار هذا التصعيد، مبررًا للولايات المتحدة لإعادة سيناريو القصف الجوي للمعسكرات والمقرات التابعة للفصائل الولائية، ما قد يعيد الوضع الأمني في العراق إلى المربع الأول
إن البحث عن مسارات فعالة لمواجهة التصعيد الأمني الذي تقوم به الفصائل الولائية هذا اليوم مرشح للتصاعد في الأيام المقبلة، وتحديدًا في ظل عدم حصول الكاظمي على التزام إيراني واضح بوقف هذا التصعيد، ويبدو أن التملص الإيراني من ضبط هذه الفصائل، يأتي كتوجه إيراني في قطع الطريق على أي التزامات قد يقدم عليها الكاظمي حيال واشنطن أو الرياض، وتحديدًا في المجالات الأمنية والاقتصادية، فضلًا عن ذلك، أشارت التحركات الأخيرة للسيد الكاظمي فيما يتعلق بالتغييرات على مستوى جهاز الأمن الوطني، بأنها يمكن أن تمتد لهيئة الحشد الشعبي، الذي ترفض إيران، ومن بعدها الفصائل الولائية، إجراء أي تغييرات في واقعه.
إن التصعيد الأمني الأخير يمثل تحديًا كبيرًا أمام الكاظمي، وما يزيد من من تأثير هذا التصعيد، أن هناك ضغوطًا برلمانية تمارس ضده اليوم، من الكتل السياسية القريبة من إيران، وتحديدًا تحالف الفتح ودولة القانون، التي ترى في ممارسات الكاظمي تقويضًا للنفوذ الإيراني في العراق، وبالإضافة إلى ذلك، قد يشكل استمرار هذا التصعيد، مبررًا للولايات المتحدة لإعادة سيناريو القصف الجوي للمعسكرات والمقرات التابعة لهذه الفصائل، ما قد يعيد الوضع الأمني في العراق إلى المربع الأول، خصوصًا أن هذا التصعيد يخدم الأغراض الأمنية الإيرانية، التي ترى فيه استنزافًا وتضييقًا على إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تنتظره استحقاقات رئاسية في نوفمبر القادم.