شهدت تركيا نموًا اقتصاديًا ملحوظًا على مدى العقدين الماضيين، لكن عدد النساء المشاركات في السوق لا يزال الأدنى بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، فمن عام 1955 إلى عام 2018 انخفض معدل مشاركة الإناث في القوى العاملة من 72% إلى نحو 35%، ولا يسعنا في هذه الحالة إلا تخيل حجم النجاح الذي كان من الممكن تحقيقه لو كانت نسبة النساء المنخرطات في العجلة الاقتصادية أعلى.
ولأن هذه المسألة تثير قلق الحكومة الطموح التي تسعى إلى تحقيق أهداف رؤيتها لعام 2023، بحث صناع القرار والسياسات عن أسباب التراجع، ووجدوا أن الأمومة العامل الأكثر تأثيرًا على مشاركة المرأة التركية في سوق العمل، إذ تقل احتمالية عمل المرأة الحامل في إسطنبول بنسبة 8%، بينما تقل احتمالية عمل المرأة التي لديها طفل دون سن الخامسة بنسبة 6%، مقارنة بالمرأة المتزوجة التي ليس لديها أطفال.
وبحسب إحصائية أجرتها منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، فإن 53% من النساء في تركيا يفضلن الموازنة بين العمل ورعاية شؤون المنزل، فيما هناك 34% منهن يفضلن العمل بالدرجة الأولى، و12% منهن يفضلن البقاء في المنزل للعناية بالأسرة.
ولمواجهة تسرب النساء من وظائفهن عند ولادة طفل أو زيادة الأعباء الأسرية، عملت الحكومة التركية على توظيف عدد من الأدوات المالية والترتيبات القانونية بما في ذلك إجازة الأمومة وخدمات رعاية الأطفال العامة والإعفاءات الضريبية، من أجل تمهيد الطريق أمام الأمهات الراغبات في اقتحام سوق العمل دون التأثير على مسؤولياتهن وطموحاتهن الأخرى.
لماذا تركت مليون امرأة تركية وظيفتها؟
ليس من الشائع أن يكون لدى المؤسسات سياسات وممارسات رسمية لمساعدة موظفيها على الموازنة بين مسؤوليات العمل والأسرة، رغم أن البعض منهم يحترمون الالتزامات غير المكتوبة، فإن العديد من الأصوات نادت بضرورة تخصيص حيز رسمي في اللوائح القانونية لهذه المسؤوليات والاعتبارات.
ففي عام 1978 ذكرت نرمين عبدات أونت رئيسة جمعية العلوم الاجتماعية في كتابها “المرأة في المجتمع التركي” أنه “ينبغي توسيع وتحسين الخدمات المقدمة بشأن رعاية الأطفال ما قبل مرحلة الدراسة، وهو حق أساسي للمرأة بغض النظر عن عملها في القطاع الحكومي أو الخاص، كما أنه يفضل أن يتم تخصيص مرافق لرعاية الطفل بالقرب من أماكن العمل حتى تتخلص المرأة التركية من قضية التمييز بين الجنسين”.
تضطر 9 من كل 10 نساء للبقاء في المنزل من أجل رعاية الأطفال بسبب نقص خدمات الرعاية والدعم العامة
وفي بحث أجراه البروفيسور التركي شيمسا أوزار، في جامعة البوازيتشي، عن المرأة التركية العاملة بعد عام 1980 قال: “لا تملك الحكومة التركية أو القطاع الخاص أي برنامج أو خطة للتعامل مع المشاكل التي تواجه المرأة في حياتها العملية، فليس هناك ميزانية أو نظام لفهم وضع المرأة ولهذا لا تزال المرأة التركية أكثر حرمانًا من الرجل في العمل وأجرها أقل بالوضع الطبيعي”.
مضيفًا: “يوجد هذا التفاوت الكبير بين الجنسين لأن الخيار الأول في رعاية الأطفال وكبار السن يقع على المرأة وليس الرجل، ولا ننسى أن المجتمعات لا تزال تنظر إلى عمل المرأة على أنه رفاهية وليس ضرورة”.
وبالنظر إلى هذه المشكلات، يمكن القول إن الأمومة ومراحلها التقليدية ومهامها الروتينية أثرت بشكل كبير على مشاركة النساء التركيات في سوق العمل، إذ تقول رئيسة نقابة العمال آيسون جيزن إن 87% من النساء في تركيا يرغبن في العمل ولكن نسبة التوظيف بلغت 32.6%، حيث تضطر 9 من كل 10 نساء للبقاء في المنزل من أجل رعاية الأطفال بسبب نقص خدمات الرعاية والدعم، وفي عام 2019 وحده، ذكرت مليون و122 ألف امرأة أنها تركت العمل لنفس السبب.
تشير جيزن إلى أن أصل المشكلة يكمن في عدم المساواة بين الجنسين، حيث يتم تقديم خدمات الرعاية التي تعد عاملًا مهمًا لزيادة مشاركة المرأة في الحياة العملية، ولكن يتم تحميل تكاليفها المالية على المرأة. في هذا السياق تلفت جيزن النظر إلى نقطة أخرى بشأن عمل النساء في وظائف منخفضة الأجر، ما يجعل مهمة رعاية الأطفال أكثر ترجيحًا ومنطقية من إنفاق ما اكتسبوه في تسديد فواتير الحضانات أو المربيات.
مساعي الحكومة توازن بين مصلحة الاقتصاد والمنفعة الشخصية، ولا تقف عائقًا أمام رغبة النساء العاملات في الإنجاب والأمومة
وتعليقًا على هذه القضية يقول نور الدين أوزدمير رئيس الغرفة الصناعية في أنقرة “لا يمكن نكران أهمية دور المرأة في سوق العمل وعلينا أن ندعم وجودها بطرق فعالة، خاصة أن المرأة التركية تشكل 31.9% من القوى العاملة وهذه نسبة ضئيلة وفي حال أرادت تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عليها أن ترفع هذه النسبة إلى 70%”.
علمًا بأن مساعي الحكومة لتحقيق أهدافها الاقتصادية والسياسية توازن بين مصلحة الاقتصاد والمنفعة الشخصية، ولا تقف عائقًا أمام رغبة النساء العاملات في الإنجاب والأمومة، حيث يشير أوزدمير إلى خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يقول فيه: “ينبغي على المتزوجين إنجاب 3 أطفال على الأقل حتى لا نصبح أمة مسنة”، معتبرًا أن هذه الخطوة تفيد الاقتصاد بشكل كبير لأن الإنسان سر التقدم الاقتصادي وليس الإنتاج والتصنيع والتصدير فقط، ولذلك تشجع الحكومة المرأة العاملة على الإنجاب مع ضمان احتفاظها بعملها.
حقوق الأم العاملة
يحتوي قانون العمل التركي على العديد من الأحكام والشروط المتعلقة بالنساء والأمهات العاملة، وأهمها المادة 74 من القانون رقم 4857 الذي يسمح للأمهات العاملات بإجازة رعاية قصيرة لمدة ساعة ونصف يوميًا لتمكين الأمهات من إطعام أطفالهن دون سن الواحدة، وهي من يقرر في أي وقت تستخدم هذه الإجازة خلال ساعات الدوام اليومي.
إلزام أماكن العمل التي يعمل بها أكثر من 150 عاملة على تخصيص غرف أو مرافق للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0-6 في مناطق قريبة أو منفصلة عن مكان العمل
كما يسمح القانون التركي للمرأة العاملة بالعمل بنصف عدد ساعات العمل الرسمية عقب انتهاء إجازة الأمومة (8 أسابيع قبل الولادة و8 أسابيع بعدها)، وذلك لمدة شهرين بعد ولادة طفلها الأول ولمدة أربعة أشهر بعد الطفل الثاني ولمدة ستة أشهر بعد الطفل الثالث وما يليه، وفي حال وضعت توأمين، يضاف إلى المدة شهر إضافي، أما إذا كان الطفل المولود يعاني من إعاقة ما أو مشاكل صحية خطرة أو ثبتت إعاقته خلال عامه الأول، فيمكن أن تمتد هذه اللإجازة إلى 12 شهرًا مدفوعة الراتب بشكل كامل، ويحق لكلا الوالدين أيضًا العمل بدوام جزئي (بنصف الأجر) حتى يبلغ أطفالهم سن الذهاب إلى المدرسة، أي ست سنوات.
يضاف إلى تلك التسهيلات، حزمة أخرى من القوانين وأبرزها إلزام أماكن العمل التي يعمل بها أكثر من 150 عاملة على تخصيص غرف أو حضانات أو مرافق للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0-6 في مناطق قريبة أو منفصلة عن مكان العمل، وإذا كان المبنى على بعد أكثر من 250 مترًا من مكان العمل، فإن صاحب العمل ملزم بتوفير المواصلات، ومع ذلك لا تلتزم أماكن العمل بالقانون، وتفضل الغالبية دفع الغرامات بدلًا من تقديم هذه الخدمة.
الحوافز المالية
وفقًا لدراسة حديثة أجرتها مؤسسة برنارد فان لير، فإن نحو 40% من العائلات التركية لا يوجد رياض أطفال في محيطها، ولا تستطيع عائلتان من كل ثلاث أسر تحمل نفقاتها، وفي إحدى الدراسات الأخرى، قالت 80% من النساء التركيات اللواتي تركن وظائفهن بعد الإنجاب إنهن سيعدن إلى السوق إذا تلقين مساعدة مالية لدفع تكاليف التعليم قبل المدرسي.
الحكومة التركية تقدم دعمًا للأمهات العاملات والعاطلات عن العمل بشكل شهري، ويأتي هذا الدعم على شكل منح مادية تتراوح بين 300 إلى 600 ليرة عند الولادة و122 ليرة كبدل رضاعة
واستجابةً لهذا الواقع، أعلنت وزيرة الأسرة والعمل والخدمات الاجتماعية زهرة زمرد سلجوق مؤخرًا أن الحكومة ستطلق مشروعًا يوفر مبلغ 350 دولارًا لدعم جليسة الأطفال للأمهات العاملات، بهدف مساعدتهن في حياتهن المهنية، وتحديدًا الأمهات اللاتي يعملن بشكل قانوني ولديهن تأمين وأطفال تتراوح أعمارهم بين 0 و24 شهرًا.
ومنذ السابق كانت الحكومة التركية تقدم دعمًا للأمهات العاملات والعاطلات عن العمل بشكل شهري، ويأتي هذا الدعم على شكل منح مادية تتراوح بين 300 إلى 600 ليرة عند الولادة و122 ليرة كبدل رضاعة، كما قسمت هذه الحزم على عدد الأطفال، فمثًلا عند إنجاب المرأة الطفل الأول تحصل على 300 ليرة وعند ثاني طفل 400 ليرة والثالث 600 ليرة، أي 722 ليرة مضافة إليها منحة بدل الرضاعة.
في هذا الخصوص، نشرت صحيفة “خبرترك” التركية قرار مجلس البرلمان الذي يسمح لربات البيوت بالحصول على حق التقاعد كالنساء العاملات، باتباع شروط محددة مثل أن تكون بعمر 58 عامًا وتعمل ربة منزل لأكثر من 25 سنة، وإن كانت تتقن المنسوجات والمطرزات ونجحت ببيع هذه المشغولات اليدوية فإنها ستحصل على مكافأة 455 ليرةً شهريًا. ويذكر أن عدد ربات المنازل في تركيا 15 مليون امرأة وأن 91.2% منهن مسؤولات عن الأعمال المنزلية بشكل كامل، ويشارك الرجل في هذه المهمات بنسبة 8.8% فقط.
وبالنسبة لسيدات الأعمال، تخطط الحكومة لتقديم قروض لعدد أكبر من النساء الراغبات في تأسيس أعمالهن ومشاريعهن الخاصة بما يصل إلى 50 ألف ليرة تركية.
ومن جانب آخر، يبدو أن بعض اللوائح الحكومية – على الرغم من حسن نواياها وفعاليتها للبعض – لم تصب في مصلحة جميع النساء، على سبيل المثال تقدم الحكومة التركية 400 ليرة تركية شهريًا للجدات لرعاية أحفادهن، إلا أن هذا فقط للجدات اللاتي يكون لأحفادهن أم تعمل بدوام جزئي وليس بدوام كامل.