“وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ”، كانت هذه الآية خطاب الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام، لتكون بداية تبليغ نبي الله للناس ومنطلق الرحلة إلى الله عبر شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام، برهبةٍ وإجلال وصل التبليغ إلى الناس لتبدأ وفود الله بخوض المسالك والدروب للوصول لتلك البقعة المباركة ملبيين نداء ربهم.
قطع الناس منذ القِدم الفجاج والسبل، وساروا الدروب الطويلة والصعبة للوصول إلى مكة، بيت الله الحرام، حيث كانت الرحلات تستمر شهورًا وربما تمتد حتى عام كامل منذ بدء الرحلة حتى نهايتها، ومع مرور السنين بعد النبي إبراهيم، تحرفت مناسك الحج ودخلت الأوثان والأصنام ووضعت بمحيط الكعبة، وأصبح العرب يحجون بمناسك محرفة عن منهج أبي الأنبياء.
بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وفتح مكة وهدم الأوثان والأصنام، وعلّم الناس شعائر حجهم إلى بيت الله، وفرض الله الحج كأحد أركان الإسلام الخمس، ويتقاطر الناس لتأدية هذه الشعيرة في كل عام منذ أن كُسرت الأصنام وأصبح البيت الحرام مهوى لأفئدة المسلمين، ومنذ ذلك الزمان حتى يومنا هذا تتطور الحالة الخدمية التي يحظى بها على الحجيج.
كانت دروب الحج صعبة على القادمين من الأماكن البعيدة، خاصة في العقود الأولى، من أجل ذلك حرص الحكام بدءًا من الخلفاء الراشدين مرورًا بالأمويين والعباسيين والعثمانيين إلى عصرنا الحالي، على شق الطرقات وتعبيد الدروب من أجل الوصول السلس لرحلة كانت تستمر شهورًا، وقد أولى السلاطين والخلفاء اهتمامًا بالغًا بهذا الأمر.
لأهمية هذه الشعيرة وعظمها لدى المسلمين، فقد كان يتم تعيين أمير للحج، يشرف على سلامة الحجاج وسيرهم وتأمين خدماتهم، وقد بدأت إمارة الحج حينما وكل النبي محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق بالمهمة ومن بعده الصحابي عتاب بن أسيد، لتتوالى هذه المهمة حتى يومنا هذا متمثلة بالوزراء والمسؤولين في كل دولة. في هذا التقرير نفرد الحديث عن أهم الدروب والطرق المؤدية للحج قديمًا ومساراتها المختلفة التي كانت القوافل تسلكها للوصول إلى مكة.
بدايةً فإن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب وخلال فترة خلافته عمل على العناية بطريق الحجيج ما بين المدينة المنورة ومكة المكرمة وأنشأ الاستراحات والمحطات على ذلك الطريق ليتمكن قاصدو الحج من النزول بتلك المناطق والراحة فيها، حتى إن عمرًا كان أميرًا للحج في فترة خلافته.
درب زبيدة
هذا الدرب هو الأشهر في تاريخ طرق الحج ومساراتها، أخذ اسمه من زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد وحفيدة مؤسس الدولة العباسية أبو جعفر المنصور، واسمها أمة العزيز بنت جعفر، وتعتبر زبيدة من أهم نساء الفترة العباسية وصاحبة القوة والنفوذ والعقل الراجح، والمعروفة بجمالها ورعايتها للأدب والثقافة.
يُعرف عن درب زبيدة أنه كان طريقًا تجاريًا قبل الإسلام، إلا أنه مع دخول الإسلام ازدادت أهميته وأصبح طريقًا للحجيج بالإضافة للرحلات التجارية، ومع وصول العباسيين للخلافة لقي الطريق هذا اهتمامًا بالغًا، إذ إن زوجة الخليفة هارون الرشيد عملت على تحديد الطريق ورصفه وأنشأت المحطات وحفرت الآبار وبنيت المنازل وبحسب المصادر فقد حُصرت المحطات الرئيسية بـ27 محطة غير تلك الثانوية.
هدفت زبيدة من تطويرها للدرب وتحسينه إلى خدمة حجاج بيت الله من بغداد إلى مكة المكرمة، كما أنها حرصت على إثراء الثقافات والتبادل التجاري، ويُذكر أن الطريق امتد حتى مسافة تتجاوز 1400 كيلومتر، وتشهد المصادر بالخطط الهندسية والإبداع العلمي في طريقة إنشاء وتطوير هذا الطريق، الذي لم يقف تحسنه عند زبيدة، بل أصبح الخلفاء العباسيون يعينون الولاة لتعهد هذا الدرب وصيانته.
خريطة درب زبيدة
ذكرت المصادر التاريخية أن مسار الطريق خُطط بطريقة عملية وهندسية فريدة، كما أن أقلام المؤرخين خطت من أجله الكتب لعظمته وفرادته في تلك الأزمان، وتمكن المهندسون من رصد مسار هذا الطريق وهو شكل مستقيم في معظم أجزائه، ويجتاز “أراضي سهلية مستوية، ومناطق وعرة وخشنة، وصحاري كثيفة مقفرة حتى تصل إلى جبال الحجاز ذات التضاريس الصعبة التي تخترقها الأودية الضيقة والعميقة”.
تعرض الطريق لهجمات القبائل بداية القرن الرابع وتعرضت بعض محطاته للتخريب وتوقف الحجيج عن استخدامه إلا في حالات وجود الحماية، وبعد سقوط بغداد على أيدي المغول عام 1258م تعطل الطريق واندثرت معظم محطاته وأصبحت مجرد أطلال.
ليس غريبًا على زوجة الرشيد، زبيدة، إقامتها وتطويرها لدربها الشهير الذي حاز إعجاب كل من درس حالته، إذ يُشهد لها سقاية الحجيج، حيث إنها وخلال إحدى رحلاتها للحج كان عام قحط وجفاف، وكان الحجيج يعانون من قلة المياه والعطش، فكان أن عملت على تعميق بئر زمزم، كما أنها قررت عدم الاعتماد على زمزم فقط، لتكلف مهندسيها بمهمة إيجاد طرق لجلب المياه إلى مكة، من خارجها.
في وادي حنين على بُعد 35 كيلومترًا من مكة قريبًا من الطائف، وُجدت الآبار لتشتري”زبيدة” الوادي كاملًا بحسب بعض المصادر، روت زبيدة الحجيج وأطلق على مشروعها فيما بعد “عين زبيدة”، وأطلق الناس عليها “ساقية الحجيج”.
من آثار درب زبيدة
درب الحج البصري
يبدأ هذا الطريق الذي يأتي بالأهمية بعد “درب زبيدة”، من البصرة مرورًا بوادي الباطن شمالي شرق شبه الجزيرة العربية، ويمر بمناطق صحراوية، إلى نجد حيث المياه العذبة والوديان الخصبة والعيون، وبعدها يلتقي مع طريق الكوفة مكة في أم خرمان أوطاس التي تقع بالقرب من موقع ذات عرق.
شهد الدرب البصري اهتمامًا من الولاة الأمويين في البصرة خاصة الحجاج بن يوسف الثقفي الذي سلك هذا الطريق إلى مكة وفحص المياه في المحطات التي مر عليها على طول الطريق، كما لقي الطريق هذا رعايةً من خلفاء بني العباس كأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد، ومن المحطات المهمة على طريق البصرة كانت بركة الخرابة الواقعة عند التقاء الطريق مع طريق الكوفة بالقرب من أم خرمان وذات عرق.
عند نهاية العصر العباسي لقي هذا الطريق إهمالًا ولم يبق منه إلا بعض الآبار والسدود والقصور المهملة، وتوجد آثار مهمة للطريق في منطقة القصيم، كما أن بعض المحطات وبسبب قربها من الآبار ومناطق الرعي تشكلت فيها قرى ومدنًا، أما بالنسبة لباقي المناطق فقد اختفت واندثرت.
درب الحج المصري
كان الحجاج المصريون ومن يرافقهم من حجيج المغرب والأندلس وإفريقيا يسلكون طريقين إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، وهما: طريقٌ داخلي وآخر ساحلي، ويتجه الطريق الداخلي إلى الجنوب الشرقي حيث يلتقي بطريق الحج الشامي ليسيرا معًا إلى المدينة المنورة، وفي الدرب الساحلي كانت قوافل الحجاج تمر على محطات عدة حتى وصولها إلى مكة المكرمة مرورًا بالجحفة، وفي القرون الأولى كانت قوافل الحجيج تستخدم الطريق الداخلي أكثر من مسيرها على الطريق الساحلي، لتتغير الحال بعد ذلك الزمن.
من جهته قسم الدكتورعلي غبان المراحل التي مر بها درب الحج المصري الى أربع مراحل: أولها عندما فُتحت مصر وامتدت حتى القرن الخامس الهجري، وكان مسار هذه المرحلة هو ما تحدثنا عنه من طريقين داخلي وساحلي، أما المرحلة الثانية هي مرحلة طريق عيذاب وفي هذه الفترة التي استمرت حتى عام 666 للهجرة، توقف استخدام الطريق البري وكان الحجاج المصريون يركبون السفن النيلية إلى قوص ثم يسافرون بالقوافل إلى منطقة عيذاب ثم يعبرون البحر إلى جدة.
تمتد المرحلة الثالثة من سنة 667 هجريًا إلى 1301 وخلالها عاد الحجاج إلى استخدام الطريق البري الساحلي، لتليها مرحلة توقف استخدام الطريق البري وصار سفر الحجاج يتم بحرًا من السويس.
اهتمت الحكومات بطريق الحج المصري، فعملوا على إقامة البرك وحفر الآبار وتشييد المساجد في بعض المحطات ونظف خمارويه بن أحمد بن طولون الطريق من الحجارة ووجدت مئات النقوش العربية على هذا الطريق على طول مساره نُقشت من الحجاج تذكارًا لمرورهم، وأُنشئت في عهد السلطان المملوكي محمد بن قلاوون على طريق الحج قلعة الأزنم، وجددت في عصر السلطان قانصوه الغوري، إلى جانب العديد من البرك التي يرجع تاريخها إلى العصر العثماني، وقلعة الزريب بالوجه التي أنشئت سنة 1026هـ في عصر السلطان العثماني أحمد الأول.
درب الحج الشامي
ينطلق درب الحج الشامي من دمشق ليمر ببصرى الشام في درعا، مخترقًا منطقة أذرعات ومعان والمدورة ثم يدخل أراضي الحجاز ليمر على حالة عمار، ثم ذات الحاج بتبوك، ومرّ درب الحج الشامي بثلاث مراحل أساسية: أولها كانت فترة الدولة الأموية وأيام قوة الدولة العباسية، حيث كان الناس يسلكون طرقًا متعددة من الشام إلى الحجاز وذلك بسبب الأمان الذي وجد في تلك الفترة حتى إن بعض الحجيج كانوا يذهبون فرادى دون حماية، وكان الدرب الأساسي هو الدرب التبوكي المعروف بالإضافة لدروب رديفة منها درب حسمى ودرب تيماء ومنها درب الساحل الى غزة، ويختار المسافر الدرب الذي يناسبه.
اهتم الخلفاء الراشدون والأمويون بعمارة هذا الطريق الشامي، فنصبوا المنارات على طول مساره كما أنهم شيدوا القنوات والبرك وحفروا الآبار وجددوا عمارة مسجدي الرسول بتبوك وبوادي القرى، والمسجدان هذان يوجدان في مسار الطريق، كما ازدهرت المحطات على هذا الدرب في العصر العباسي.
المرحلة الثانية كانت من سنة 200 للهجرة حتى 350 وفيها ضعفت الدولة الأخشيدية وفُقد الأمن فأصبح الناس يسلكون طريقًا واحدًا وهي الطريق التبوكية، أما المرحلة الثالثة فكانت بين القرن الثالث والسادس الهجري، عندما تفككت الدولة بين العراق والشام واستولى الفاطميون على بعض أجزاء الشام ولم يتم لهم الأمر طويلًا، ودخل الصليبيون الشام فقطعوا طريق الحج مرارًا، وفي هذه المرحلة سلك الحجيج دربًا يُسمى بدرب تيماء.
انتظم الدرب التبوكي لقافلة الحج الشامية بوصول الأيوبيين، حيث عاد النشاط والاستقرار إلى الطريق، واهتم الملك عيسى بن أيوب بالطريق اهتمامًا خاصًا وكان والده قد ضم عليه الكرك والشوبك وتبوك والعلا، فسار على طريق تبوك وأمر ببناء بركة المعظم و برك أخرى، كما أمر بتسهيل المواضع الوعرة.
نال الطريق اهتمامًا كبيرًا في العهد المملوكي، حتى إن أعداد الحجاج في هذا الزمن كانت في ازدياد و”قدّر ابن رشيد قافلة الحج الشامية التي سار معها سنة 674 هـ/1286م بستين ألف راحلة دون الخيل والبغال والحمير”، و”كان الدرب الشامي في عهد الأيوبيين والمماليك ثم العثمانيين هو طريق القافلة العظمى للعالم الإسلامي فكان ينضم إليه بالإضافة للشاميين العراقيون والفارسيون وأهل القوقاز ومسلمو الأناضول وأوروبا لأمانه وتسهيلاته”.
درب الحج اليمني
تكثر طرق الحج التي ربطت بين اليمن والحجاز، فلا تقتصر رحلة الحجيج من اليمن على درب واحد، وكانت مسارات القوافل مختلفة، فمنها من ينطلق من عدن ومنها من ينطلق من تعز وأخرى من صنعاء وغيرها من المدن كزبيد وصعدة في شمال اليمن، ويلتقي بعضها ببعض في نقاط معينة، عدا عن حجيج اليمن كانت قافلة الحج تضم حجاج الهند وماليزيا وإندونيسيا، بالإضافة إلى حجاج الحبشة والصومال والأفارقة الذين يصلون إلى موانئ اليمن.
سلك حجاج اليمن ثلاثة طرق أساسية هي الطريق الساحلي الذي يمر بجوار البحر محاذيًا له من الشرق والداخلي وهو ما كان يُعرف باسم الجادة السلطانية ويبدأ من تعز حتى يصل إلى يلملم وهو ميقات أهل اليمن، والطريق الأعلى المعروف باسم الطريق الجبلي وتنطلق قافلته من صنعاء باتجاه صعدة وصولًا لميقات قرن المنازل، وكان الحجيج يفضلون الطريق الذي يمر بشمال اليمن ثم جبال عسير ومنها إلى الطائف ثم مكة، وذلك بسبب خصوبته وخضرة أراضيه وكثرة الغذاء فيه، على الرغم من وعورته وصعوبة مسالكه.
درب الحج العماني
كان حجاج عُمان يسلكون طريقين لأداء نسكهم، أحدهما يتجه من عمان إلى يبرين ثم إلى البحرين، ومنها إلى اليمامة، ثم إلى منطقة ضرية التي كانت ملتقى حجاج البصرة والبحرين كما أن بعض القوافل القادمة من عمان كانت تجتاز منطقة الإحساء لتلتقي بطريق اليمامة مكة المكرمة.
الطريق الآخر لحجاج عمان يتجه إلى فرق ثم عوكلان، ثم تتابع القوافل سيرها على أحد الطرق اليمنية الرئيسة المؤدية إلى مكة، حيث كانوا يسلكون أحد الطريقين، فأمامهم الدرب الساحلي الموازي للبحر الأحمر أو الطريق الداخلي من اليمن إلى مكة مرورًا بعدد من المنازل والمحطات التي ما زال بعضها معروفًا حتى يومنا هذا مثل رنية وتربة.
درب الحج البحريني
يُعد درب الحج البحريني رافدًا مهمًا من روافد طريق الحج البصري، وتكمن أهميته بعبوره الأجزاء الوسطى من شبه الجزيرة، ويربط بين الحجاز والعراق وقد اهتمت الدولة الإسلامية قديمًا بهذا الطريق ووفرت الحماية لهذا الدرب من قطاع الطرق.
ختامًا، ليست هذه كل الدروب إلى بيت الله الحرام، فرحلة الحج لم تنطلق فقط من منطقتنا، بل حرفيًا “من كل فجّ عميق”، فما من بقعة إلا وقد وصلها الإسلام وبات فيها مسلم يشتاق إلى زيارة النبي والسلام عليه، والطواف حول الكعبة المشرفة وزيارة المشاعر المقدسة، ولكنها أبرز الدروب القديمة التي خطت عليها قوافل ضيوف الرحمن وأشهرها تاريخيًا.