في فيلم Accepted يقوم الطالب بارتليبي جينز بعمل موقع إلكتروني لجامعة وهمية واستخراج خطاب قبول منها كي يمتص غضب والديه وصديقته بعد رفضه في ثماني جامعات، ويُفاجأ بأن الموقع الافتراضي للجامعة المزعومة تلقى مئات الطلبات من الطلبة أمثال بارتليبي جينز، ورد هذا الموقع بشكل إلكتروني بالموافقة على هؤلاء الطلبة! وهذا أوجب على عاتقه إيجاد عناصر جامعة متكاملة من مبنى وأساتذة ومواد دراسية، لكنه قرر القيام بذلك على طريقته الخاصة.. فهل فعلًا إنشاء جامعة أمر بهذه السهولة والبساطة؟
في الحقيقة هو ليس كذلك وأعتقد أن هدف الفيلم كان انتقاد الجامعات التي تظهر من العدم ودون أن يكون لها أي تأصيل أكاديمي أو اعتراف رسمي بها وتقدم مناهج فارغة لا أهمية أو أصل لها، ولذلك فإنك قد تجد عشرات آلاف المعاهد والمراكز والمؤسسات التعليمية حول العالم، لكنها لن تكون جامعة كما ينبغي للجامعة أن تكون.
إذًا ما هي الجامعة؟
الجامعة كلمة عربية مشتقة من الاجتماع، أي الاجتماع على هدف معين وهو العلم والمعرفة، وهي مؤسسة أكاديمية تقدم تعليمًا من المستوى الثالث والرابع أي بعد المرحلة الابتدائية والإعدادية، وتقدم شهادات أكاديمية معترف بها عالميًا، واشتقت كلمة university من (باللاتينية: universitas magistrorum et scholarium) وتعني “مجتمع المعلمين والعلماء”. وصاغ هذا المصطلح جامعة بولونيا الإيطالية التي تعتبر أول جامعة تأسست، بالمفهوم الحديث للجامعات، وسبقتها جامعة القرويين أو القيروان التي أسستها فاطمة الفهرية في القيروان بمدينة فاس المغربية في القرن التاسع وتلتها جامعة الأزهر التي أسسها الفاطميون في مصر.
لكن فكرة الجامعة لم تبدأ في تلك الفترة، فهي مفهوم متجذر في المجتمعات الأوروبية والعربية الإسلامية حتى ما قبل العصور الوسطى.
في أوروبا
يُقال إن الجامعة مؤسسة أوروبية بامتياز وذلك لأن الكنيسة كانت تُدرس الفكر اللاهوتي أو الديني في العصور الوسطى بشكل أكاديمي وهناك مناهج محددة وأبحاث وأهداف علمية ودرجات أكاديمية متدرجة للطلاب ولو كانت محصورة في المجتمع الكنسي أو للرهبان فقط ومن يريد الانتساب للكنيسة دونًا عن العامة، وكانت الجامعات الأوروبية تدرس الطب والفلسفة والآداب والفنون العامة والعلوم الإنسانية والقانون إضافة إلى اللاهوت أو العلم الديني، وعلى الأغلب فإن سبب تدريس هذه المواد كان ارتباطها الوثيق باللاهوت والحياة الرهبانية في الكنيسة.
وقد كانت جامعة القسطنطينية التي أسسها الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني عام 425م في العاصمة البيزنطية من أوائل المؤسسات التعليمية التي اعتبرها البعض من أوائل الجامعات في العالم رغم افتقارها إلى بنية الجامعة التي تم تحديدها فيما بعد كمجتمع يضم الأساتذة والطلاب ويتم تدريس مناهج تعليمية محددة فيه.
في المشرق العربي والدولة الإسلامية
كانت جامعة القرويين أولى الجامعات الإسلامية التي أسستها فاطمة الفهرية على أرض اشترتها من إرث والدها في مدينة فاس بالمغرب، حيث بدأت كمسجد ألحقت به دروس لحلقات العلم والتعليم ومن ثم تم إلحاق مبنى خاص بالدراسة بها وذلك عام 859م وبذلك تكون الجامعة الثانية بعد القسطنطينية.
وفي أواخر الألفية الأولى أنشئت جامعة الأزهر في مصر التي تعتبر الآن من أكبر الجامعات على مستوى الوطن العربي، وتتالى إنشاء الجامعات على مستوى العالم بعد أن كان المفهوم العلمي لها متفقًا عليه بشكل ضمني، ومنذ بدايات القرن الحادي عشر بدأ استبدال المعاهد التعليمية التقليدية وتسميتها بالجامعات وتأسيس جامعات مختلفة في دول عدة.
وفي عام 1088 تأسست جامعة بولونيا في إيطاليا التي تعتبر رسميًا أقدم جامعة في العالم وبدأت كمدرسة رهبانية كاثوليكية ثم انفصلت مع زيادة عدد الطلاب، وفي الجامعة 23 كلية تُدرس الفنون والعلوم المختلفة والطب والطب البيطري والقانون والزراعة والهندسة والرياضيات والصيدلة، وهي أول جامعة منحت درجة الدكتوراه عام 1219.
تطور مفهوم الجامعات
من حلقات التعليم في المساجد والكتاتيب ودروس الدين المسيحي في الكنائس إلى مبانٍ ضخمة ومناهج عمل عليها عشرات الأساتذة والمتخصصين وتم تطويرها على مدى سنوات طويلة، من مناهج بسيطة محددة تشمل العلوم الدينية الإسلامية والمسيحية ودروس فردية يتعلم من خلالها الطالب ما يريده من علم من أستاذ واحد يلازمه لفترة طويلة ثم ينتقل لغيره كما كان يفعل العلماء المسلمون أو من قسيس مهمته تعليم طلابه الكهنوت المسيحي وعلم اللاهوت كما تعلمه من أستاذه إلى مناهج كبيرة ومحاضرات وعلوم متنوعة من أساتذة مختلفين ومتخصصين في مختلف المجالات.
هكذا تطور العلم بشكل تدريجي مع توسع المعلومات وزيادة تخصص العلوم والاكتشافات العظيمة وزيادة قدرة الإنسان على معرفة الكون والعلوم بشكل أكبر وأوسع وأعمق، الأمر الذي استدعى هذا الانتقال العلمي الذي أفاد البشرية وجعل العلماء والباحثين أكثر قدرةً على الابتكار والاكتشاف.
ورغم أن الجامعات قد تكون قليلة العدد نسبة لبقية المؤسسات التعليمية في العالم مثل المعاهد التخصصية والكليات التقنية والمراكز التي تقدم دورات تخصصية في علوم معينة أو تقوم بالتدريب على مهارات علمية وعملية، فإن الجامعات تقدم رؤية أكثر شمولية للعلم والتخصص الذي يدرسه الطالب وتقوم بربطه ببقية العلوم بطريقة تجعل العلوم كلها عبارة عن حلقات متداخلة معًا.
عند دراستي للكيمياء في الجامعة كانت الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا من المواد التي درسناها في الجامعة على مدى سنوات الدراسة بشكل يربط هذه العلوم بالكيمياء وبدا أنه من المستحيل دراسة كل منها على حدة، وإذا كنت ممن يدرس العلوم التربوية وعلم الاجتماع فإنك ستحتاج لدراسة بعض العلوم الإنسانية والتاريخ والفلسفة وحتى الإحصاء لإجراء أبحاث اجتماعية على أسس علمية صحيحة، وحتى إنك ستحتاج لدراسة بعض العلوم الصحية لفهم تأثيرها على تفكير الإنسان وتربيته وتعامله مع الآخرين وتقييمها بشكل شمولي كامل، ولا يمكن أن تدرس الطب وتصف الدواء وتشخص المرض دون دراسة الكيمياء التي تحكم جسم الإنسان والعوامل النفسية التي تؤثر على الإنسان وتغير عمل الأعضاء.
وما يميز الجامعات في مناهجها التعليمية التي جاءت وليدة سنوات من البحث والتجريب أمران اثنان:
التخصص الرأسي
حيث يختار الطالب تخصصًا معينًا يدرسه ويتخرج في الجامعة بشهادة أكاديمية تعترف له أنه مُلمّ بهذا العلم من جوانبه كافة بطريقة تؤهله للعمل به وتعليمه، وحيث أصبحت التخصصات أكثر دقة فإننا لم نعد نرى طبيبًا فقط، بل هناك طبيب باطني بتخصص الجهاز الهضمي مثلًا أو تخصص أمراض الصدر وقد يكون أكثر دقة حيث يكون متخصصًا في أمراض الصدر والتحسس والربو بالذات.
هناك عشرات الجامعات الوهمية الموجودة حاليًّا التي تبيع علومًا وهميةً مثل علوم الطاقة والطب البديل وتبيع شهادات مزيفة لهذه العلوم
المنهج الشبكي
كما سبق وقلت فإن الجامعات تعتمد في مناهجها على الربط بين العلوم المختلفة بما يتناسب مع التخصص المدروس، فتعطي لطلاب العلوم البيولوجية ما يحتاجونه في دراستهم عن الكيمياء والفيزياء والرياضيات ويتعلم دارسو الاقتصاد والمحاسبة ما يلزمهم من العلوم الرياضية التي قد تختلف بشكل ظاهري عما يتعلمه طلاب العلوم.
وهذا الارتباط لا تُعلمه المؤسسات التعليمية والكورسات المتفرقة وتخرج شخصًا متخصصًا في أي من المجالات، بل تساعد على تطوير ملكات الإنسان ومهاراته الحياتية والعملية التي قد لا تُركز عليها الجامعة في مناهجها.
الجامعات الافتراضية ومستقبل الجامعات
مع تطور العلوم والتعليم وانتشار التعليم عبر الإنترنت كان لا بد للجامعات أن تواكب هذا التطور، فتم افتتاح جامعات رديفة للجامعات النظامية وتقدم ذات المناهج بشكل معدل بسيط وتمنح شهادات رسمية معترف بها عبر الإنترنت وكانت بريطانيا أول من أنشأ الجامعة الافتراضية بتخصصات محددة يمكن تعليمها عبر الإنترنت دون الحاجة للتدريب العملي والتجارب مثل العلوم الإنسانية والاقتصاد، ثم انتشرت عبر العالم وكانت الجامعة الافتراضية السورية التابعة لوزارة التعليم العالي التي تم تأسيسها عام 2002 من أوائل الجامعات الافتراضية في الوطن العربي.
وفي عام 2020 الذي بدأ بجائحة الكورونا كان لا بد من اتخاذ نهج التعليم الافتراضي في كل دول العالم وعلى المستويات التعليمية كافة من مرحلة التعليم الابتدائي حتى الجامعي والدراسات العليا، وأظن أننا سنشهد تطورًا ملحوظًا في التعليم الافتراضي النظامي الجامعي في الفترة القادمة وبشكل سريع خصوصًا إذا حدثت موجة أخرى للوباء في الخريف القادم كما يتخوف البعض قياسًا على الإنفلونزا الإسبانية.
جامعات وهمية
وعلى غرار الفيلم الذي تحدثنا عنه فإن هناك عشرات الجامعات الوهمية الموجودة حاليًّا التي تبيع علومًا وهمية مثل علوم الطاقة والطب البديل وتبيع شهادات مزيفة لهذه العلوم وتخرج أشخاصًا يدعون التخصص بهذه المجالات ويبيعون الوهم للعامة الذين لا يجيدون التفريق بين المتخصص ومن درس بضعة كورسات متفرقة ليخرج عليهم بنظرياته وعلمه الخاص خصوصًا في زمن السوشيال ميديا وقنوات اليوتيوب التي لا تحتاج إلا إلى هاتف بكاميرا وقدرة على الكلام وجذب الناس للمتابعة.
لذلك قد يبدو من شبه المستحيل إلغاء الجامعات أو إلغاء الاعتماد عليها واعتماد شهادتها مرجعًا علميًا يدل على أن حامله قد درس العلم المذكور وتبحر في تخصصه وتعلمه من ألفه إلى يائه بارتباطه ببقية العلوم والأفكار، وتبقى المهارات أمرًا متعلقًا بالشخص نفسه الذي يمكنه أن يتعلمها بسهولة إذا لم يكن يملكها بشكل فطري.