قصة التونسيين مع قوارب الموت لم تنته يومًا وحبال أمانيهم بالوصول إلى الضفة الشمالية من المتوسط لم تنقطع هي أيضًا رغم مخاطر الرحلة ومطباتها، فالأمواج العاتية التي تقذف بسفنهم الخشبية المتهالكة (شقف) التي تتكدس فيها أجساد المهاجرين المنهكة لا يرونها إلا جسرًا ينجيهم من جحيم الحاجة والفقر ويُخرجهم من جب الخيبات النفسية.
هؤلاء، يرون في البحر الذي يلفظ بين الحين والآخر إخوانهم في “الهم” وفي الحلم، ميزانًا أكثر عدلًا من الحكومات والأنظمة والسلطة، له وجهان وهي طبيعته، الأول يكون عادةً أزرق سماويًا صافيًا والثاني أسود كالحًا وهائجًا، لذلك فإنه يعطي خيارين لا غير إما أن يبعث فيهم الروح من جديد ويوصلهم إلى الفردوس المنشود وإما أن يقبضها في أحشائه ولا يلفظها إلا نزرًا فيريحهم من الشقاء والبؤس.
مرة أخرى، يعود الجدل بشأن الهجرة غير الشرعية في تونس (الحرقة) إلى سطح الأحداث رغم أن اللاعبين الرئيسيين تقريبًا هم أنفسهم (مهاجرون وخفر سواحل) مع بعض التغييرات يراها البعض بسيطة في حين يراها آخرون إشارات وأدلة على أن الظاهرة أخذت أبعادًا أخرى وتسير في منعرج قد يلقي بظلاله على المجتمع بأكمله، الأمر الذي يستوجب قرع نواقيس الخطر.
الهجرة الجماعية
اقترنت الهجرة غير الشرعية في السنوات التي سبقت ثورة 14 يناير بفئة الشباب التي تُعاني من التهميش والبطالة والإقصاء، فكان أغلب المهاجرين عبر قوارب الموت من المعطلين أو الذين لم يكملوا تحصيلهم العلمي وانخرطوا مبكرًا في سوق الشغل يُمارسون أعمالًا هشة ولا يتمتعون باستقرار وظيفي أو تغطية اجتماعية، كعمال الحضائر والمطاعم والمقاهي أو حتى المصانع، وفي السنوات التي أعقبت الثورة لم يعد هذا السلوك حكرًا على فئة معينة دون غيرها، فقوارب الموت قد تحمل على ألواحها نساءً بجانب رجال ومتعلمًا يجلس كتفًا لكتف مع محدود المستوى العلمي، وميسور الحال مع معدم فقير، وبالتالي فإن بعض المتغيرات طرأت على الظاهرة قد تستدعي الوقوف عندها وتحليل أبعادها وتجلياتها.
في الآونة الأخيرة، برزت ظاهرة جديدة في تونس تتمثل في هجرة غير شرعية (سرية) لعائلات بأكملها خيرت ركوب الأمواج باتجاه شمال المتوسط وتحديدًا إيطاليا، وأسالت التقارير الإعلامية المحلية والتدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي كثيرًا من الأسئلة عن الأسباب التي تدفع الأسر إلى الإقدام على هذه المجازفة الخطيرة غير مضمونة العواقب غير مبالين بمصير الأطفال الرضع، وكأن قصص المفقودين المؤلمة والجثث التي أفقدتها ملوحة البحر هويتها أو تلك التي علقت في شباك الصيادين لم تزدهم إلا إصرارًا على ترك الوطن.
إحدى هذه العائلات، أسرة مكونة من 7 أفراد بينهم فتاتان حاملتان لإعاقة عضوية انطلقت رحلتها من مدينة الشابة (محافظة المهدية) الساحلية لتصل إلى جزيرة لمبيدوزا الإيطالية سرًا على متن قارب مطاطي، الأمر لم يقف عند هذا الحد، فسائق سيارة الأجرة الذي أوصلهم إلى الميناء اختار القفز معهم في القارب متخذًا قراره في أجزاء من الثانية دون تردد.
عائلات أخرى أبحرت خلسة هذه الأيام، فقد تمكن الحرس البحري الإيطالي من إيقاف أربع عائلات تونسية مع أطفالها من محافظة المهدية بعد أن اجتازوا الحدود البحرية التونسية، فيما انتشر بشكل واسع مقطع فيديو على فيسبوك، لعائلة على متن مركب صيد حاولت اجتياز الحدود بطريقة غير نظامية من أجل مداواة ابنها المريض في إيطاليا، إلا أن الوحدات البحرية التونسية أحبطت العملية.
تغير الفئات
تزايد عمليات إبحار العائلات التونسية نحو شواطئ إيطاليا ضمن ما يُعرف بـ”الحرقة” دفع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى الإقرار في تقريره السنوي بأن ظاهرة الهجرة السرية توسعت في العقد الأخير لتشمل مختلف الفئات العمرية كما تحولت تدريجيًا إلى مشروع عائلي، وأمام تراجع الدور العائلي والحالة الاقتصادية الهشة التي تعيشها وازدادت حدتها وأمام بعض حالات التفكك الأسري ونظرًا لضبابية مستقبل أبنائها في موطن النشأة، انخرطت العائلة في مشروع الهجرة.
التقرير أورد أيضًا أن هذا النوع من الهجرة إما لأسباب اقتصادية واجتماعية وإما لأسباب تتعلق بالتفكك الأسري، وبالتالي هجرة القاصرين مصحوبين بمرافقة، مضيفًا أن النساء والرجال يشتركون في الأسباب التي تدفعهم إلى ركوب البحر سرًا أو اجتياز الحدود البرية خلسة، والمتمثلة أساسًا في التهميش الاقتصادي، إذ يعاني جلهم من الإقصاء والبطالة والفقر.
ومن الأسباب التي تدعو النساء التونسيات إلى الهجرة، أشار التقرير إلى رغبة العابرات للحدود في الهروب من الوصم الاجتماعي إثر خلافات عائلية ونزاعات على غرار حالات الطلاق وإهمال العيال والعنف وتفكك العائلة إلى جانب التحاقها بزوج أو قريب لها خارج الوطن، وذلك حال تعذر عليها الحصول على تأشيرة نظامية.
ووفقًا لذات المنظمة، فإن العوامل الاقتصادية والسياسية والأمنية من أبرز العوامل التي غذت الظاهرة وأصبحت غير مقتصرة على الشباب والذكور فقط أو على مستوى تعليمي محدود ومن فئات مسحوقة وشعبية، بل أصبحت تشمل الكهول والنساء والقاصرين والعائلات وأصحاب الشهادات العليا، كما انخرطت فيها حتى المجموعات السكانية ببعض القرى الريفية والمناطق الداخلية.
بالأرقام
- عمليات الهجرة من تونس خلال الأشهر الست من 2020 ارتفعت بنسبة أربع مرات، مقارنة بالفترة نفسها من العام 2019.
- بلغ عدد الموقوفين في أثناء عمليات إحباط محاولات هجرة عبر سواحل البلاد، وفق وزارة الداخلية، 2226 شخصًا وذلك خلال الأشهر الخمس الأولى من العام 2020.
- يوليو شهد إلى حد الآن 77 عملية اجتياز للحدود بمعدل 3 عمليات هجرة يوميًا، من بينهم 25 طفلًا و10 رضع.
- أكثر من 40% من النساء في تونس يرغبن في الهجرة غير النظامية نحو أوروبا.
- تطور انخراط النساء في الهجرة غيرة النظامية من 2% سنة 2018 إلى 8.76% عام 2019.
- الشريحة العمرية للمهاجرين غير الشرعيين تتراوح بين 20 و30 سنة.
- وصل عدد المحتجزين التونسيين نتيجة محاولتهم الهجرة إلى نحو 13 ألف تونسي.
- بلغ عدد الذين وصلوا إلى إيطاليا منذ 2011 ما يزيد على 38 ألف تونسي.
الأسباب
في تصريح لـ”نون بوست”، أكد خليل الحامدي وهو أحد المعطلين من أصحاب الشهادات العليا، أن الهجرة سواء النظامية أم غير الشرعية أصبحت ضرورة قصوى لأغلب التونسيين في ظل الأزمة المتعددة الأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، وأن هذا الخيار يراود السواد الأعظم منهم، مضيفًا “حين تُغلق أمامك أبواب التشغيل ويتعذر عليك الحصول على تأشيرة من إحدى السفارات ماذا يبقى لديك كخيار؟ أعتقد أن الإجابة سهلة وبسيطة، الحرقة هي الحل”.
محدثنا أشار أيضًا إلى أنه لجأ للعمل في أحد المقاهي الراقية كنادل إضافة إلى الاستدانة من أخيه الموظف لتوفير 4500 دينار تونسي أي ما يعادل 1500 دولار سيدفعها لاحقًا لـ”الحراق”، مؤكدًا أن عائلته على علم بعزمه على الهجرة بحرًا دون أن يبدو أي اعتراض، مرجعًا ذلك إلى إحساسهم بمعاناته التي يعيشها جراء سنوات البطالة.
بدوره، أكد منير الشرفي (عامل بناء) أنه إذا تواصلت الأوضاع الاقتصادية المتردية وتدهور المعيشة في تونس، فإن سيختار الهجرة رفقة زوجته وبنتيه على البقاء منتظرًا وعود الساسة الزائفة التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، مشيرًا إلى أن هؤلاء المهاجرين يُخاطرون بحياتهم في سبيل الحصول على الكرامة التي كانت يومًا شعارًا للثورة.
الشرفي أضاف قائلًا: “لتسع سنوات ونحن ننتظر تحسن الأوضاع دون جدوى، تعاقبت الحكومات تباعًا والحال على ما هو عليه، راهنا مؤخرًا على رئيس الجمهورية قيس سعيد إلا أنه فاجأنا من خلال رده على مطالب أهالي بن قردان، كيف له أن يجيب عن المطالب المشروعة بعبارة أنتم تريدون فهنيئًا لكم بما تريدون؟ أيقنت لحظتها أن الأوضاع لن تتغير”.
من هذه الزاوية، بات من الواضح أن الشباب التونسي يعيش أزمة ثقة مع الطبقة السياسة ككل وبالأخص الطبقة الحاكمة، فهو يتهمها بسرقة ثمار الثورة والوقوف وراء تأزم الوضع، وبالتالي فإن الحل لا يكون إلا في الهجرة والبحث عن حياة جديدة تمكنه من تحقيق طموحاته وآماله، خاصة أن المسار الانتقالي حافظ على نفس الخيارات التنموية السابقة التي أثبتت فشلها وارتفاع كلفتها الاجتماعية رغم الدعوات المستمرة التي تدفع نحو مراجعة جذرية لهذا المنوال من أجل القطع مع السياسات التي عمقت الفوارق بين الجهات من حيث التنمية والطبقات وغذت حالة الغضب والإحباط.
تونس السكرانة تهرب:
أربعة عائلات وصلت السواحل الايطالية عبر ما يعرف ب”الحرقة” هروبا من تردي الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية.
إذا تواصل هذا النهج السياسي داخل الحكم فالبلد سينهار ، سنفقد وطنا لن نستطيع اعادته ولو بعد قرن.
تونس تهرب. pic.twitter.com/nFFTpSY3TK
— Ouerfelli Fathi (@OuerfelliFathi2) July 11, 2020
ويُمكن القول أيضًا إن السقف العالي الذي راهن عليه الشباب التونسي لنتائج ثورة يناير 2011، وعدم تحقق آمالهم خلف خيبة أمل وصلت إلى حد اليأس الذي وصل منتهاه بفعل جائحة كورونا التي عمقت معاناتهم وذلك بعد أن عُطلت العديد من المشاريع وسُرح العمال من وظائفهم خاصة في قطاع السياحة وباقي القطاعات غير المنظمة.
من بين الأسباب الأخرى التي عززت جنوح التونسيين إلى الهجرة غير الشرعية، نجد البيروقراطية وصعوبة انتصاب المشاريع الخاصة لفائدة الشباب أو انعدام فرضية نجاحها في ظل تراجع دور الدولة، إضافة إلى الفساد المستشري في الإدارات وقيود الأداءات التي ترهق الباعثين الشبان، وهي أسباب من شأنها أن تُضيق الآفاق وتزيد من منسوب الإحساس باللاأمن الناتج عن البطالة والتهميش، وخطوات تُمهد لبداية انفصال الشباب عن المجتمع تدريجيًا إلى أن يجد بديلًا يليق بحظوته ومكانته.
الحلول.. أمنية
لا يُمكن الحديث عن حلول لأزمة الهجرة غير الشرعية في تونس دون التوصل أولًا إلى الأرقام الحقيقية لأعداد الذين هاجروا نحو أوروبا أو الذين تم إيقافهم وكذلك دون تبيان عدد الموتى، وبالتالي فإن جميع البرامج التي تُوضع لمعالجة الظاهرة لن تأتي بنتائج مرجوة، فالدراسات الدقيقة تُبنى على أرقام حقيقية يتم تحليلها علميًا ومنهجيًا كمًا وكيفًا.
ترفض وزارة الداخلية التونسية – وهي الجهة الوحيدة التي تملك الإحصاءات الدقيقة – أن تُفصح عن الأرقام الحقيقية للمفقودين أو ضحايا الهجرة غير النظامية لأنها تعتبرها معطيات أمنية حساسة، فيما تعمل على معالجة الظاهرة أمنيًا وذلك بالتنسيق مع الجانب الإيطالي الذي يحرص بدوره أن لا تتجاوز مساعداته حاجز “تعزيز التعاون بين شرطة حدود البلدين ودورات تدريبية مشتركة وتقديم المعدات الفنية”.
Please find below my speech from today’s Ministerial conference with EU Member States & African Partners on countering
migrant #smugglinghttps://t.co/I991mBx5UH
? press conference to followhttps://t.co/j7UlWpWYtO…
? Watch LIVE
? 12h30 CET today pic.twitter.com/2ci81Ot06e
— Ylva Johansson (@YlvaJohansson) July 13, 2020
وكان وزير الداخلية السابق والمكلف حديثًا بتشكيل الحكومة التونسية هشام المشيشي قد أرجع في تصريح سابقٍ تزايد أعداد المهاجرين إلى المغالطات بوجود تسوية الأوضاع القانونية للمهاجرين في إيطاليا، داعيًا إلى العمل على معالجة هذه الظاهرة اتصاليًا وعبر الإحاطة والتأطير الاجتماعي، وذلك إلى جانب الجهد الأمني في التصدي للمجموعات التي تنظم هذه العمليات والعمل على تفكيكها، دون الإشارة إلى الأبعاد الأخرى للظاهرة.
وفي الانتظار، فإن رئيس الحكومة المكلف من قبل قيس سعيد الذي اتهم بصفته وزيرًا للداخلية بالوقوف وراء قمع احتجاجات الكامور بتطاوين، أمام امتحان عسير خاصة أن تونس مقبلة على خريف ساخن جراء الأوضاع الاقتصادية المتردية وحالة الاحتقان الجماعي.
شيء من الفارينة .
كل الاحزاب والمنظمات والحكوكيين والحكوكيات والمستقلين والمستقلات راضين تمام الرضا عن الرجل وعن اختيار الرئيس ويباركون الحدث ويصفقون
وهم الذين قالو بالامس ان تدخل الامن في الكامور كان عنيفا وغير متناسب وفيه قسوة.
وربما فيهم من طالب باقالته.
الفارينة لها احكامها pic.twitter.com/VEWDp6oe7T
— KIM (@hakim1zed) July 27, 2020
بالمجمل، فإن مسؤولية تزايد عدد المهاجرين وتطور الفئات الاجتماعية التي تُغامر بالوصول إلى أوروبا، تقع بدرجة أولى وأساسية على الدولة ونظامها السياسي القائم الذي يفتقد لأي رؤية تنموية قادرة على تحقيق نهضة اقتصادية تكون قاطرة ورافعة للمجال الاجتماعي المتمثل في تكافؤ الفرص وتوفير الحياة الكريمة، وحال تونس كما باقي الدول العربية التي يتنزل عليها صورة التي عُذبت في هرّة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.