حكاية اليوم استثنائية بكل المقاييس، لها الجانب القاسي وجانب يمنح الأمل، وكأنها حكاية مختصرة عن الحياة عندما تضعك أمام الاختبار الأصعب لتمنحك بعدها الفرصة الأعظم.
البروفيسور منجد المدرس، أسطورة جراحة العظام والكسور، الأستاذ بكلية الطب جامعة نوتردام بأستراليا، العراقي الذي أعطى للعالم أجمع مثالًا على الإرادة عندما تقف بوجه المصاعب لتصنع المعجزات، والعيش في بلاد الحرب والموت التي تصنع إنسانًا يهب الأمل والحياة.
الميلاد والنشأة
المدرس مواليد بغداد 1972، منحدر من أسرة أرستقراطية مثقفة محبة للعلم، والده كان قاضيًا بالمحكمة العليا ووالدته مديرة مدرسة عانت من التمييز إبان حكم نظام البعث للعراق بسبب رفضها الانتماء للحزب.
تخرج في كلية بغداد عام 1991 (من أشهر وأعرق المدارس الثانوية بالعراق، أسسها اليسوعيون الأمريكيون عام 1932 وضمت المتفوقين وأبناء النخبة، وخرجت العديد من الشخصيات العراقية المشهورة كرؤساء الوزراء والعلماء وعمداء الجامعات وسفراء العراق لدى الأمم المتحدة وغيرهم من الشخصيات العراقية المعروفة)، ثم التحق بكلية الطب جامعة بغداد ليتخرج فيها عام 1997.
بدأ الاختبار الأول لإنسانية المدرس في أثناء فترة تدريبه كطبيب مقيم، كان يومًا عاديًا من أيام عام 1999 تغيرت فيه حياة المدرس للأبد، عندما أُحضر للمستشفى التي يعمل بها مجموعة من الجنود العراقيين لتقطيع آذانهم (قطع صيوان الأذن كانت عقوبة الجنود الفارين من الخدمة العسكرية في أثناء حكم حزب البعث للعراق بقيادة صدام حسين)، حيث وضع المدرس أمام خيارين: إما خيانته لمبادئه وإطاعة الأوامر بقطع الآذان بوحشية وإما يلقى مصير زميله الذي رفض فتلقى رصاصة بالرأس.
تلك اللحظة المرعبة التي عاشها المدرس قرر بعدها ترك العراق والهروب إلى المجهول، فاستطاع الفرار من العراق إلى الأردن ثم إلى ماليزيا ومنها إلى إندونيسيا، ليبدأ طبيب الأمس – الذي تهاوت أحلامه بأن يصبح جراحًا – رحلته على قارب متهاوٍ يشاركه فيه 150 شخصًا نحو جزيرة كريسماس (تقع في المحيط الهندي على بعد 500 كيلومتر من إندونيسيا، تعتبر وجهة لطالبي اللجوء).
عند وصوله إلى البر الأسترالي تحول منجد إلى مجرد رقم “982” مختوم على ذراع في مخيم كيرتن سيئ السمعة (في كيمبرلي، غرب أستراليا).
يذكر المدرس أيام اللجوء والوضع اللاإنساني الذي يعيشه اللاجئون والإجراءات التعسفية من ضرب وبصق وتحرش وإهانات في سيرته الذاتية “WALKING FREE” (صورة)، ويصفها العيش في المخيمات بالـ”الجحيم”.
خارج أسوار المخيم، لم يكن الطريق معبدًا بالورود، لكنه يقول إنه تربى على أن ينظر للجزء الممتلئ من الزجاجة “مفهومي عن عجلة الحظ التي ترمز إلى طبيعة ديناميكية الحياة، موضعك في هذه العجلة يتغير تبعًا لعدة أمور ولكن تعلمت أن محركها الأساس هو ذاتك”.
حاول المدرس إيجاد فرصة عمل ولم يجد غير تنظيف المراحيض، رغم ذلك لم يتسلل اليأس إليه، ليبدأ بعدها مشوار ترخيص مزاولة الطب في أستراليا والعمل في مستشفى قاعدة ميلدورا كمقيم في جراحة العظام، ثم ينتقل للعمل إلى مستشفى ولونجونج، حيث أمضى عامًا كطبيب عظام غير معتمد يتبعه عام آخر في مستشفى كانبيرا.
يقترب المدرس من الحلم، رغم العقبات والتمييز الذي لاقاه كونه لاجئًا، لكن في عام 2004 استطاع الالتحاق ببرنامج تدريبي لزمالة جراحة العظام والكسور في نيو ساوث ويلز ليكملها ويحصل على لقب (FRACS (Orth عام 2008، ثم يحصل بعدها على ثلاث زمالات ما بعد التخصص من (زمالة في تقويم مفاصل الأطراف السفلية في مستشفى سيدني، زمالة جراحة مفصل الورك والركبة من برلين – وزمالة الإصابات ببرلين).
على ناصية الحلم
تأثر المهندس بواقع الحروب التي شهدها العراق، فمنظر الأشخاص الذين فقدوا أطرافهم ومن بعدها فقدانهم الحياة التي كانوا يطمحون عيشها طالما أرقت المدرس، يقول المدرس إنه لطالما كان معجبًا منذ طفولته بفكرة الأطراف الصناعية الذكية، عندما كان طفلًا في الـ12 من عمره أدهشته فكرة الإنسان نصف البشري ونصف الروبوت في فيلم الـTERMINATOR.
ربما للبعض كالمدرس يكفي إيمانك بفكرة لتجعلها حقيقة، اليوم يعتبر المدرس واحدًا من أصل ثلاثة جراحين حول العالم رائدين في تكنولوجيا osseointegration (تتضمن هذه الجراحة المتطورة إدخال الطرف الصناعي المشابه لحد كبير الشكل التشريحي الطبيعي بغرسه داخل العظم بحيث تنمو العظام والعضلات حول التيتانيوم ليندمج بشكل سريع وآمن).
طور المدرس الجيل الجديد من الأطراف الاصطناعية المزروعة بالعظام التي توفر قدرًا أكبر من الحركة والراحة، يقول المدرس: “ما يجعلني أفعل ذلك، أنني جئت من منطقة مزقتها الحرب حيث كان الناس يفقدون أطرافهم بانتظام، بالنسبة للبعض، هذا أسوأ من الموت، لأنه يغير حياتهم بشكل أساسي”.
يحاول المدرس اليوم أن يهب الحياة لفاقدي الأطراف، حيث زار العراق مرات عديدة لإجراء العمليات لفاقدي الأطراف من القوات الأمنية والمدنيين، وتحدث عن زيارته للعراق وكم المآسي التي يعيشها الناس في العراق في كتابه الثاني going back، كما زار رام الله وعدد من العواصم العربية لمساعدة المتضررين من الحروب .
بفضل الثورة التي أحدثها المدرس في مجال تطوير الأطراف الروبوتية، أصبحت أستراليا رائدة العالم في هذا المجال، فيقصدها الأطباء من كل العالم ليتدربوا على هذه الجراحة المتطورة، الأمر الذي استرعى اهتمام وإعجاب الأمير هاري الذي زار مستشفى ماكواير الجامعي حيث يعمل المدرس ليرى الجندي البريطاني الذي فقد ساقيه في حرب أفغانستان وأعاد له المدرس قدرته على المشي مرة أخرى.
لم يتوقف طموح المدرس عند هذا الحد، فيعمل اليوم مع فريقه البحثي في مستشفى ماكواير لتطوير الإحساس بالأطراف الروبوتية بأن تنقل الشعور بطريقة تحاكي إحساس الأطراف الحقيقية، بالإضافة إلى إسهاماته في مجال الطب، فإن المدرس ينشط في مجال حقوق الإنسان ودعم اللاجئين.
“أنا أومن بأن كل إنسان له مهمة بهذه الحياة، مهمتي أن أساعد الآخرين وأجعل الأمور تسير بشكل أفضل”.
حيث ساهم في تأسيس Asylum Seekers Centre “مركز طالبي اللجوء” وهي مؤسسة غير ربحية لدعم اللاجئين وطالبي اللجوء بتقديم الاستشارات والإعانات التي يتم جمعها من حملات التبرع والدعم الحكومي في بعض الأحيان، كما ساهم في حملة i came by boat التي تهدف إلى تسليط الضوء على معاناة طالبي اللجوء من خلال نشر قصص اللاجئين الذين نجحوا في خلق قصص نجاحهم في المجتمع الأسترالي.
رحلة اللجوء التي عايشها المدرس وتجربة مخيم كيرتن الذي يصفه بالجحيم على وجه الأرض جعلته مدافعًا قويًا عن حقوق اللاجئين، حيث يحاول تغيير السياسات المتبعة في المخيمات (من حيث المدة المجهولة التي يقضيها اللاجئ لحين قبول طلبه، إلى معارضته لاحتجاز الأطفال في المخيمات دون تقديم الدعم النفسي وإيجاد فرص تعليم لهم).
وبذلك نرى المدرس يساهم في حملات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين UNHCR، ويلقي الخطابات الملهمة حول العالم في العديد من المحافل كونه سفيرًا للصليب الأحمر الأسترالي، والمتحدث في TEDXSydney عن حكاية لجوئه التي تدعم قضية اللاجئين.
ونظرًا للخدمات الإنسانية التي أسهم بها منجد المدرس، فقد تم اختياره أسترالي العام 2020 بولاية نيو ساوث ويلز.
يعيش المدرس اليوم في أستراليا، ويؤمن بأن هذه الحياة قصيرة وأن لكل إنسان القدرة على صناعة المستقبل والحياة التي يريد، مؤمنًا بأن الإنسان لا بد له أن يترك الأثر الجميل معرفة يسير على خطاها الناس أو عمل خير ينتفع به الناس من بعده ممتن للحظات السعادة التي يعيشها عند مساعدته للآخرين.