“أنا اللي ياما صوته كان بديل لصوت العاشقين وأنا اللي ياما آهاته كانت طبطبة على المجروحين وأنا اللي ياما قال في بلد كلام غزل وكلام عتاب وقبل ما يشيب عمرها بيضمها ترجع شباب.. وأغني”.
من خلال هذه الكلمات حاول المطرب المصري محمد منير أن يحكي لنا باختصار عن مشواره الفني، مشروعه الغنائي الضخم الذي بدأ منذ السبعينيات وما زال مستمرًا، صوته الذي ارتبط في مخيلة العقل الجمعي بالكلمة الرافضة والتحريض على التغيير، تلك الكلمة التي بدأها سيد درويش في الفترة الزمنية من 1892-1923 وأكملها من بعده الشيخ إمام، لكن ما حدث مع محمد منير كان مختلفًا، دعونا نحكي لكم عن تجربة منير الغنائية ومراحل التطور التي مر بها.
دول عايروني وقالولي يا أسمر اللون ياللالي
شاب نحيل الجسم أسمر اللون يعيش في بلاد النوبة جنوب مصر رفقة شقيقاته الثلاثة وشقيقيه سمير وفاروق، لم يكن سمير يحب الفن كثيرًا، لكن شقيقه الأكبر فاروق كان مولعًا بالغناء وكان يرى في شقيقه الأسمر محمد منير بذرة فنية فريدة ولهذا السبب عرفه على زميله في جامعة قنا الشاعر عبد الرحيم منصور الذي كان وقتها شاعرًا مشهورًا يكتب أغانيه للملحن الشهير بليغ حمدي.
وإذا تحدثنا قليلًا عن السياق الثقافي والفني في مصر حينها يمكن القول إنه وفي أعقاب ثورة يوليو 1952 عاش الشعب المصري لأعوام طويلة تحت مظلة الصوت الواحد والمطرب الواحد مجتمعين حول قطبي الغناء: أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وحين توفيت أم كلثوم عام 1975 ومن بعدها عبد الحليم حافظ عام 1977 أُسدل الستار عن حقبة الصوت الواحد المرتبط بالسياسي ليعلن ميلاد فصل جديد من الغناء قائم على تعدد الأصوات في الساحة الغنائية.
وعلى الرغم من ذلك التعدد الذي شمل حينها هاني شاكر ومدحت صالح وعلي الحجار ومحمد الحلو لم يتم قبول محمد منير بسهولة في الوسط الغنائي، وهو الأمر الذي صرح به منير شخصيًا حين ذكر أن لونه الأسمر وشعره الكنيش عطلا مسيرته الفنية لسنوات طويلة، وفي تصريح آخر للفنان محمد الحلو ذكر أنه يتربع على عرش الطرب الأصيل في مصر ومعه هاني شاكر ومدحت صالح وعلي الحجار وهو الأمر الذي سبب غضبًا كبيرًا لمنير الذي رد عليه حينها: “خلاص.. أنتم الأربعة اللي ماسكين لواء الغناء العربي يعني؟ الخلفاء الراشدين؟ شتيمة.. طب اعتبرني بلال يا أخي”!
حين شبه منير نفسه ببلال مؤذن الرسول لم يكن يقصد فقط صوته الجميل ولكن كان يشير بالأساس إلى زاوية العنصرية واللون التي كانت تمارس ضده بشكل ممنهج وتركت بداخله إحساسًا عميقًا بالغربة والغضب وجعلته يعلن أكثر من مرة رغبته في اعتزال الفن والهجرة بشكل نهائي من مصر.
أشكي لمين؟
في بداية طريقه الفني كان منير متعثرًا فنيًا وجماهيريًا، لذلك لم تحظ ألبوماته الغنائية الأولى مثل “ممكن” و”من أول لمسة” بأي نجاح شعبي يذكر، لكنه كان مُحاطًا وقتها بنجوم حقيقية رفضت الانصياع لمبدأ السوق وصمموا على استكمال الدرب وكتابة الأغاني بعيدًا عن معايير السوق، عبد الرحيم منصور ذلك الشاعر الجنوبي الذي صادر جهاز أمن الدولة ديوانه الثاني “الثورة والعسس” وكان له عدة دواوين رُفضت ولم يتم طباعتها من الأساس مثل “رباعيات الموت والميلاد” و”ذكريات قناوي” كتب لمنير أفضل أغانيه مع الملحن النوبي أحمد منيب وكون الثلاثة معًا مشروعًا فنيًا متكاملًا تلاقت فيه الموسيقى النوبية الجنوبية مع الموسيقى الشرقية العربية وصنعت خلطة شديدة التميز استطاعت اختراق وجدان المصريين.
كان منير محسوبًا من الفنانين المغضوب عليهم من السلطة السياسية، حيث حرم لفترة طويلة جدًا من الظهور في التليفزيون المصري بسبب أغانيه المعارضة للنظام
في هذه المرحلة كان منير ومنيب ومنصور يخوضون معركتهم في إثبات أصالة ما يقدمونه، وخلال الثمانينيات بدأ منير يثبت نفسه كنجم كبير على الساحة الفنية، فنان أصيل يحمل تراثه النوبي فوق ظهره ويتجول به محاولًا صنع تجربة جديدة تؤهله لمكانة أكبر ومع بداية التسعينيات بدأ منير بتقديم أغاني الشيخ إمام مثل يا إسكندرية وبلح أبريم وتوت حاوي ولكنه أعاد تلحينها وتوزيعها، كما غنى منير أيضًا كلمات الشاعر المعارض الكبير فؤاد حديد “الليلة يا سمرا” وهي أغنية تحمل قصة خاصة إذ كتبها حداد في أثناء اعتقاله داخل سجن الواحات مع محمد حمام وأحمد منيب والمناضل زكي مراد، وقتها كان عيد ميلاد مراد الخامس والثلاثون وقرر حداد إهدائه أغنية “الليلة يا سمرا” التي لحنها داخل السجن أحمد منيب وغناها محمد حمام احتفالًا بعيد ميلاد صديقهم.
الشعب حبيبي وشرياني أهداني بطاقة شخصية
كان منير محسوبًا من الفنانين المغضوب عليهم من السلطة السياسية حيث حرم لفترة طويلة جدًا من الظهور في التليفزيون المصري بسبب أغانيه المعارضة للنظام ففي بطولة دورة ألعاب المتوسط في مارسليا عام 1992 غنى منير “وسط الدايرة” مع الفنانة أميرة وحين عاد إلى مصر تعرض للتحقيق لأنه اختار أغنية سودانية في تمثيل رسمي لمصر، وفي احتفالية الألفية بالهرم سحب التليفزيون المصري كاميراته حين صعد منير إلى المسرح.
وفي ذلك الوقت الذي رفضته فيه السلطة السياسية والوسط الفني احتضنه الشعب واعتبروه تجسيدًا للأغنية الرافضة وأصبح “الكبير كبير يا محمد منير” الهتاف الرسمي لحفلاته في دار الأوبرا التي كانت تعج بالحاضرين، وقتذاك كان صوت منير يصدح عاليًا في سماء القاهرة “ولا انهزام ولا انكسار ولا خوف ولا حلم نابت في الخلا” وكان يغرد أيضًا “اخرج من البيبان الحر الضيقة” وأغنية ساح يا بداح التي تقول “طول العمر العسكر عسكر، بس الناس الناس كانت ناس وكان الحلم قبالي براح واه يا براح عمال بيضيق”، جميع تلك الكلمات كتبتها الشاعرة المميزة كوثر مصطفى التي أضافت الكثير من القيمة الفنية لمشوار منير الغنائي.
مسلسل المغني الكارثي وتخلي منير عن قضية النوبة
بدأ تخبط محمد منير الفني بعد ثورة 25 يناير حينها انتظر منه الجمهور تأييدًا قويًا لكنه لم يعلق أبدًا وذكر في حوار له أن موقف الفنان يكون محرضًا على التغيير قبل الحدث وليس بعد الحدث، هذا التخبط لم ينته عند هذه النقطة، فحتى على المستوى الفني لم يكن منير يضيف جديدًا، فكل إنتاجه الفني كان إعادة توزيع لأغاني قديمة، لكن التخبط الحقيقي أو بداية الانهيار حدث مع مسلسل المغني الكارثي للغاية الذي أضر كثيرًا بمشوار منير الغنائي.
في إحدى لقطات مسلسل “المغني” نرى مراكب التهجير قد وصلت إلى البر وفي كادر الشاشة يظهر لنا طفل صغير يحمل صورة جمال عبد الناصر ثم تسقط الصورة من يده ليوبخه والده قائلًا: “مش قلتلك خلي بالك منها دي صورة الزعيم”، لم يكن الحزن باديًا على وجه الوالد وكأنه راضيًا تمامًا عن التهجير إذ كان يسير مبتهجًا بين البيوت التي خصصتها لهم الحكومة.
كان هذا المشهد مروعًا وصادمًا للغاية لجميع النوبيين وهو الأمر الذي أدى لانطلاق الحملات النوبية التي تبرأت من منير ومسلسله، وفيما بعد نشر بعض النوبيين صورة أرشيفية توضح حقيقة مشهد الطفل، إذ كان يحمل في الحقيقة كلبه الخاص وقد سقط منه في أثناء الترحيل ومُنع من ملاحقته وسط بكاء الطفل ولم يكن هناك أي وجود في الحقيقة لصور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
والحقيقة أن النوبة عانت لسنوات طويلة من تجاهل الدولة ودعم معرفة أغلب المصريين بمظلويتهم التاريخية وقضيتهم العادلة، وحين ظهر منير واستعان بالتراث النوبي في مشواره الفني وجاءت أعماله معبرة عن الهوية والثقافة النوبية، كان لسان حال أهل النوبة أنه وأخيرًا أضحى لديهم صوتًا يعبر عنهم وحين جاء المسلسل انتظر الجميع حلقاته ظنًا بأنها ستعرض تاريخ منير والنوبة ولكن ذلك لم يحدث فالمسلسل لم يكتف بتسطيح القضية ولكنه زيف الحقائق أيضًا.
لماذا انقلب منير على أفكاره ومبادئه
كان منير يغني لجمهوره الشعبي في دار الأوبرا بتذكرة لم يكن يتعدى سعرها الـ20 جنيهًا، لكنه مؤخرًا أضحى يقيم حفلاته في الساحل الشمالي وقرى البحر الأحمر بأسعار فلكية، هذا إضافة إلى مشاركته الفنية في حفل المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ بعد مشاركته في غناء أوبريت “مصر قريبة” فيما اعتبر ترجمة صريحة لوقوفه بجانب النظام السياسي الحاليّ والرئيس عبد الفتاح السيسي.
ومن بعدها تحول منير فجأة إلى صوت من داخل السلطة يتماشى بشكل سلسل مع الخط السياسي لنظام الحكم العسكري في مصر، ولم يعد منير يرى أي حرج في إعلان صداقته الحميمية مع أهم رموز النظام الحاليّ.
في النهاية يجب القول إن الفنان في بعض الحالات قد لا يحمل تبعات مواقفه السياسية فالكل أحرار، لكن في حالة محمد منير جبريل متولي فالوضع مختلف، لماذا؟ لأن منير نحت لنفسه منذ البداية طريقًا غير مألوف ليس ببنيته الفنية والموسيقية فحسب، لكن أيضًا بكلمات خارج المسار المعروف، فبدأ منير يغني لحبيبة لها ملامح الوطن، منير منذ البداية انحاز للكلمة الرافضة وكان يبحث عن الواقع الأفضل، بحث عن الكلمة الرافضة فوجدها: وجدها في كلمات مقاومي السلطة السياسية مثل الشاعر الثائر عبد الرحيم منصور والكاتب الذي أرق مضجع السلطة لسنوات فؤاد حداد ثم ماذا فعل منير؟ أخذ كل هذا المشروع وارتمى به في أحضان السلطة الحاليّة.
إذن أغاني منير لا تحمل صوته فقط ولكن في الخلفية يأتي دومًا صوت المنع وصوت المعاناة والكلمات التي كُتبت داخل أقبية السجون.. أغاني منير تحمل روح فؤاد حداد وعبد الرحيم منصور وأحمد منيب ومحمد حمام.