كلما أقبل شهر ذي الحجة هبت نسائم المناسك على الأرواح والقلوب والعقول فتنسمتها الفطرة الإنسانية وتوقفت العقول أمام جليل معانيها، غير أن هذا العام لن يشهد الأمواج البشرية وهي تطوف حول الكعبة المشرفة أو تسعى بين الصفا والمروة أو تقف في عرفات، فقد فعل كورونا فعله في البشرية كلها.
ولعل هذا يكون حافزًا لنا للتبصر بهدأةٍ فيما وراء الصورة من معاني معرفية مختلفةٍ مرتبطةٍ بالمناسك والشعائر والمشاعر المقدسة.
الحج عبادةٌ تطلق للعقل العنان للسباحة في فضاء الذكرى وللانعتاق من حدود الفعل إلى سعة الفكرة، ومن أعظم معاني الحج المغفلة أو المغفول عنها تلك التي ترتبط بالمرأة من معاني حضارية أو رسائل بالغة القيمة موجهةً للعقل المسلم أولًا قبل أي أحدٍ آخر.
عندما يجعل الإسلام المرأة ملهمًا في أعظم مؤتمرٍ للبشرية على الإطلاق، فعلينا أن نتساءل عن سبب بقاء شريحةٍ من العاملين في الحقل الإسلامي تستنكف عن الاستلهام من المرأة أو إبرازها رمزًا وقدوةً وأسوةً
هاجر عليها السلام ملهمًا حضاريًا
لا يمكن لمسلم أن يتأمل الحج ومعانيه دون الوقوف على شخصية هاجر عليها السلام واستحضارها في المناسك، لكن المشكلة تكمن في استحضار هاجر درسًا عاديًا من دروس الحج، بينما هاجر عليها السلام في قصتها مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام ترسخ معاني في غاية الأهمية من البعد الفكري والحضاري المتعلق بالمرأة.
إن الدين الذي يطلب من أتباعه كلهم تتبع خطا امرأةٍ واستحضار سلوكها وتمثله في ركنٍ من أهم أركانه، ويجعل تقليد فعلها في حدثٍ معينٍ عبادةً مفروضةً على الجميع رجالًا ونساءً، هو دينٌ يبني لأتباعه حضارتهم على أساس أن تكون المرأة مصدرًا من مصادر الإلهام الحضاري.
وعندما يجعل الإسلام المرأة ملهمًا في أعظم مؤتمرٍ للبشرية على الإطلاق، فعلينا أن نتساءل عن سبب بقاء شريحةٍ من العاملين في الحقل الإسلامي تستنكف عن الاستلهام من المرأة أو إبرازها رمزًا وقدوةً وأسوةً، واختزال حضورها ودعوتها للمحافل العامة في منطق الديكور الذي تفرضه ضرورات موضة الانفتاح وتكريم المرأة أو اقتصار معاني الإلهام المتعلقة بها على الماضي ودروسه مع تحييد لها في الحاضر ورسم المستقبل.
سؤال القدرات والتحديات
يضع إبراهيم عليه الصلاة والسلام هاجر في صحراء قاحلة وفي وادٍ غير ذي زرع، مع طفلٍ صغيرٍ وليس معها من الزاد إلا اليسير الذي يكفيها لوقتٍ قصير، ومع ذلك يتركها لمواجهة تحدي البقاء الذي يعد أخطر تحدٍ يواجه الإنسان.
استطاعت هاجر أن تواجه التحدي بمفردها، وأن تواجه رعب المستقبل المجهول في صحراء مترامية الأطراف وأن تتحمل مسؤولية طفلها الرضيع.
الذين يغيبون المرأة اليوم عن محافل العمل العام وميادين العمران ودروب الاستخلاف، ويسعون لإلغاء دورها باسم الإسلام إنما أرادوا لأمتنا أن تكون واديًا غير ذي زرعٍ لا روح فيها
زادها في ذلك اليقين بالله تعالى والإيمان بأنه لن يضيعها والإيمان بأنها قادرةٌ على أن تواجه الصعاب بمفردها ما دامت في معية الله تعالى ومرتكزها هو السعي والعمل الدؤوب ودفن الشعور بالعجز والقصور تحت أقدامها الساعية على الرمال الملتهبة.
فهل وعى الساعون بين الصفا والمروة أن سعيهم هذا إنما هو على خطا امرأة واجهت التحديات الصعبة بمفردها وحملت المسؤولية الكبيرة وحدها، ونجحت، نعم لقد نجحت.
وهلا أجاب المسلمون عن سؤال القدرات والتحديات من خلال بناء المرأة إيمانيًا وفكريًا ومهاريًا وسلوكيًا بما يجعلها قادرةً على مواجهة التحديات وتجاوز الصعاب إذا غاب السند المفترض الذي هو الرجل.
زمزم ورسالة الأثر الحضاري
بعد سعي هاجر عليها السلام كانت زمزم بئرًا تتدفق في قلب الصحراء القاحلة، فتنفخ في تلكم البيئة المقفرة روح الحياة، ويغدو الوادي غير ذي الزرع عنوانًا للحياة البشرية ماديًا وروحيًا أبد الدهر بعد ذلك.
زمزم كانت هديةً لامرأة سعت جاهدةً لأجل البقاء، فكلما شرب المرء من زمزم أو تفكر فيها كان عليه أن يرى في معانيها التي تشرب لها، أن المرأة بسعيها وحضورها وفاعليتها هي التي تحول صحارى البشرية إلى بيئاتٍ قابلةٍ للحياة، فالبشرية التي تغيب المرأة وتدفن سعيها وتكبت فاعليتها في الحياة وحضورها في المشهد العام هي صحارى ملحٍ لا زمزم فيها.
إن الذين يغيبون المرأة اليوم عن محافل العمل العام وميادين العمران ودروب الاستخلاف، ويسعون لإلغاء دورها باسم الإسلام إنما أرادوا لأمتنا أن تكون واديًا غير ذي زرعٍ لا روح فيها ولا مستقبل لها.
بحران لا برزخ بينهما
في الطواف تلتقي الأمواج البشرية لا برزخ بينها ولا يحجزها عن بعضها حاجز، أمواج الرجال والنساء، أشواطهم سبعةٌ للرجال والنساء لا فرق ولا تفريق، كلهم يطوفون حول محورٍ واحدٍ، ويؤدون مهمةً واحدةً، وهذه هي المرأة التي يريدها الإسلام في بنيانه الحضاري المرصوص، تطوف مع الرجل، محور طوافهم واحدٌ هو الاستخلاف في هذه الأرض وعمارة الكون بالإصلاح والإحياء، فلا تتأخر عنه ولا يتقدم عليها، ولا حواجز بينهما تمنع أداء المهمة المنوطة بكل واحدٍ منهما.
وكذلك بين الصفا والمروة يسعى الرجال والنساء على خطا امرأة، يشتركون في السعي ويتحدون في الوجهة ذهابًا وإيابًا، فلا تختص المرأة بمسارٍ مختلفٍ ولا ينفرد الرجال عنها.
وهكذا هي الحياة التي يرسمها الإسلام، سعيٌ مشتركٌ بين الرجل والمرأة ووجهةٌ واحدةٌ لا تشاكس فيها ولا تناقض ولا تصارع، سعيٌ مشتركٌ لا مغالبة فيه في وسط الطريق، ولا تحويل للوجهات، ولا تضاد في المصائر.
عدوٌ واحد ومعركةٌ واحدة
وفي رمي الجمار تقف المرأة جنبًا إلى جنب مع الرجل تستهدف معه رمز العدو المشترك بالسلاح ذاته وبكمية الذخيرة الرمزية ذاتها، لا تتأخر عنه في آلية الرمي ولا في عدد الحصى المعدة للرمي.
إنها المعركة الواحدة للرجل والمرأة معًا، المعركة ضد الباطل، والمعركة ضد الشيطان، فلا هي معركة الرجل وحده ولا هي معركة المرأة وحدها، بل معركتهما جنبًا إلى جنب بالقدر ذاته من المسؤولية ووجوب المواجهة.
في الحج لا يتحرر الإنسان من ربقة المادية فحسب بل تتحرر المعاني المتعلقة بالمرأة أيضًا من أغلال الأعراف
وتحدث الكارثة حين تتغير بوصلة المعركة فتصبح المرأة عدو الرجل كما يرى ذلك المغرقون في الذكورية، وعندما يغدو الرجل العدو الأول بل ربما الأوحد للمرأة كما تمارس ذلك “الفيمنيزم” والحركة النسوية المتمركزة حول الأنثى.
تحويل مسار المعركة وتغيير بوصلتها بعد تمركز كل من الرجال والنساء حول أنفسهم هو أحد نتاجات الإغراق والغرق في المادية التي يعمل الحج على الانعتاق منها والتحليق في فضاءات الروحية الشفيفة، واكتشاف الإنسان من جديد روحه التي أنهكتها المادية المهيمنة على الحياة، فيستعيد المرء توازنه في نظرته للأشياء وتعامله معها، وتقييمه للأعداء والأصدقاء في حياته القصيرة.
في الحج لا يتحرر الإنسان من ربقة المادية فحسب بل تتحرر المعاني المتعلقة بالمرأة أيضًا من أغلال الأعراف، وتتحرر المفاهيم من زنازين التقاليد، وفي الحج نعاين روح الإسلام التي جعلت الخلق من ذكرٍ وأنثى، وجعلت المرأة ملهمًا ومعلمًا.