شهدت فترة السبعينيات من القرن الماضي توجهًا من الغرب وخاصة أمريكا لفهم التجربة اليابانية في مجالات الأعمال والصناعة واكتشاف الأسرار التي منحتها التميز في المنافسة العالمية، فكيف تحولت اليابان من دولة مُدَمرة ومتخلفة إلى دولة متطورة ومتقدمة دون الاعتماد على الموارد الطبيعية كالذهب والغاز والبترول والمعادن وغيرها؟ وكيف استطاعت تحقيق طفرة صناعية هائلة محققةً أعلى نسب من العوائد المالية والأرباح بعد فترة من الركود الذي تعرضت له بسبب الكوارث والحروب؟
يكمن السر في واحدة من أروع المبادئ التي صدرتها لنا اليابان ألا وهي “فلسفة كايزن” التي ابتكرها تاييشي أوهونو وطورها الخبير الياباني Maskaai Imai عام 1984 بعد الحرب العالمية الثانية، وتعني أن هناك دائمًا إمكانية للتطوير والتحسين في جميع نواحي الحياة، وذلك من خلال العمل على تقليل الهدر سواء المادي أم الزمني أم غيره.
كايزن: التحسين المستمر
تنقسم الكلمة اليابانية “Kaizen” إلى شقين: “kai” وتعني التحسين و”zen” بمعنى الأفضل أو الأحسن، ويُقصد بها التغيير للأفضل أو إستراتيجية التحسين المستمر كما هو مذكور ببعض كتب الجودة.
فالهدف العام من فلسفة كايزن تحقيق تغييرات صغيرة خلال فترة زمنية ما لتغيير وتحسين نمط معين سواء شخصي أم داخل مؤسسات العمل أم حتى على المستوى الاجتماعي، ورغم بساطة تلك التحسينات، فإنها يمكن أن تحقق تأثيرات ضخمة وفعالة في المستقبل.
فيؤكد المهندس محسن بن حفيظ باعمر في كتابه “منهجية كايزن اليابانية” المفهوم الصحيح لفلسفة التغيير للأفضل، موضحًا: “منهجية الكايزن اليابانية تركز على إدخال تحسينات مستمرة وتدريجية قد تكون صغيرة في حجمها لكن كبيرة في تأثيرها وتساهم في زيادة الإنتاجية وتقلص من تكاليف التشغيل والهدر العام وتساهم برفع القدرات الإبداعية للعاملين ومشاركتهم في التغيير إلى الأفضل”.
يُستخدم هذا المبدأ بشكل متكرر في عالم الأعمال لوصف عملية التخلص مما هو غير مفيد ورفع كفاءة العمل، لكن لم يقتصر تطبيق فلسفة كايزن على الأعمال فحسب، بل امتد ليشمل جميع جوانب الحياة اليومية والعملية، لذا يعد تطبيق هذا المبدأ من أهم ما يجب الالتفات إليه في رحلة السعي للتحسين المستمر.
تمكنت كبرى الشركات من تحقيق قفزات نوعية على المستوى العملي خلال فترات زمنية بسيطة بفضل تطبيق فلسفة كايزن
فعلى مستوى الأعمال التجارية يشير مصطلح كايزن إلى الأنشطة التي “تُحسِّن باستمرار”، وتشمل جميع الموظفين بدءًا من الرئيس التنفيذي إلى عُمَّال خط التجميع، وتنطبق كايزن أيضًا على العمليات مثل عمليات الشراء والخدمات اللوجستية عبر الحدود التنظيمية إلى سلسلة التوريد. أما في الحياة اليومية فتشير “كايزن” إلى تغيير أنماط العيش بهدف تحسين أسلوب حياة الإنسان وحمله على مواكبة متطلبات العصر والتطور السريع.
تويوتا وبيكسار وفورد وآخرون.. وعصا كايزن السحرية
تمكنت كبرى الشركات من تحقيق قفزات نوعية على المستوى العملي خلال فترات زمنية بسيطة بفضل تطبيق “فلسفة كايزن”، وأهمها:
– شركة تويوتا اليابانية: تعد شركة تويوتا واحدة من أشهر الشركات التي تفوقت على نظائرها واحتلت صدارة الشركات المنتجة للسيارات في العالم بعد أن أزاحت العملاق جنرال موتورز عن الصدارة، ويرجع هذا إلى تطبيق مبادئ فلسفة كايزن اليابانية من خلال تطبيق تعديلات صغيرة وتدريجية.
– شركة فورد للسيارات: تبنت شركة فورد تطبيق فلسفة كايزن، ورغم احتلال تويوتا للصدارة، فإنها لم تكن وحدها على الساحة، فقد استطاعت فورد التركيز على العمل بكفاءة من خلال تطبيق بعض الممارسات التي ساعدتها على إنجاز المهام وتقليص الوقت.
– نستلة: واحدة من أهم شركات تصنيع المواد الغذائية على مستوى العالم التي استطاعت الاستفادة من فلسفة كايزن بتطبيق مبدأ تقليل الهدر والوقت والتخلص من النفايات بطريقة آمنة، ما ساعدها على توفير مساحات وموارد فائضة.
– بيكسار: اتخذت إستديوهات pixer العالمية للرسوم المتحركة نموذجًا للتحسين المستمر لتقليل مخاطر احتمالات فشل الأفلام باهظة الثمن باستخدام اختبارات مراقبة الجودة، التي تعد من أهم مبادئ فلسفة كايزن.
مبادئ كايزن الـ10
تتبنى فلسفة كايزن أهم 10 مبادئ للتحسين أو التغيير في أي مجال:
- الابتعاد عن الافتراضيات.
- الاستباق في حل المشكلات.
- التمرد على الوضع الراهن السيئ.
- التخلص من الكمالية والنظر في إيجاد حلول ومواقف حقيقية.
- تعديل الأخطاء.
- خلق بيئة مناسبة للقدرة على الإنتاج.
- التوصل إلى السبب الجذري للأمور.
- الابتعاد عن الآراء ووجهات النظر الافتراضية من الأشخاص.
- التفكير بطريقة إبداعية للوصول إلى تحسينات صغيرة بتكلفة منخفضة وبجهد أقل.
- عدم التوقف عن التحسين والتغيير للأفضل مهما كانت الظروف.
“رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”.. سر نجاح كايزن
ينطلق تكنيك الكايزن من الحكمة “رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة”، فيعرض كتاب “منهجية كايزن اليابانية” هذه الفكرة، موضحًا: “لطالما استعانت الشركات اليابانية بطريقة الكايزن الذكية من أجل تحقيق أهدافها العملية والتجارية ومن أجل الحفاظ على التفوق، والآن بوسع هذه الإستراتيجية البارعة أن تعينك أنت على بلوغ أحلامك الشخصية”.
فالأفعال الصغيرة هي جوهر الكايزن التي لا تتطلب إلا القليل من الوقت والمال في سبيل المضي قدمًا نحو التغيير المستمر، فتقول أوبرا وينفري: “أعظم التحولات تأتي من أصغر التغيرات، فتغيير يسير في سلوكك يمكن أن يغير عالمك ويعيد تشكيل مستقبلك”.
ما نفعله اليوم لا بد أن يكون أفضل من الأمس، وما نفعله الغد يجب أن يكون أفضل من اليوم، هكذا بنت اليابان نهضتها من جديد بفضل تطبيق فلسفة الكايزن
فعندما تضيف تحسينًا صغيرًا بشكل يومي، فبالتأكيد ستتحقق كبرى المهام في نهاية الأمر، فالمكسب العظيم لن يتحقق غدًا أو بعد غد، لكنه حتمًا سيأتي في نهاية المطاف، فلا يجب توقع تحسن سريع وهائل، بل يجب السعي لتحقيق تحسن واحد ضئيل لكل يوم، فيعد هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق التحسين وحينها فإن هذا التحسين يستمر ويبقى للأبد.
(الـ5 تاءات) خطوات التحسين الفعلية لتطبيق مبدأ الكايزن
للتحسين والتغيير عدة خطوات مهمة يجب الالتفات إليها وتطبيقها بشكل جدي، وهي:
التصنيف: تتضمن فرز وتصنيف أوراق العمل والتخلص من الأشياء غير الضرورية، وقم بعمل فحص شهري بشكل دوري للتأكد من أن جميع الأوراق والمستندات التي بين يديك هل ما زلت تحتاجها حقًا أم أن وجودها بين غيرها من المستندات هو تكديس وزحام فقط؟
الترتيب: ويتضمن قاعدة الـ30 ثانية، فالأشياء التي تبحث عنها ولم تجدها خلال 30 ثانية، فهذا يعني أنك بحاجة إلى إعادة ترتيب والبحث عن حلول مبتكرة للتخزين والترتيب.
التنظيف: تهتم فلسفة الكايزن بتنظيف المكان بوجه عام لبيئة مريحة تبعث على النفس الهدوء والارتياح لإنتاجية أعلى.
تطبيق سياسة المعايرة: من خلال وضع ملفات ملونة على سبيل المثال ولوحات وعلامات استرشادية تسهل إيجاد المواد والأوراق اللازمة، وذلك للحصول على بيئة مرتبة وواضحة ونظيفة على المستوى البيئي والشخصي.
تطبيق سياسة الالتزام: يُقصد بها العمل بصفة دورية من خلال منهج دوري.
ما نفعله اليوم لا بد أن يكون أفضل من الأمس، وما نفعله الغد يجب أن يكون أفضل من اليوم، وهكذا بنت اليابان نهضتها من جديد بفضل تطبيق فلسفة الكايزن، فتعمل هذه الفلسفة على تقليل الهدر من الجهد والوقت والطاقة، فالعلم + الأخلاق+ العمل= نهضة حقيقية.
قد يبدو المبدأ يسيرًا جدًا في التطبيق، لكن يكمن الإبداع في طريقة التطبيق ذاتها، فسر نجاح الإستراتيجية يكمن فيمن يملك صلاحية التغيير والتحسين الحقيقية.