نولد في بلدان دون سبق اختيار، ثم تتشرب أرواحنا ملح الأرض وتغدو الأرض ليست مجرد المكان المدون في شهادة الميلاد بل الهوية والوطن والروح التي تسكننا أينما حللنا وارتحلنا، لكن ماذا لو ولدنا بعيدًا عنها؟ هل تلغي المسافات ذلك الارتباط؟ وهل يضعف الانتماء بالتقادم؟
حكاية اليوم ذات شجون تحكي عن القدر الذي يختار لبطلنا الشتات في أصقاع الأرض لكنه يحمل اسم وطنه في ترحاله، وعن النفوس الكبيرة التي لا تعرف الانكسار مهما صعُب الطريق.
اليوم نروي سيرة عالم جليل عُرف بأبي الوراثة العربية، الطبيب الفلسطيني أحمد سعيد الطيبي رحمه الله، الذي أرسى الأساس لعلم الأمراض الوراثية في الوطن العربي واكتشف العديد من المورثات المسببة للمرض.
ولد أحمد سعيد الطيبي في لبنان عام 1949 بعد أن اضطر والده لترك يافا عقب الاحتلال الإسرائيلي، ولأن فرص العمل كانت صعبة لوالده؛ انتقلوا إلى سوريا وعاشت عائلة الطيبي حياة الفقر في قرية بسيطة من قرى مدينة حماة حيث كان يصعب على الوالد حتى شراء الحليب لطفله البكر أحمد.
يافا عام 1948
انتقلت العائلة بعدها إلى الكويت، هناك لم تكن الظروف أفضل، فقد عاش أحمد الطيبي في بيت متواضع يفتقر إلى أبسط الاحتياجات، ورغم حرارة الجو في الخليج لم يكن البيت مجهزًا حتى بمروحة، لكن صعوبة الحياة لم تثن أحمد عن السعي للعلم، فهو سليل عائلة محبة بالعلم، جده كان أحد شيوخ يافا المعروفين ووالده درس في الأزهر وأحمد الطفل درج على حب العمل والسعي لأجله، كان الفانوس هو رفيق الدراسة لعدم توافر الكهرباء في البيت.
الكويت بين 1950-1960
كان أحمد الطيبي مولعًا بالأدب والرسم، وعندما أكمل تعليمه الثانوي كان على مفترق للطرق بين رغبته بدراسة الأدب والفن ورغبة الأهل بأن يصبح طبيبًا.
اختار مشوار الطب وسافر إلى القاهرة لدراسته، ورغم ظروف النكبة التي عاشتها مصر وما تلاها، أكمل الطيبي دراسته الجامعية ثم عاد إلى الكويت ليعمل متدربًا في مستشفى آل صباح.
طموح الطيبي الكبير دفعه للسفر إلى أيرلندا ليحصل على دبلوم في طب الأطفال، ثم انتقل إلى بريطانيا ليحصل على ماجستير في الطب الوراثي ثم الدكتوراه.
عاد الطيبي إلى الكويت مرة ثانية للعمل فيها، لكن قدر السفر والهجرة الذي كُتب عليه كان له القول الفصل، فبعد حصول الطيبي على جائزة الكويت للتقدم العلمي (جائزة مقدمة من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي تهدف إلى دعم وتشجيع البحث العلمي في الكويت والوطن العربي)، سافر وعائلته إلى أمريكا في رحلة عائلية، لكن حرب الخليج غير المتوقعة حرمته من منزله وكل ما يملك، ولم يعد بمقدوره العودة وكان عليه أن يواجه هذا القدر بالثبات والبدء من جديد مرة تلو المرة دون أن يعرف اليأس له طريقًا.
الطيبي الأب لأربعة أطفال في ذلك الوقت كان عليه إيجاد عمل لتلبية احتياجات عائلته، لكن دراسته الأكاديمية أهلته للعمل في البلدان العربية والأوروبية، لذلك بدأ رحلة أخرى بالعمل كمتدرب في جامعة ييل ليكمل تدريبه خلال ثلاث سنوات.
انتقل الطيبي للعمل في جامعة ماك جيل بمقاطعة مونتريال – كندا التي تتحدث الفرنسية، لكن صعوبة اللغة والاندماج فيها جعلته يبدأ رحلة أخرى لينتقل إلى تورنتو.
في تورنتو عُيّن البروفيسور الدكتور أحمد الطيبي رئيس قسم الوراثة والتشوهات في مستشفى الأطفال، وخلال سنوات عمله في طب الأطفال لفت انتباه الطيبي التشوهات الولادية وعلاقتها بالوراثة، ما دفعه للبحث عن الجينات المسببة لتلك الأمراض والتشوهات.
خلال سنوات دراسته واطلاعه على المراجع العلمية الطبية، وجد الطيبي اهتمام علماء الوراثة بالأمراض الوراثية في مختلف الأجناس لكن لم يهتم أحد على الإطلاق بالأمراض الوراثية عند العرب، الأمر الذي أحزنه كثيرًا لتهميش العرب وعدم اهتمام الآخرين بهم، هذا ما دفعه بشكل خاص لفكرة البحث والتحري عن الأمراض الوراثية عند العرب لا سيما أن أغلب المجتمعات العربية ينتشر بها زواج الأقارب الذي يؤثر بشكل كبير على ظهور الصفات المتنحية والأمراض الوراثية.
النقلة التي أحدثها البروفيسور أحمد سعيد الطيبي كانت بتأسيسه لعلم الوراثة العربي، حيث قام بعدة خطوات لينقل ريادته في مجال الوراثة من المجهود والعمل الفردي إلى العمل المؤسساتي والمجهود الجماعي الذي يعود بالنفع على المجتمع العربي ككل.
أول ما فعله الطيبي هو تأسيسه للجمعية الأمريكية الشرق الأوسطية لأطباء الوراثة لتضم جميع المهتمين بالإسهام والبحث عن الأمراض الوراثية عند العرب، ثم تلاها بخطوة عظيمة بوضعه قاعدة للبيانات والمعلوماتية عن الأمراض الوراثية عند العرب، وبذلك استطاع أن يرسي حجر الأساس للباحثين من بعده في هذا المجال.
بعد وضعه الأسس، لفت أنظار المهتمين بعلم الوراثة إلى السكان العرب وأمراضهم الوراثية بتحريره كتاب “الاضطرابات الجينية عند السكان العرب” genetic disorders among arab populations، وهو أول كتاب مختص في الاضطرابات والأمراض الوراثية عند العرب ونشر عام 1997 من مطبعة أوكسفورد.
لم يكن يتوانى الطبيب الفلسطيني أحمد سعيد الطيبي عن مساعدة الناس والاهتمام بأمورهم
استطاع الطيبي خلال مسيرة حياته اكتشاف أكثر من 35 متلازمًا جينيًا (ذي صلة بمعرفة الاستعداد الوراثي للأمراض) ونشر أكثر من 200 بحث في مجال الوراثة (منها دراسة عن مورثات التوحد وتشوهات الحبل الشوكي وأبحاث عن الاختلالات الجينية عند العرب وأبحاث عن التشوهات الخلقية في الأطفال وأبحاث متعددة عن المتلازمات النادرة وأبحاث عن متلازمات جديدة تظهر عند العرب وأبحاث عن فرط الحركة وقلة النشاط في الزواجات المتداخلة وغيرها العديد).
الطيبي الذي كان خبيرًا في علم الأمساخ بالجامعة الأمريكية للاجتماعات الوراثية البشرية وعضوًا في مجلس إدارة وتحرير المجلات العالمية المتخصصة بالوراثة والحاصل على جائزة المؤسسة الأوروبية للعلوم عام 2001، حاول بكل جهد أن ينقل معرفته عن طريق تدريب العديد من الطلاب والباحثين العرب في مجال الوراثة، كما وضع قواعد بيانات للأمراض الوراثية في عدد من البلدان العربية مثل السعودية والكويت وقطر والأردن وتونس والأراضي الفلسطينية.
وخلاف تخصصه العلمي، عُرف عن أحمد الطيبي شغفه بالأدب وموهبته بالرسم، كما أن غربته عن بلاده وحياته التي قضاها في الشتات لم تستطع أن تقطع جذوره، حيث ساهم في تأسيس العديد من المدارس المختصة بتعليم اللغة العربية والعلوم الإسلامية للجالية العربية والمسلمة في مونتريال بكندا.
رحل أحمد الطيبي العالم المتواضع الذي لم يكن يتوانى عن مساعدة الناس والاهتمام بأمورهم، عام 2010 في تورنتو بعد صراع مع مرض السرطان، ليترك للبشرية إرثًا قيمًا من العلم والأبحاث، ويترك للشباب درسًا كبيرًا عن الاجتهاد وقوة الإنسان عندما ينهض بقوة أكبر بعد كل ظرف قاسٍ يمر عليه.