لم تشهد مصر في تاريخها -ربما- قانونًا مثيرًا للجدل كقانون التصالح في مخالفات البناء الذي تم إقراره بصورة رسمية يناير الماضي، ويتم تطبيقه حاليًّا، وتحول إلى “متاهة” و”كابوس” يؤرق مضاجع الملايين من المصريين الخاضعين لهذا القانون الفضفاض.
القانون الذي يحمل رقم 17 لسنة 2019 والمعدل يناير 2020 رغم استغراقه قرابة 4 سنوات كاملة من الدراسة، فإنه خرج محاطًا بالغموض، في ظل تباين التفسيرات والتأويلات المتعلقة ببنوده، التي تتضارب فيها الآراء حتى بين مسؤولي الجهة الواحدة، وهو ما أثار حالة من الفوضى لدى قطاع كبير من المواطنين.
الحكومة تعول على هذا الإجراء في جمع مئات المليارات من المصريين قيمة للتصالح على وحداتهم العقارية، مستخدمة في ذلك كل أشكال الترهيب والترغيب في آن واحد، مسخرة آلتها الإعلامية والتنفيذية لحث المواطنين على التقدم للتصالح حتى ولو لم تصدر اللائحة التنفيذية النهائية ودون تشكيل اللجان المعنية بإتمام الإجراءات.
ورغم عدم وجود إحصاء رسمي لعدد البنايات المخالفة في مصر، فإن بعض الخبراء ذهبوا إلى أن العدد يتجاوز حاجز الـ3 ملايين و240 ألف عقار، معظمها تم خلال السنوات العشرة الأخيرة، وإن كان القانون ينسحب على العقارات التي بُنيت حتى قبل هذه الفترة.
الصور والمشاهد الملتقطة لوقائع هدم عقارات بدعوى أنها مخالفة، ألقت الرعب في نفوس الكثير من المصريين، خشية التعرض لنفس المصير حيث الشارع لا مأوى غيره، لكن في الوقت ذاته الغالبية العظمى منهم لا تملك المبالغ المقرة لـ”جدية التصالح”، فضلًا عن القيمة الإجمالية للغرامات التي تشهد مبالغة غير مسبوقة.
وعلى عكس عقارب ساعة المنطق، يأتي تنفيذ هذا القانون المثير للجدل في وقت تعاني فيه البلاد – كغيرها – من أزمات اقتصادية ومعيشية طاحنة بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد، تستوجب التخفيف عن الشعب لا إرهاقه بمزيد من الأعباء التي يراها البعض غير دستورية بالمرة.
وأمام هذه الوضعية الحرجة التي وجد المصريون فيها أنفسهم في مواجهة حكومة اعتادت فرض الجباية تعويضًا للعجز الذي تعاني منه ولو من جيوب محدودي ومتوسطي الدخل، طالب الشارع بالعدول عن هذا القانون الجائر أو تعديله بما يتلاءم مع ظروف الغالبية العظمى منهم، وبما يتناسب مع الوضع المعيشي المذري الذي ألقى بظلاله على الساحة العالمية منذ ديسمبر العام الماضي ولا أحد يعلم متى ينتهي.
المبالغة في الأرقام
القانون في صيغته الحاليّة ورغم عدم خروج لائحته التنفيذية النهائية للأضواء يتضمن بنودًا جدلية على مستوى القيمة المالية المحددة للغرامات المحددة للتصالح، حتى فيما يتعلق بالمبلغ المقرر دفعه “تحت الحساب” والمسمى “جدية التصالح” ضمانًا لمضي مقدم الطلب في مساره الكامل دون نكوص كما حدث في المرات السابقة.
مجلس الوزراء في بيانه الخاص بالقانون أشار إلى ضرورة “أن يسدد مبلغ جدية التصالح المحدد خلال ثلاثين يومًا اعتبارًا من 15 يوليو 2020” موضحًا أنه “تم الاتفاق على سداد المخالف 25% من قيمة التصالح على المساحة التي تقدم للتصالح بشأنها، بحد أقصى المبالغ المحددة قرين كل مخالفة”.
أما مبلغ الجدية نفسه فعليه الكثير من علامات الاستفهام وقد تم تحديده وفق عدد من المعايير الجغرافية والهندسية والفنية، منها كما ورد في نص القانون “دفع مبلغ جدية تصالح لمخالفات الرسومات المعمارية الإنشائية بقيمة 20 ألف جنيه للمدن، و5 آلاف جنيه للقرى، 40 ألف جنيه للمدن، و10 آلاف جنيه للقرى لمخالفات الردود، كما يشمل ذلك مبلغ جدية تصالح مخالفات الزيادة في سطح غرف السطح، بقيمة 50 ألف جنيه جدية التصالح للمدن، و12 ألف جنيه للقرى، إضافة إلى تحديد قيمة مبلغ الجدية لمخالفات بناء دور السطح بقيمة 80 ألف جنيه للمدن، و20 ألف جنيه للقرى، كما وافق المجلس على تحديد جدية التصالح لمخالفات البناء بدون ترخيص بقيمة 250 ألف جنيه لعواصم المحافظات والمدن الجديدة، و160 ألف جنيه للمدن، و40 ألف جنيه للقرى، إلى جانب تحديد مبلغ جدية التصالح لمخالفات تحويل البدروم إلى نشاط غير مرخص به بقيمة 120 ألف جنيه للمدن، و 30 ألف جنيه للقرى”.
هذه المبالغ الأولية وما تلاها من تفصيل للغرامة المتوقعة على كل عقار حسب عدد المساحة والنطاق الجغرافي، أثارت سخرية بكائية لدى كثير من الواقعين تحت طائلة هذا القانون، فكيف لمواطن لديه بيت خاص به ربما يكون طابق واحد يتساوى مع آخر لديه برج عقاري يتجاوز عشرات الشقق والوحدات، كلاهما أمام القانون سواء فيما يتعلق بجدية التصالح، هذا بخلاف التفاوت الواضح في تسعير المتر الذي يتهم المواطنون الحكومة بالمبالغة فيه بصورة بعيدة تمامًا عن المنطق فضلًا عن الواقع المعاش.
شكوك بشأن الدستورية
شبهة عدم الدستورية تحيط بالقانون الجديد من أكثر من اتجاه، وعليه تم رفع أكثر من قضية أمام القضاء الإداري والمستعجل والمحكمة الدستورية ببطلانه قانونًا، وإن كان من الصعب الحكم بعدم الدستورية في ظل إصرار الدولة على المضي قدمًا في تنفيذه إلا أن الكثير من الشكوك تغلفه رأسًا على عقب.
مدير منظمة اتحاد المحامين للدراسات القانونية والديمقراطية، شادي طلعت، يرى أن هذا القانون جاء بالمخالفة مع قوانين أخرى تتعارض معه، مستشهدًا على ذلك بالقانون الصادر قبل عام ونصف تقريبًا بشأن إلزام المالك بطلاء العقار، ما يعني أن المالك هو المسؤول وهو على عكس القانون الصادر حاليًّا.
وأضاف طلعت في تصريحات لصحيفة “الوطن” المصرية “لا يجوز إصدار قانون يخالف قوانين أخرى، لا يجوز إصدار قانون يقنن المخالفات، كأن لا يمكن تقنين جرائم القتل، كان فيه إجراءات كثيرة ممكن من خلالها الدولة تسيطر على هذه المخالفات منها نزع ملكية العقارات المخالفة، وفرض جزء صغير على المالك”.
من جانبه تقدم البرلماني خالد صالح أبو زهاد، عضو مجلس النواب عن دائرة جهينة بسوهاج (جنوب)، ببيان عاجل لرئيس البرلمان ضد رئيس الحكومة ووزير المالية بشأن مبلغ جدية التصالح الذي فرض أخيرًا، مؤكدا أنه “غير قانوني وغير دستوري”.
النائب في بيانه المقدم أوضح أن القانون سواء في صيغته القديمة أم المعدلة بداية هذا العام لم يكن يشمل ما تطالب الحكومة به الآن من جدية التصالح، وإنما حدد توقيت دفع مبلغ التصالح بعد موافقة اللجنة التي تقوم بمعاينة العقارات التي تقدمت للتصالح إلى المحليات، وعليها يدفع صاحب الطلب ربع المبلغ المستحق عليه للدولة والباقي على أقساط على ثلاث سنوات، وهو ما يعني أن التنفيذ الحاليّ غير دستوري ولا علاقة له بالقانون الممرر تشريعيًا.
متاهة من الغموض
البلبلة التي أحدثها تفسير القانون تأتي بسبب عدم ظهور اللائحة التنفيذية له، ما جعل الاجتهاد اللغة الرسمية للتأويل والتعاطي معه، ما أحدث حيرة كاملة للمواطن الذي ما عاد يدري على أي من الأشخاص تقع المسؤولية، على مالك العقار مرتكب المخالفة أم الساكن فيه.
ورغم الاعتراضات الشعبية الكبيرة والمناشدات اليومية لإزالة اللبس عند الناس، فإن المسؤولين أنفسهم تحولوا إلى مصدر قلق وحيرة للمواطنين، حيث يخرج المسؤول بين الحين والآخر على إحدى القنوات الفضائية ليدلي برأي معين في تفسير القانون، وفي الوقت ذاته يكون مسؤول آخر ينتمي لنفس الجهة “وزارة التنمية المحلية” على قناة فضائية أخرى يدلي بتصريح مناقض، وفي المجمل انقسمت الآراء بشأن تفسير القانون إلى 3 سيناريوهات.
الأول: يرى أن المسؤولية الجنائية والإدارية للمخالفات تقع على مالك العقار، والمقاول الذي قام بالبناء، مستندًا في هذه الرؤية إلى عدم دستورية وقوع المخالفة على الساكن أو مالك الوحدة لأنه لم يرتكب الخطأ، وعليه تكون الجريمة على المالك الأصلي وعلى السكان تقديم بلاغات ضده في النيابة العامة لتبرئة ساحتهم من المخالفة.
الثاني: عكس السيناريو الأول، ويعتبر أن ساكن الوحدة العقارية ومالكها هو المسؤول الأول وعليه تقديم طلب التصالح، ووحده من يتحمل دفع الغرامات، وإلا ستكون العقوبة إما إزالة الوحدة وإما قطع المرافق عنها، أما المالك الأصلي للعقار فقد باع وهرب، والحكومة ليس أمامها إلا المنتفع الحاليّ من الوحدة.
الثالث: يمزج بين الاثنين، حيث يرى أن هناك مشاركة تضامنية بين المالك الأصلي وقاطن الوحدة، حيث تقع المسؤولية الجنائية على المالك سواء بالحبس أم الغرامة، أما دفع مبالغ التصالح فعلى الساكن الحاليّ للشقة، حتى لو لم يكن من ارتكب الخطأ.
التفسيرات الثلاث تذهب جميعها إلى أن الهدف الرئيسي هو جمع مبالغ التصالح، فالهدف هو الحصول على تلك الأموال، سواء كانت من المالك أم ساكن الوحدة، وهو ما أثار الريبة والشك في الدوافع الحقيقية لهذا القانون الذي تدعي الحكومة مساعيها لتقنين الأوضاع العقارية من خلاله، فيما تذهب المؤشرات إلى أن إنعاش خزانة الدولة هو المحرك الأول وربما يكون الأخير.
رفض شعبي
قطاع كبير من الشعب قابل القانون بالرفض التام، متهمًا إياه بعدم الدستورية، والحكومة بالاستمرار في عقيدتها فرض الجباية على المواطنين دون وجه حق، حيث شهدت منصات التواصل الاجتماعي زخمًا كبيرًا بالأصوات الرافضة والمنددة بهذا التحرك المثير للريبة.
#لا_لقانون_التصالح_معناش_فلوس… تحت هذا الهاشتاغ عبر آلاف المواطنين عن رفضهم الكامل لدفع أي مبالغ من أجل التصالح، لافتين أن المسؤولية أولًا وأخيرًا تقع على فساد المحليات والأجهزة التنفيذية التي سمحت بالبناء دون اعتراض.
ازاى أقنعة لما يكبر يقف ويدافع عن بلده ضد اى محتل وهو من صغرة بلده قايمة بدور المحتل مقتنع اللى كسرته بلده جواه مش ممكن يتصلح لا تسألون من أين يأتى الإرهاب وانتم تمارسونه وتصنعونه فى كل جيل #لا_لقانون_التصالح_معناش_فلوس pic.twitter.com/GZEgc3sl0x
— ̨ٵبﯜۥ ̨ﻻڔٻن?? ❤️ (@ABOU_LARIN) July 19, 2020
“ممكن أروح الجيش أحارب الإرهابين وأدافع عن مصر وعن شعب مصر وأرجع ألاقيهم هدوا بيتي؟”، هكذا عبر محمد الشريف عن صدمته من القانون الذي يراه غير دستوري نظرًا لتطبيقه بأثر رجعي بما يتعارض مع القانون، ليشاركه الرأي سعيد حسن الذي ألمح إلى تحمله الارتفاع الكبير في كل الخدمات، كهرباء ومياه وضرائب، وما عاد الشعب يتحمل المزيد من الأعباء، مضيفًا “ارحمونا إحنا فى نص الشهر مبلقيش نصرف”.
مش سوريا ولا العراق لأ دي مصر 2020 نتيجة قانون التصالح الظالم#لا_لقانون_التصالح_معناش_فلوس pic.twitter.com/n61qSyNf2P
— Bahaa (@bahaa_bahaa91) July 19, 2020
أما يحيى قرنفل فقد وجه استغاثة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جاء فيها “فخامة رئيس جمهورية مصر العربية – أتذكر عبارتكم التي أسعدت كل مواطن مصري (هذا الشعب لم يجد من يحنوا عليه) 17 مليون مواطن – يعني 17 مليون أسرة – لو كل أسرة بها (الزوج والزوجة وثلاثة أبناء فقط) سنكون ضعف هذا الرقم في 3.. هذا العدد من مواطنيك لم يجد من يحنوا عليه”.
فيما شككت منى شعير في دوافع الحكومة بشأن تطبيق هذا القانون في الوقت الراهن، لافتة إلى أن الهدف هو “الجباية” وجمع الأموال من الناس، متسائلة “لو كان الهدف فعلًا تقنين الأوضاع ومعالجة المخالفات فلماذا أدخلت الدولة كل المرافق لتلك البنايات رغم أنها مخالفة؟ ولماذا استحلت آلاف الجنيهات لإدخالها دون وجه حق؟ وأين كانت كل هذه السنوات الماضية حتى تستفيق من سباتها اليوم؟
لم تكن هذه المرة الأولى التي تلجأ فيها الحكومة المصرية لفرض الضرائب والرسوم على المواطنين، فقد اعتادت على مدار السنوات القليلة الماضية الاعتماد على جيب الشعب لسد ما تعاني منه من عجز في الموازنة وارتفاع في معدلات الإنفاق بسبب سياسة الاقتراض الخارجي الذي يتحمل المواطن وحده ثمنها، سواء الجيل الحاليّ أم الأجيال القادمة.
وزير المالية المصري، محمد معيط، في تصريحات له ديسمبر الماضي، قال حرفًا: “الضرائب تمثل 85% من إجمالي موارد الدولة، الأمر الذي يحتاج إلى تطوير بشكل مستمر”، لافتًا إلى المضي قدمًا في تعزيز هذه النسبة عبر برامج إعادة هيكلة خلال السنوات القادمة.
وقد حققت حصيلة الضرائب خلال العام المالي 2018/2019 نحو 613.8 مليار جنيه خلال الـ11 شهرًا الأولى من هذا العام، وسجلت حصيلة الضريبة على القيمة المضافة 310 مليارات جنيه بنسبة زيادة %19.7 عن نفس الفترة من العام المالي 2017/2018، وقيمة الزيادة 50.9 مليار جنيه.
صرخات مدوية تطلقها حناجر المتضررين، وعبرات ساخنة تكوي وجوه شاخت من أجل شراء مسكن يأويها من غدر الحياة وقسوتها، هذا في الوقت الذي تصر فيه الحكومة على تنفيذ قانون يعاني من شروخات دستورية ولا يراعي أي بعد إنساني، بينما يكافح المواطن لعبور الشهر دون أن يتورط في استدانة تثقل كاهله حتى الشهر الذي يليه.
أذان أُغلقت مسامعها، وضمائر غُيبت عمدًا، عن أنات الثكالى ووجع المقهورين، مشاهد إن لم تزلزل القانون فعلى الأقل تخاطب فيه روحه، ليبقى ما يزيد على 3 ملايين أسرة في انتظار مصيرهم المشرد، بينما ينعم المسؤولون عن تلك المخالفات في فللهم ومكاتبهم المكيفة ويتقاضون أجرًا ومكافآت على إزالتهم للمخالفات الذي هم في الأساس ركنًا أصيلًا فيها.