أيام قليلة تفصل مصر عن انتخابات مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) المقرر إجراؤها أغسطس/آب القادم، بعد ست سنوات من إلغائه بمسماه القديم (مجلس الشورى) وسط جدل وانقسام داخل الشارع المصري بين من يعتبر المجلس إثراءً للحياة النيابية وآخرين يعتبرونه لا قيمة له في ظل وجود مجلس النواب الحاليّ.
جاءت عودة المجلس مرة أخرى ضمن التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان العام الماضي التي تسمح للرئيس عبد الفتاح السيسي بالبقاء في الحكم حتى 2030، التي كان ضمن بنودها عودة الغرفة الثانية للبرلمان رغم إجماع لجنة الخمسين التي وضعت دستور 2014 على ضرورة إلغائها كونها بابًا خلفيًا للفساد.
تساؤلات عدة أطلت برأسها منذ إعلان إجراء الانتخابات في الوقت الحاليّ الذي تشهد فيه البلاد أزمة اقتصادية خانقة بجانب عدم القضاء بعد على فيروس كورونا المستجد، ورغم تكرار وزارة الصحة والحكومة بتجنب أي تجمعات مع استمرار فرض بعض الإجراءات الاحترازية، فإن الإصرار على إتمام الانتخابات كان مثار جدل كبير.
يأتي هذا الإصرار بينما تواجه الدولة المصرية العديد من التحديات التي يهدد بعضها الأمن القومي المصري، سواء فيما يتعلق بملف سد النهضة الإثيوبي الذي يضع مستقبل الأمن المائي على المحك، أم تصاعد التوتر على الحدود الغربية حيث الملف الليبي لا سيما بعد تفويض البرلمان للجيش المصري بالقيام ببعض المهام خارج الحدود.
الكلفة الاقتصادية الباهظة المتوقعة جراء العملية الانتخابية على مستوى محافظات الدولة بينما تواجه الحكومة أزمة اقتصادية كبيرة كغيرها من بقية الدول كإحدى تبعات تفشي وباء كورونا الذي أصاب الاقتصاد العالمي بحالة من الشلل التام، كانت هي الأخرى على قائمة النقاط المثيرة للجدل.
كانت الهيئة الوطنية للانتخابات في مصر قد أعلنت عن ملامح الجدول الزمني لانتخابات الشيوخ، لافتة إلى إجرائها يومي 9 و10 من أغسطس/آب خارج البلاد، ويومي 11 و12 من نفس الشهر داخل البلاد، على أن تُعلن النتيجة يوم 19 من أغسطس.
وبحسب القانون الجديد سيتم تشكيل المجلس من 300 عضو، تجرى الانتخابات على مئتي منهم فقط بنظامي القائمة والفردي، أمام الثلث الباقي البالغ مئة مقعد فسيعينه رئيس الجمهورية، على أن تكون مدة العضوية 5 سنوات في الدورة الواحدة.
الإستراتيجيات المتبعة لإدارة المشهد الانتخابي تذهب إلى أن هناك محاولة لاستنساخ الحزب الوطني القديم
القراءة الأولية للأسماء المرشحة لخوض هذا الماراثون الذي من الواضح ستغيب عنه المنافسة المعتادة بصورة كبيرة، تشير إلى حالة من التوافق شبه التام على الأسماء المختارة لشغر المقاعد، في ظل وجود قائمة واحدة فقط دون منافس، هذا بجانب عودة رموز الحزب الوطني المنحل (الحزب الحاكم إبان حكم حسني مبارك) الأمر الذي ينذر بعودة المال السياسي مرة أخرى للساحة رغم الشعارات المرفوعة مؤخرًا بإقصائه من المشهد لما يترتب عليه من إفساد للعملية السياسية.. فهل تشهد مصر عودة للحزب الوطني بحلة جديدة؟
الوجه الآخر للحزب الوطني
الإستراتيجيات المتبعة لإدارة المشهد الانتخابي تذهب إلى أن هناك محاولة لاستنساخ الحزب الوطني القديم لكن بصورة أكثر تقدمًا، تتناسب والتغيرات التي شهدتها الساحة المصرية، حيث قفز حزب “مستقبل وطن” بباراشوت دون سابق إنذار أو مقدمات ليتحول في غضون أقل من 4 أعوام إلى الحزب رقم واحد في الدولة.
التحالف الذي تم تدشينه لخوض الانتخابات برعاية الحزب المعروف دعمه من الأجهزة السيادية في البلاد، الذي جاء تحت مسمى “تحالف القائمة الوطنية من أجل مصر” يكشف بصورة كبيرة عن هندسة المشهد بالشكل الذي يسمح بالخروج بمجلس موالٍ تمامًا للنظام، وشبه خالٍ من أي أظافر للمعارضة، المستأنسة منها والخشنة.
ويضم التحالف بجانب “مستقبل وطن” الذي يرأسه رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق المستشار عبد الوهاب عبد الرازق، عددًا من الأحزاب الأخرى على رأسها: الشعب الجمهورى، الوفد، مصر الحديثة، حماة الوطن، المؤتمر، المصري الديمقراطي الاجتماعي، الحركة الوطنية المصرية، الإصلاح والتنمية، الحرية المصري، التجمع.
من الملاحظات التي لفتت الأنظار غياب بعض الأحزاب المعروف ولاؤها للنظام من القائمة المختارة التي تضمنت أسماء أحزابًا ربما تكون بعيدة نسبيًا عن الأضواء، وعلى رأس الأحزاب التي تم استبعادها “الغد” الذي يرأسه المرشح الرئاسي السابق، موسى مصطفى موسى، الذي طالما أثنى السيسي عليه أكثر من مرة بسبب مشاركته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بجانب حزب “المصريين الأحرار”.
معلوم أن التشكيلة المختارة تم التوافق عليها بعد مشاورات عدة ووفق حسابات خاصة بالحزب المقرب من السلطة، فلا يعلم أحد المعايير التي على أساسها تم توزيع المقاعد على الأحزاب، خاصة أن بعضها جاء مفاجأة، مثل حزب الشعب الجمهوري، الذي رغم محدودية إمكانية وقلة حضوره في الشارع، حاز عددًا كبيرًا من المقاعد مقارنة بأحزاب أخرى أكثر حضورًا وتأثيرًا منه.
عودة المال السياسي
جولة سريعة داخل كشوف المرشحين لخوض انتخابات الشيوخ، سواء كان تحالف “القائمة الوطنية من أجل مصر” أم المرشحين على المقاعد الفردية، يرى أن الظاهرة الأكثر حضورًا هي سيطرة المال السياسي، فمعظم المرشحين رجال أعمال ممن تربوا على موائد مبارك قديمًا.
لعب أبو هشيمة دورًا مؤثرًا في أعقاب تظاهرات الـ30 من يونيو/حزيران 2013، خاصة فيما يتعلق بتهيئة المناخ الإعلامي لتقبل النظام الجديد وتشويه صورة الثورة
ويتصدر قائمة رجال الأعمال المشاركين في الماراثون: أحمد أبو هشيمة، رئيس مجلس إدارة مجموعة حديد المصريين صاحب الـ45 عامًا، وأحد الأذرع الاقتصادية والإعلامية التي استعان بها نظام السيسي خلال السنوات الماضية في إحكام السيطرة على المشهد الإعلامي عبر “إعلام المصريين” الذي كان يرأسها.
لعب أبو هشيمة دورًا مؤثرًا في أعقاب تظاهرات الـ30 من يونيو/حزيران 2013، خاصة فيما يتعلق بتهيئة المناخ الإعلامي لتقبل النظام الجديد وتشويه صورة الثورة ورموزها، لا سيما أنه كان يمتلك النصيب الأكبر من أسهم بعض وسائل الإعلام المؤثرة مثل “أون تي في وجريدة صوت الأمة، ولاحقًا مجموعة قنوات الحياة وموقع دوت مصر”.
هناك أيضًا الملياردير محمد حلاوة، الذي يشارك ضمن قائمة مستقبل وطن، ويمتلك عددًا من الشركات والعلامات التجارية الشهيرة، وتجمعه صلة قرابة مع زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية السابق في عهد مبارك، ويمتلك الكثير من الأسهم في بعض الشركات الكبيرة في الدولة.
ومن أشهر أباطرة المال السياسي المقرر خوضهم الانتخابات القادمة، اللواء طارق رسلان، نائب رئيس حزب المؤتمر، الذي يلقب بـ”المليونير الغامض”، لامتلاكه ثروة كبيرة، بدأ الحديث عنها قبل أكثر من 10 سنوات، وهو أحد الأسماء البارزة في عالم المال والأعمال في مصر.
هذا بخلاف عشرات رجال الأعمال الآخرين منهم الملياردير محمد منظور ورجل الأعمال أحمد الخطيب ورجل الأعمال عبد القادر الجارحي وحسام الخولي، نائب رئيس حزب مستقبل وطن، الذي يمتلك شركة “نيو موتورز” العاملة في مجال الآلات الزراعية.
كما تضمنت القائمة أعضاءً سابقين في الحزب الوطني على رأسهم: المستشار عصام هلال وعادل ناصر والدكتور أحمد جلال أبو الدهب، نجل جلال أبو الدهب وزير التموين الأسبق، وعبد الحكيم حساني العش ومصطفى قدري الشريف ومحمود أبو سديرة، وجميعهم كانوا أعضاءً برلمانيين في عهد مبارك.
القيادات الأمنية السابقة هي الأخرى لها مكان بارز على القائمة المختارة، منهم: اللواء فاروق مجاهد مساعد وزير الداخلية السابق، والمرشح على المقعد الفردي في محافظة سوهاج، واللواء حسن البحيري المرشح على المقعد الفردي في محافظة كفر الشيخ، وأمجد إبراهيم طعيمة الذي كان عقيدًا سابقًا في “القوات البحرية”، والمرشح على مقعد فردي في الإسكندرية، بجانب العقيد أحمد عبد الجواد المرشح على القائمة في محافظة الشرقية.
ترويض المعارضة
حين ناقشت لجنة الخمسين التي تم تشكيلها لوضع دستور 2014 مسألة إلغاء مجلس الشورى، مكتفية بغرفة برلمانية واحدة هي مجلس الشعب الذي تغير اسمه لـ”مجلس النواب”، كان الجميع متفقًا وقتها على أن الغرفة الثانية للبرلمان كانت خلفية للفساد السياسي من الطراز الأول.
هناك إصرار على إجراء الانتخابات في موعدها، رغم الكلفة الباهظة المتوقعة
رئيس جامعة القاهرة السابق جابر نصار، أستاذ القانون الدستوري، في تصريحات سابقة له، كشف أن الدوافع الرئيسية لإنشاء مجلس الشورى إبان فترة مبارك، تتمحور حول هدفين رئيسين: الأول هو سيطرة الحزب الحاكم على الصحف وتكريس تبعيتها له، والثاني غلق الباب تمامًا أمام إنشاء أي أحزاب سياسية إلا بموافقة المجلس، ضمانًا لعدم خروج أحزاب معارضة للساحة.
وكان من التخوفات البارزة مع إنشاء الشيوخ تحويله لمنصة للترضيات السياسية، من خلال تعيين أسماء بعينها ذات مواقف داعمة للنظام، وتسير على النهج المرسوم، حتى لو كانت تنتمي ظاهريًا لفريق المعارضة المستأنسة، كما كان الوضع في عهد مبارك.
البعض يرى أن مجلس الشيوخ بصيغته الجديدة كما أنه من الممكن أن يكون مفيدًا للعملية التشريعية، إلا أنه سيكون أداة فعالة في أيدي النظام لترويض المعارضة – إن وجدت – وتفتيت أواصرها، وهو ما بدت مظاهره تلوح في الأفق مع تغير مواقف بعض الأحزاب المحسوبة على المعارضة حيال تلك الانتخابات.
أحزاب المصري الديمقراطي والإصلاح والتنمية والعدل، رغم أنهم كانوا من الأحزاب المتحفظة على الانقلاب على مكتسبات ثورة يناير ورفض المشاركة في أي استحقاقات دستورية انتخابية خلال السنوات الماضية، ها هي ترضى بالمشاركة في الشيوخ، مكتفية بالمنافسة على عدد محدود من المقاعد تحت قائمة “مستقبل وطن”.
وفي الجهة الأخرى أعلنت بعض الأحزاب الأخرى رفضها المشاركة في الانتخابات، معلنة في بيان مشترك لها مقاطعتها له، مؤكدة “المناخ المحيط بهذه الانتخابات بعيد عن أن يكون المناخ الصحيح لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، خاصة مع الأعداد الكبيرة من المواطنين في السجون بلا محاكمة أو حتى تحقيق”، ومن بين تلك الأحزاب: الدستور والكرامة والتحالف الشعبي والعيش والحرية.
ورغم ما تمر به مصر من تحديات على المستويات كافة، بجانب الأوضاع الاقتصادية المتأزمة جراء كورونا، فإن هناك إصرارًا على إجراء الانتخابات في موعدها، رغم الكلفة الباهظة المتوقعة، ليبقى السؤال: هل المصريون بحاجة فعلًا لغرفة تشريعية ثانية؟ تساؤل مستدرك على ألسنة قطاع كبير من الشارع في انتظار الأيام القادمة لعلها تحمل الإجابة عنه.