تحولت الجلسات العامة التي يعقدها البرلمان التونسي إلى فضاء لتصفية الحسابات السياسية بين الأحزاب، لا سيما أن بعض الكتل بالبرلمان أثارت جدلًا كبيرًا عبر اللوائح التي باتت تعرضها على البرلمان، فأغلبها لوائح لا تعني الشعب في شيء ولا تعالج قضاياه الاجتماعية أو الاقتصادية أو تلبي تطلعاته من أعمال المجلس.
يناقش اليوم البرلمان لائحة سحب الثقة من رئيسه راشد الغنوشي بعد أن تمت المصادقة بالتصويت على طلب الحزب الدستوري الحر بإلحاق إمضاءات نوابه وعددها 16 إلى لائحة سحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب، المقدم من 73 نائبًا، وذلك بطلب من رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر.
كما قرر المكتب البقاء في حالة انعقاد لمواصلة النظر في لائحة سحب الثقة، فيما كان من المنتظر أن يناقش البرلمان لائحة سحب الثقة من رئيس الحومة إلياس الفخفاخ لولا تقديمه استقالته يوم 15 من يوليو، أي بعد مرور خمسة أشهر على توليه المنصب. وجاءت الاستقالة إثر إعلان حركة النهضة أنها قررت سحب الثقة من الفخفاخ على خلفية اتهامات في ملف تضارب مصالح.
لوائح لا تعني مشاغل الشعب في شيء ولا تهم توقعاته وانتظاراته الاجتماعية أو الاقتصادية من البرلمان، لكنها أثارت انقسامات وجدلًا كبيرًا سواء داخل البرلمان أم لدى الرأي العام، وسبقتها لوائح أخرى أججت الصراع السياسي بشكل كبير خلال المدة الأخيرة.
لوائح أثارت جدلًا داخل البرلمان
أولى تلك اللوائح الخلافية التي أثارت ضجة في البرلمان خلال الفترة الأخيرة، كانت تتعلق بـ”رفض التدخل الأجنبي في ليبيا”، لائحة تقدم بها الحزب الدستوري الحر للمطالبة بإعلان رفض البرلمان للتدخل الخارجي في ليبيا ومناهضته لتشكيل قاعدة لوجستية داخل التراب التونسي، قصد تسهيل تنفيذ هذا التدخل تحت غطاء الاتفاقيات والمعاهدات الاقتصادية والاجتماعية والمالية.
وشددت اللائحة على عدم الاصطفاف وراء المحاور مهما كانت ورفض التدخل الأجنبي في الشأن الليبي من أجل المساس بوحدتها وسيادتها، وقد شهدت الجلسة تبادلًا للاتهامات بين النواب، لكن تم إسقاطها بعد أن وافق 94 نائبًا فقط على مشروع اللائحة وعارضها 68، فيما امتنع 7 نواب عن التصويت، ويتطلب تمرير اللائحة حصولها على الأغلبية المطلقة للأصوات، أي موافقة 109 أصوات، حسب الفصل 141 للنظام الداخلي للبرلمان.
اُتهمت رئيسة الحزب الدستوري الحر، عبير موسى التي تطالب بعدم الاصطفاف وراء أي طرف في ليبيا، بالاصطفاف وراء شرعية خليفة حفتر في ليبيا، خاصة أنها قدمت لائحة المطالبة بعدم التدخل في الشأن الليبي بعد هزيمة حفتر في الغرب الليبي وخسارته عدة مواقع مدنية وعسكرية إستراتيجية.
عبرت حركة النهضة، في بيان لها، عن قلقها من طرح اللائحة دون التنسيق مع رئيس الجمهورية قيس سعيد
كما تقدم نفس الحزب بلائحة تصنف جماعة الإخوان تنظيمًا إرهابيًا رسميًا، واعتبار كل شخص طبيعي أو معنوي تونسي له ارتباطات مع التنظيم، مرتكبًا لجريمة إرهابية طبقًا لقانون مكافحة الإرهاب، وقد رفض مكتب البرلمان في بيان صادر عنه تمرير اللائحة، موضحًا أنه “تداول في مشروع اللائحة التي تهدف لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية وقرر عدم تمريرها للجلسة العامة وذلك لمخالفتها لمقتضيات خاتمة الفقرة الأولى من الفصل 141 من النظام الداخلي (للمجلس) بحكم أن ما تتضمنه من طلب تصنيف جريمة إرهابية جديدة يدخل في مجال التشريع”، وفق مكتب المجلس.
فيما تعلقت اللائحة الثالثة التي أثارت جدلًا داخل البرلمان بـ”مطالبة فرنسا بالاعتذار من الشعب التونسي والتعويض له عما ارتكبته من انتهاكات في حقه فترة الاستعمار”، التي قدمها ائتلاف الكرامة، وقد اشتد الجدل أيضًا بشأنها داخل البرلمان بلغ حد تبادل العنف اللفظي، ولم تجد التأييد الكافي من النواب ممن يقدرون أن فرنسا الشريك الاقتصادي الأول لتونس، رافضين تمرير اللائحة وتأثيرها على التبادل التجاري بين البلدين وعلى الجالية التونسية في فرنسا، ولم ينتج عن اللائحة صراع داخل البرلمان فقط وإنما خارجه أيضًا، عبر تبادل تهم الخيانة والعمالة بين معارضي وأنصار المبادرة التي أسقطها البرلمان.
وقد عبرت حركة النهضة، في بيان لها، عن قلقها من طرح اللائحة دون التنسيق مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، مؤكدة “قلقها من طرح مثل هذه المبادرات المهمة والحساسة دون تنسيق وحوار مسبق بين مؤسسات الدولة وفاعليها الأساسيين في السياسة الخارجية، ودون تحقيق توافقات وطنية واسعة عن تفاصيل بنودها بين كل مكونات المشهد السياسي والمجتمعي، الذي يحولها إلى مصدر خلاف واستقطاب رغم نبل أهدافها”.
النظام البرلماني نظم اللوائح
ينص الفصل 141 من النظام الداخلي للبرلمان على أنه “يمكن لكل رئيس كتلة بمجلس نواب الشعب التقدم بلائحة لمناقشتها والمصادقة عليها في الجلسة العامة للمجلس بهدف إعلان موقف حول موضوع وحيد، على أن لا يتعلق محتوى اللائحة بإحدى اللوائح المنظمة بالنظام الداخل. ويتم تقديم اللائحة إلى رئاسة المجلس التي تتولى إعلام رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بها فورًا”.
ويعقد اجتماع لرؤساء الكتل برئاسة رئيس المجلس في أجل أسبوع من تاريخ تقديمها وذلك للنظر في إمكانية تعديلها، وتعرض على النقاش والمصادقة في جلسة عامة دون المرور باللجان في أجل لا يتجاوز شهرًا من تاريخ تقديمها، ولا تقبل مقترحات التعديل في شأن هذه اللوائح من قبل النواب إلا بموافقة أصحاب المبادرة، وتصادق الجلسة العامة على مشروع اللائحة بالأغلبية المطلقة لأعضائها، وتنشر اللوائح المصادق عليها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
وقد أشارت سامية عبو النائب عن التيار الديمقراطي إلى أنها ستقدم مقترحًا لإلغاء الفصل المتعلق بالسماح للنواب بطرح لوائح برلمانية، وذلك لتفادي استغلالها من النواب وحتى الأحزاب لتصفية حسابات سياسية وخدمة أجندات خاصة.
معركة اللوائح تخفي صراعًا سياسيًا
وعن الجدل الذي أثارته اللوائح في البرلمان أكد ياسين العياري عن حركة أمل وعمل أنه لن يشارك في المداولات والتصويت على أي لائحة تقدم في البرلمان طالما لم تستوف الشروط المناسبة، متهمًا بعض الأحزاب باستغلال اللوائح لعرض خدماتها على جهات أجنبية، وتصفية حساباتها على حساب أولويات الشعب ومصالح تونس وأمنها القومي.
بعض الأحزاب تستغل اللوائح للقيام بحملة انتخابية سابقة لأوانها على غرار الحزب الحر الدستوري الذي يجيش الرأي العام
من جهته أشار المحلل السياسي سالم بولبابة إلى أن “حرب اللوائح معركة تخفي وراءها صراعًا سياسيًا، لكنه صراع لا يعني الشعب في أي شيء، لأنه صراع لا يهتم بمشاغل التونسيين ومشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية، وهو بعيد كل البعد عما يحدث حتى على مستوى التحركات الاحتجاجية التي يشهدها الشارع اليوم في كل من الجنوب التونسي أو قفصة أو المرناقية وغيرها من المناطق التي تشهد احتجاجات لعدة أسباب”.
كما أضاف محدثنا “الطبقة السياسية تعيش غالبيتها غربة مكانية ومشاغلها غير مشاغل تونس العميقة، فمعركة اللوائح هي معركة تسجيل نقاط أو أهداف ولكن تسجيل أهداف في بلد جريح، لا سيما أن لوائح حزب اليمين المتطرف ليست إلا لوائح لتصفية حسابات، و يبدو أنها تخدم أجندات إقليمية ليس لها علاقة بالشأن التونسي على غرار مسألة تصنيف الإخوان كتنظيم إرهابي وما شابه ذلك، وهو ليس إلا مشروع إمارتي، والمفروض حتى ممن يقدم مثل هذه اللوائح أن يعطي دلائل على ذلك قبل إدانة أي طرف”.
مضيفًا “نفس الشيء في الموقف من مسألة العلاقات الخارجية، فالمعارك تدار في جلسات تحظى بتغطية إعلامية كبرى وتحظى بحضور قياسي للنواب، وهو حضور لا نجده في جلسات مناقشة مشاريع قوانين تهم التونسيين، حتى إن النصاب لا يكتمل خلال نقاش مشاريع اقتصادية واجتماعية أو مناقشة قروض من مؤسسات دولية تحتاجها تونس، على غرار مشروع السوق الإفريقية الحرة الذي تم إسقاطه، وهي مهزلة رغم أنه مشروع يخدم الصناعيين والتونسيين والاقتصاد التونسي ككل”.
على صعيد آخر أكد المحلل السياسي أن “بعض الأحزاب تستغل اللوائح للقيام بحملة انتخابية سابقة لأوانها على غرار الحزب الحر الدستوري الذي يجيش الرأي العام والدعايا حتى على المستوى الإعلامي، رافضين كل شيء من رئيس الجمهورية إلى رئيس البرلمان أو حتى الدستور، لتظل اللواح تطرح فقط لأسباب أيديولويجة تظهر في علاقة بالسياسيات الخارجية”.
من جهته أشار أسامة عويدات عضو المكتب السياسي لحركة الشعب أن “اللوائح أصبحت موضوع إثارة، كما أن اللوائح التي ليس لها صبغة إلزامية لا فائدة منها”، مضيفًا “ليس المهم اليوم اللوائح وإنما عرائض سحب الثقة، أولها عريضة سحب الثقة من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، ثم عريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي”، مؤكدًا ضرورة إصلاح المسار البرلماني ومسار عمله لخدمة الشعب.