كما لكل حكاية جانبان، حكاية اليوم لها جانب مؤلم عن التغريبة التي يعايشها العلماء في أوطانهم وجانب آخر مشرق، عندما تتاح الفرص لهذه العقول فإنها تبدع وتأخذ الصدارة.
حكاية اليوم عن العالم والطبيب الجزائري إلياس زرهوني الذي نبغ واستطاع بفضل مثابرته أن يصل إلى ترؤس أكبر مؤسسة بحثية في العالم وغير وجه التشخيص الشعاعي للأبد بابتكاره طريقة لتمييز الورم الخبيث عن الحميد من خلال التصوير دون الحاجة للتدخل الجراحي.
لم يقف محل ولادة زرهوني عائقًا أمام حبه للعلم، ولادته كانت في قرية صغيرة تسمى ندرومة بولاية تلمسان غرب الجزائر عام 1951، والده محمد الزرهوني كان معلمًا للرياضيات محبًا للعلم، دائمًا ما كان يقول لابنائه السبع: “كل حياتك تنبني على العلم”.
أثر ذلك كثيرًا في نشأة زرهوني الذي يؤمن أن حياة الإنسان معتمدة على اللبنات الأولى من المبادئ والقيم التي يؤسسها الأهل في طفولة الإنسان وتنعكس بشكل واضح على مسيرة حياته.
انتقلت عائلة زرهوني إلى العاصمة، ليكبر ويستكمل تعليمه فيها وتخرج طبيبًا في جامعة الجزائر عام 1975.
حاول زرهوني أن يوسع آفاق العلم، وبدأ يفكر في السفر وكان لنوع وقوة العلاقة التي تربطه بعائلته والأعراف الاجتماعية لبلده الجزائر الأثر في تحديد وجهته، فوضعت له أسرته شرطين لتأييد سفره أولهما الزواج وثانيهما أن لا يسافر إلى فرنسا وهذا أمر واضح، فهو من أسرة قاومت الاحتلال الفرنسي وعانت من ويلات وتبعات الاستعمار وبالتالي من الصعب جدًا تقبل فكرة السفر إلى المستعمر.
بعد مشورة أحد أساتذته استقر الرأي بالسفر للدراسة في أمريكا بعد زواجه من زميلته طبيبة الأطفال نادية عزة ليبدأ رحلة الدراسة والغربة.
عند وصول الزرهوني إلى أمريكا كان بالكاد يستطيع التحدث بالإنجليزية، ورغم ذلك التحق بكلية الطب في جامعة جونز هوبكنز (تأسست عام 1876 في ولاية ميريلاند وتعتبر من أرقى الجامعات وخرّجت قامات عالمية معروفة بالعلم والابتكار، ولحد عام 2019 هناك 39 خريجًا فيها حصلوا على جائزة نوبل في مجالات مختلفة) كمقيم في قسم الأشعة التصويرية ثم ليصبح رئيسًا للمقيمين فيها، خلال هذه الفترة لم يكن التصوير الشعاعي بالشكل الذي هو عليه اليوم.
أجرى زرهوني بحثًا عن إمكانية الكشف وتمييز الورم السرطاني عن غيره عن طريق التصوير الشعاعي دون اللجوء إلى العمليات الجراحية عن طريق تحديد نسبة الكالسيوم في الأنسجة الحية (النسيج الخبيث يحوي نسبة كالسيوم أقل)، حيث كانت تجرى عملية استئصال للورم ومن ثم اكتشاف نوعه بعد الجراحة، لكن ابتكار زرهوني جنب آلاف المرضى حول العالم عمليات جراحية لا داعي لها وسجل براءة اختراع في ذلك، وبذلك عُرف في الوسط العلمي الغربي ذاك الشاب المهاجر المتقد الذكاء.
استمر زرهوني بكسب المواقع الوظيفية الرفيعة، حيث أصبح رئيسًا لقسم الأشعة في جامعة جونز هوبكنز عام 1992
لم يكن للزرهوني نية في ترك الجزائر والاستقرار في أمريكا، كان هدفه الحصول على الدكتوراه والعودة إلى بلده ليهدي ثمرة جهده وعلمه إلى الجزائر، بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة جونز هوبكنز، عاد الزرهوني إلى الجزائر لكن بلاده لم تأبه به، فعاد بمرارة إلى أمريكا ليكمل شق طريق المجد.
انتقل زرهوني للعمل كنائب لرئيس قسم الأشعة بكلية طب فرجينيا الشرقية، واستمر بإجراء البحوث وتطوير تقنيات التصوير الشعاعي حيث أصبح رائدا في مجال التصوير بالـCAT scanning وMRI بعد أن درس علمي الرياضيات والفيزياء ليساعدانه بشكل أفضل في تطوير أبحاثه، ليصل إلى مرتبة تمكنه من وضع أسس للتشخيص يتبعها أخصائيو التصوير الشعاعي من بعده، حيث وضع نظام أسس مرجعية للتصوير Computerized Imaging Reference Systems CIRS عام 1982.
عاد إلياس زرهوني إلى جونز هوبكنز عام 1985 ليرأس قسم التصوير بالرنين المغناطيسي الجديد، وهو في مقتبل الثلاثينيات استطاع اختراع طريقة مذهلة لتصوير القلب بالرنين المغناطيسي، وطور طريقة جديدة لكشف سرطان الثدي، وكان أول من استخدم التصوير لكشف ترقق العظام، واستطاع أن يغير كفاءة التصوير وكان أول من حول الصور إلى high defin. ثم ليترأس إدارة مركز Russell H. Morgan علوم الأشعة.
وبهذه الابتكارات رفع زرهوني من مستواه كعالم وطبيب ورائد ابتكارات، ما أهله ليصبح مستشارًا للبيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ومن بعدها مستشارًا لمنظمة الصحة العالمية الـWHO عام 1988.
استمر زرهوني بكسب المواقع الوظيفية الرفيعة، حيث أصبح رئيسًا لقسم الأشعة في جامعة جونز هوبكنز عام 1992، ثم النائب التنفيذي لعميد جونز هوبكنز عام 1996 وعميدًا للأبحاث وعميدًا للشؤون السريرية.
بالإضافة إلى التدرج الوظيفي الذي ارتقى به، ساهم زرهوني بتأسيس وإنشاء عدد من الشركات لخدمة الواقع الصحي الأمريكي، حيث أسس شركة Biopsies Corporation، وتلاها مساهمته في تأسيس American Radiology Services (خدمات الأشعة الأمريكية) التي أدارها حتى عام 2002، فضًَلا عن مساهمته بتأسيس Surgivision, Inc (شركة مختصة بالتداخل الجراحي الموجه بواسطة الرنين المغناطيسي) وساهم باختراعاتها.
من القرية إلى القمة
عند الحديث عن الـNIH (معاهد الصحة الأمريكية التي ترأسها زرهوني عام 2002) فإننا نتحدث عن أرقى مؤسسة بحثية في العالم، بميزانية تعادل 41.7 مليار دولار سنويًا، تشمل 27 مركزًا بحثيًا وتوظف أكثر من 20.000 موظف من بينهم 6000 عالم وباحث.
اختيار رئيس لهذه المؤسسة البحثية الضخمة والمعقدة ليس بالأمر الهين، حيث تبحث لجنة عن 3 مرشحين يتقدمهم الرئيس الأمريكي ليختار منهم من يرأس الـNIH.
كانت الظروف في الفترة التي تم ترشيح إلياس زرهوني فيها لا تسير في صالحه، حيث تم ترشيحه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الفترة التي كان فيها خطاب الكراهية الموجه ضد المهاجرين من أصول عربية ومسلمة في أوجه، اضف إلى ذلك تقنين ميزانية الـNIH في تلك الفترة ومنافسة قوية مع المرشحين الاثنين.
كان على الرئيس الأمريكي أن يختار رجلًا استثنائيًا ليدير هذه المؤسسة في تلك الفترة الحرجة، رأى في زرهوني الإصلاحي المعروف بين زملائه أنه يستطيع حل أي مشكلة تواجهه بينما لا يرى غيره إلا العقبات.
كان زرهوني مترددًا وخائفًا من المنصب أكثر من فرحه بقبوله للوظيفة العلمية رقم 1 في أمريكا والعالم أجمع، لكنه يقول إن ما دفعه لقبول هذه الوظيفة أمرين: الأول أنه يشعر بالامتنان لأمريكا البلد الذي أتاح له الفرصة وأفضل طريقة بنظره لرد الجميل هو خدمة المجتمع من منصبه هذا، والأمر الثاني الذي دفعه للقبول هو أطفاله ليعطيهم مثالًا عن إمكانية النجاح في المجتمع مهما كانت الظروف وخصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر، فرأى زرهوني أنها فرصة ليثبت للمجتمع الأمريكي أن في العالم أجمع هناك التفاح الجيد والتفاح السيئ.
زرهوني الذي ترك بصمته في الطب وغير وجه التشخيص للأبد استطاع ترك بصمته في أثناء ترؤسه للـNIH ويغير وجه ممارسة العلوم والأبحاث للأبد.
خلال الفترة 2002-2008 التي ترأس فيها زرهوني معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، استطاع إثبات مقدرة فذة ليس فقط في مجال الطب واختصاصه بالتصوير الشعاعي، لكنه أثبت قدرات إدارية هائلة بالخطوات التي اتبعها لإصلاح تلك المؤسسة الضخمة والمعقدة.
في حديث له ذكر الخطوات التي اتبعها في الإدارة والإصلاح فقال: “الإصلاح كان يعني أولًا ضرورة تغيير طريقة المعهد في دراسة العلوم، ثانيًا ضرورة إيجاد نظام قادر على خلق تخصصات جديدة في علوم الكمبيوتر وعلم الجينات والطب السريري ثم وضع العلوم الفيزيائية أي الرياضيات والفيزياء في خدمة علم الطب وتدريب العلماء الشباب الجدد في أمريكا لأن العلماء في أمريكا أصبحوا متقدمين في السن، لذلك فقد وضعت هذا البرنامج للعقول الشابة وقد كان برنامجًا ناجحًا جدًا ولأنه كان ناجحًا جدًا فقد اقترحت سن قانون جديد، قانون إصلاحي، ومرره الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء وكان ذلك عام 2006، وكان الناس يعتقدون أن من المستحيل تمرير القانون الجديد في أمريكا، فآخر قانون إصلاحي تم تمريره كان عام 1944 والقانون الإصلاحي الثاني فقط هو الذي غير الطريقة التي نمارس بها العلوم في أمريكا”.
بهذه العقلية الفذة تمكن زرهوني من إكمال مهمته بنجاح بكل المقاييس وخير وصف لذلك ما قاله أحد زملائه “أنه ترك الـNIH بشكل أفضل مما تسلمها”.
بعد الإصلاحات التي أجراها داخل أكبر مؤسسة بحثية بالعالم، ووضع أسس جديدة أضاءت الطريق للباحثين والعلماء لممارسة العلوم وتطوير الأبحاث ومنح الفرص للعقول الشابة المتقدة، ترك زرهوني معاهد الصحة الوطنية عام 2008 ليبدأ رحلة جديدة ليست بعيدة عن شغفه بالعلم، حيث ترأس إدارة وتطوير الأبحاث في شركة الأدوية الفرنسية سانوفي، حيث قاد فريقًا من العلماء والباحثين في سبيل تطوير اللقاحات والعقاقير التي تساعد ملايين الناس وتنقذ ملايين الأطفال من المرض.
رسالته للشباب
يعتبر زرهوني العلم لغة عالمية وينظر إليه على أنه عالمي وشامل، لذلك أصبح من أوائل مبعوثي العلوم الرئاسية لتعزيز العلوم والتكنولوجيا في عهد أوباما إلى بلدان العالم، وبذلك زار العديد من الدول العربية ووجد العديد من العقول والكفاءات المنطوية في بلادها التي تحتاج برأيه إلى مد الجسور والمساهمة التي تصنع التغيير.
يوجه زرهوني رسالة للعقول العربية، بأنها عقول لا ينقصها الذكاء لكنها تعاني من حالة فقدان للهوية وقلة تقدير للذات، يقول إن اليوم الأول الذي تسلم فيه منصبه كمدير لمعاهد الصحة الوطنية، أخذوه في زيارة للمكتبة الوطنية الأولى التي تضم أقدم كتاب لديهم في الطب وتبين لزرهوني أن الكتاب ما هو إلا مؤلف باللغة العربية للرازي.
يرى زرهوني أن لإحداث نهضة علمية في بلداننا، لا بد من البدء بالطفل والاهتمام بالتعليم الذي يراه مستهلكًا.
موقفه من وباء كورونا
“يجب أن نتعلم من هذه الأزمة وأن نتعاون ولا نعيد الأخطاء” بهذه الكلمات القليلة والواضحة اختزل زرهوني رسالته التي وجهها للعالم لكي يخرج من تجربة كورونا القاسية بالدرس الذي يجعل البشرية على استعداد لمواجهة أي وباء جديد.
ويعزي سبب تفشي كورونا في العالم إلى افتقار العالم أجمع إلى نظام ومراقبة أخطار عن الوباء بشكل فعال، ويقول إن العالم لم يتعلم من المحن الماضية التي مرت عليه أيام إيبولا وميرس وسارس وهذه الفرصة الوحيدة اليوم إذا لم تستغلها بلدان العالم لن تنجح مرة ثانية في مواجهة الأوبئة.
رحلة زرهوني المشرفة لما يقارب الـ40 عامًا من البحث والجهد المتواصل أوصلته لثماني براءات اختراع وأكثر من 200 بحث علمي وترأس خلال هذه الفترة عشرات الآلاف من العلماء والباحثين الذين ترك فيهم الأثر الطيب، ونال العديد من التكريمات خلال هذه المسيرة، حيث حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة الجزائر عام 2005 ووسام جوقة الشرف الفرنسي عام 2008 وحصل على درجة فخرية من جامعة جونز هوبكنز عام 2010 وأصبح عضوًا بالأكاديمية التونسية للآداب والفنون وعضوًا بالـNational Research Council، وزميل في مؤسسة بيل وميليندا غيتس.
اليوم يضع زرهوني خلاصة تجربته تحت تصرف بلاده ويطمح أن يرفد الشباب بالدعم والخبرة التي حصل عليها، وينظر له الملايين من الشباب كمثال لامع يقتدى به.