قبل خمسة أعوام تقريبًا وخلال زيارة خاطفة لمحافظة الغربية استوقفني حديث الناس عن الدكتور محمد مشالي، الملقب شعبيًا باسم “طبيب الغلابة”، وبحكم فضولي الصحفي عزمت على خوض التجربة بنفسي لأتيقن مما يقال عن مكرمات الرجل الإنسانية، خاصة أننا في زمن ما أسهل فيه الكلام الذي يناقض معظمه الواقع شكلًا ومضمونًا.
بعد دقائق وجدت نفسي أمام منزل سكني قديم، مكون من 4 طوابق، ملاصق لمسجد أحمد البدوي بمدينة طنطا، ويعاني من الازدحام الشديد من المواطنين، معظمهم من النساء والأطفال، وحاولت الاقتراب منهم لمعرفة سبب هذا التكدس، وإن كنت أعلم الإجابة مسبقًا.
ردود الناس على تساؤلي جاءت ممزوجة بين السخرية والانبهار، فكيف تسأل عن سبب تكدس الناس أمام عيادة الدكتور مشالي، حقًا إنه سؤال سخيف، لكن في الوقت ذاته كانت الإجابات مبهرة، شعرت معها بعظمة هذا الرجل ومكانته في قلوب الناس.
الأمر لم يكن بعدًا عاطفيًا وفقط، فحين أومأت إلى إحداهن بأن هناك طبيبًا آخر أعرفه في إحدى المناطق القريبة من عيادة مشالي، وله خبرات طويلة، خاصة أنه حاصل على الدكتواره من بريطانيا، كدت أتعرض للتوبيخ إن لم يكن الاعتداء اللفظي، فكيف أطلب هذا الطلب وقد اعتادوا علاج طبيب الغلابة لهم ولأبنائهم على مدار أكثر من 50 عامًا.
اليوم استيقظ الجميع على خبر وفاة هذا النبيل، طبيب الغلابة فارق الحياة في صمت الكبار، تاركًا خلفه إمبراطورية من الحب زرعها على مدار سنوات عمره في صدور من عالجهم ومن عرفهم ومن زاملهم ورافقهم، فكان بحق عناية السماء لفقراء محافظته والبلدان المجاورة لها.
وحتى مساء أول أمس كان الرجل يباشر عمله بمنتهى السعادة المعهودة داخل عيادته، قبل أن يشعر بإجهاد بسيط اضطر بسببه للبقاء في المنزل بناءً على رغبة أبنائه، لكنه الأجل الذي لا ينتظر، حيث غيبه الموت، فجر اليوم، إثر تعرضه لأزمة قلبية، وفق ما كشف نجله الدكتور عمرو مشالي.
ومنذ تخرجه في كلية طب القصر العيني في القاهرة 5 يونيو 1967، حرص الرجل على تكريس كل دقيقة بحياته لخدمة الفقراء، فتخصص في الأمراض الباطنة وأمراض الأطفال والحميات وهي الأمراض الأكثر انتشارًا لا سيما في القرى والنجوع.
وفي عام 1975 افتتح عيادته الخاصة بطنطا، بجانب عيادتين في قريتي شبشير ومحلة روح الملاصقين له، فيما تكفل برعاية أخوته وأبناء أخيه الذي توفي مبكرًا وتركهم له، ليواجه الرجل وحده مشقات الحياة نصرة للفقراء واستجابة لوصية والده.
استوص بالفقراء خيرًا
“استوص بالفقراء خيرًا”، كانت هذه الوصية التي وصاها الوالد لولده الذي تخرج حديثًا في كلية الطب، وصية تحمل من معاني الإنسانية والرقي ما تقف الكلمات عاجزة عن وصفه، ورغم الحالة الاقتصادية التي يعايشها الشاب المحمل بأحلام الثراء وتحسين مستوى المعيشة، فإن الوصية كانت واجبة، فكانت منهاج حياة.
وبينما كانت أسعار الكشف في العيادات الأخرى تتجاوز الـ100 جنيه فأكثر، كان الرجل ممسكًا على جمر الوصية رغم حرارتها الشديدة في هذا التوقيت الصعب، فبدأ عيادته الخاصة بكشف رمزي يبلغ 5 قروش، زادت بعد سنوات طويلة لتصل إلى 10 جنيهات، ومجانًا لغير القادرين.
الأمر تجاوز رمزية الكشف إلى تقديم يد العون والمساعدة للمحتاجين، فتحولت عيادة مشالي إلى جمعية خيرية يقصدها كل من يعاني من عوز أو حرمان، وكان لا يترك سائلًا إلا وجبر بخاطره على قدر استطاعته، هذا بجانب منحه الدواء للعديد من المرضى دون مقابل.
وفي أحد حواراته الصحفية يتذكر طبيب الغلابة أحد المواقف التي تعرض لها بداية تعيينه في وحدة صحية بمنطقة فقيرة، التي أثرت عليه بشكل كبير ودفعته لأن يجعل حياته كلها للفقراء، حيث قال: “جاء لي طفل صغير مريض بمرض السكر وهو يبكي من الألم ويقول لوالدته اعطيني حقنة الأنسولين، فردت أم الطفل لو اشتريت حقنة الأنسولين لن نستطيع شراء الطعام لباقي أخواتك، وما زالت أتذكر هذا المواقف الصعب، الذي جعلني أهب علمي للكشف على الفقراء”.
إغراءات
كان الزهد عنوانه والإنسانية بالنسبة له منهج حياة أو بالأحرى فلنقل عقيدة ودين، لم تبهره زيف الحياة وزخرفها، كان متسقًا مع ذاته، مؤمنًا بدوره ورسالته، لذا رفض كل الضغوط التي تعرض لها للحاق بركب أصحاب السيارات الفارهة والبنايات الشاهقة من زملاء مهنته.
حتى بعد أن بلغ به العمر مبلغه، مؤديًا رسالته على أكمل وجه، مكتفيًا برصيد ملياري من الحب الصادق، وبينما يبحث المسنون في هذا الوقت عن سبل الراحة ينهون بها حياتهم، رفض الطبيب الإنسان الإغراءات المالية التي عرضتها عليه الإمارات من خلال برنامجها “قلبي اطمأن”.
الملايين التي عرضها غيث على النبيل لم تحرك فيه ساكنًا، ورغم المحاولات المضنية لقبولها حتى ولو في صورة عينية من خلال بناء عيادة متطورة وشراء أجهزة طبية حديثة، كان موقف الرجل واضحًا للغاية، في مشهد أصاب الجميع بالذهول، فليس الذي عاش طيلة حياته لخدمة الفقراء يقبل اليوم منحة من هنا أو هناك.
وأمام ضغوط المندوب الإماراتي لقبول العرض جاء رد مشالي مدويًا”: “الناس غلابة وأنا نشأت فقيرًا، ووالدي رحمه الله أوصاني بالفقراء خيرًا، أنا مش عايز عربية 10 أمتار ولا عايز بدلة بـ10 آلاف جنيه، أنا زاهد، أي حاجة بتكفيني، ساندوتش فول وطعمية يكفيني”.
لم يمل غيث من العروض والإغراءات في محاولة للاستفادة القصوى من شعبية هذا الرجل الذي تربع على عرش قلوب الملايين من محبيه، مبادرًا بالسؤال “لو حابب أساعد أعمل إيه؟”؛ ليفاجأ برد يعكس عمق إنسانية الطبيب قائلًا: “ممكن تروح تتبرع للأيتام أو جمعية خيرية أو مؤسسة الملاجئ في شارع سعيد”.
الإنسانية رسالة الطب السامية
رغم المستوى المعيشي المتواضع للطبيب وأسرته، فإنه أصر على إكمال مسيرته على النهج الذي اختاره والده وأكمله هو من بعده، حيث خدمة الناس ومساعدة الفقراء، وأن يكون الطب رسالة خير وإنسانية وليس تجارة بالبشر لتحقيق الملايين في الأرصدة والبنوك.
“الحمد لله أنا أديت واجبي طوال أكثر من 50 سنة راعيت العمل ورسالتي فى الحياه التى توراثتها من أبويا وأمي وتخرجت في كليه الطب بالقصر العيني بالقاهرة في المرتبة الأولى بتقدير عام 99.3%”، هكذا لخص طبيب الغلابة رسالته في الحياة التي حصرها في خدمة المرضى في مركزه طنطا ومحافظات الدلتا وعلى رأسها كفر الشيخ والدقهلية والمنوفية والشرقية.
وأضاف مشالي خلال لقاء صحفي له متسقًا مع ذاته ومرضيًا ضميره “أنا لا أملك سيارة لاستقلالها ولكن ربنا كرمني بصحتي وعلى الرغم من دخولي في نهاية العقد الثامن من عمري نحو 80 سنة ولكنني أحرص على الذهاب إلى عياداتي في قريتي شبشير الحصة ومحلة روح لإجراء الكشف عليهم، بقيمة 10 جنيهات لكل مريض”.
مختتمًا حديثه بعبارته الشهيرة التي لا تزال تمثل نهجًا قويمًا لرسالة الطب السامية: “المرضي غلابة ولازم أقف معاهم وأساعدهم طول ما حياتي فيها النفس وربنا بيعينني على خدمتهم، ودعائهم لي هو الكنز الذي أمتلكه طوال حياتي وعملي منذ تخرجي في كلية الطب البشري”.
وصية الخير واجبة
رغم شعوره بدنو أجله في الوقت الذي أدى فيه رسالته على أكمل وجه، فإن إيمانه بهذا الدور دفعه لأن يوصي به لأولاده من بعده، فكما استمسك هو بوصية والده في الفقراء خيرًا، ها هو مشالي يوصي أبناءه من بعده بما وصاه به والده، لتكمل العائلة مسيرتها الإنسانية العظيمة.
السكرتير الخاص بعيادته في طنطا، هاشم القماش، في تصريحات له بعد وفاة مشالي، قال: “وصية الراحل قبل وفاته هي أن تستمر أعمال الخير إلى الغلابة، من خلال أسرته وأبنائه”، وتابع أن من أهم أمنياته “خدمة الغلابة حتى آخر يوم في حياته” وهو ما تحقق حتى آخر رمق في الحياة.
يتمتع أبناء الطبيب بالصفات الإنسانية ذاتها، وقد عزموا على إكمال طريق الولد وإن لم يكن في المجال الطبي، فهناك مجالات أخرى يواصلون فيها الخير ومساعدة الفقراء، كما أوضح سكرتير عيادة طبيب الغلابة، الذي أكد أن موت أستاذه خسارة كبيرة للإنسانية.
لم تكن ردود الفعل على منصات السوشيال ميديا ترحمًا على الدكتور مشالي من فراغ، فما زرعه طيلة خمسة عقود كاملة من خدمة للفقراء ومساعدة للغلابة، ها هو يحصده الآن حبًا ومكانةً ودعوات مخلصة من قلوب محبيه ومن سمعوا عنه، في مصر وخارجها.
قد يواري جثمان مشالي الثرى، منهيًا حياة كريمة، مؤديًا رسالته على أكمل وجه، رافعًا شعار العزة والكرامة والزهد، لكنه سيبقى رمزًا للإنسانية ونموذجًا يحتذى به وقبلة لأصحاب الأيادي البيضاء، في وقت بات الثراء فيه هدفًا وغاية حتى لو على حساب أجساد الفقراء المنهكة بطبيعة الحال، يتساوى في ذلك الأفراد والحكومات.