يبدو أن الأمور في المسار التفاوضي لسد النهضة تتجه نحو مزيد من التعقيد رغم التصريحات التطمينية الصادرة عن العواصم الثلاث (القاهرة – السودان – أديس أبابا)، وهو ما توثقه بشكل كامل المواقف الرسمية المتعارضة لدى أطراف الأزمة، والتي تذهب في اتجاه الطريق المسدود إن جاز التعبير وصفًا لما وصلت إليه الأوضاع الراهنة.
التعنت الإثيوبي في قراءة المشهد والإصرار على أحادية السير بعيدًا عن المسار المصري السوداني، متنصلًا من الوصول إلى اتفاق قانوني متفق عليه، وملزم للجميع، بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، يضع العربة أمام الحصان، وهو ما قد يجعل من نشوب مواجهات عسكرية – مباشرة أو غير مباشرة – احتمال مطروح على طاولة النقاش بعدما كان خيارًا مستبعدًا في السابق.
الضغوط الشعبية التي يعاني منها المفاوض المصري بسبب تحميله مسئولية الوصول إلى هذه المرحلة الحرجة، التي بات فيها مستقبل الأمن المائي على المحك، بجانب المخاوف التي تنتاب الشارع السوداني جرًاء تداعيات عملية الملء على حياة الشعب السوداني، وضعت أديس أبابا في حرج أمام المجتمع الدولي.
وتحول ملف سد النهضة إلى ورقة سياسية مثمرة يمكن اللعب بها لتحقيق العديد من المكاسب السياسية، فكما استخدمها رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لاستعادة شعبيته المتناقصة وترويض المعارضة في الداخل عبر تعبئة الجبهة الداخلية في مواجهة هذا المشروع القومي، هاهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يسعى للهدف ذاته، بينما هو على مشارف انتخابات رئاسية شرسة، يحلم من خلالها بولاية ثانية داخل البيت الأبيض.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 دخلت واشنطن على خط الأزمة عبر وساطة للتوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، حيث استضاف ترامب وزراء خارجية الدول الثلاث في البيت الأبيض أكثر من مرة، إلا أن أديس أبابا تراجعت عما تعهدت به، وامتنعت عن حضور اللقاء المزمع فيه التوقيع على اتفاق واشنطن، فيما تحفظت الخرطوم وقتها، لتدخل الوساطة الأمريكية مرحلة تجميد مؤقت.
ومنذ أيام قليلة عادت الولايات المتحدة لمسرح الاحداث مرة أخرى، وذلك حين نشرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية تقريرًا أشارت فيه إلى أن إدارة ترامب تدرس مسألة منع بعض المساعدات والمنح المقدمة لإثيوبيا بسبب موقفها المتعنت حيال المسار التفاوضي للسد، بما يهدد دولتي المصب، مصر والسودان.
التقرير المنشور اعتبرته وسائل الإعلام المصرية رسالة إنذار وتحذير لأديس أبابا، بما يعيد واشنطن لأضواء الوساطة مرة أخرى، غير أن الصحيفة الأمريكية تطرقت إلى معضلة ربما تجعل من تنفيذ أمريكا لهذا التهديد مسألة يساورها الشك، وذلك بسبب النفوذ الصيني المتنامي في إثيوبيا.. فهل تعيد بكين تشكيل موقف إدارة ترامب من سد النهضة مرة أخرى؟
توتر الأجواء
الأجواء المتوترة بسبب تعثر المفاوضات بلغت مداها حين نشر التلفزيون الإثيوبي قبل أيام فيديو يعرض لأول مرة لحظة ملء بحيرة “سد النهضة”، وهو الأمر الذي أثار حفيظة المصريين والسودانيين في آن واحد، ما دفع الرأي العام هنا وهناك إلى المطالبة بالتصعيد.
الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال كلمة له اليوم أثناء افتتاح المدينة الصناعية بالروبيكي، أشار إلى أن بلاده تحرص على العمل التفاوضي لحل أزمة السد، لافتًا إلى أن مفاوضات النهضة “معركة” ستطول، محذرًا من خطاب التهديد المسيطر على لغة الإعلام لدى الأطراف المختلفة.
المتحدث باسم وزارة الري والموارد المائية المصرية، محمد السباعي، يفسر حفاظ القاهرة على هدوئها في التعاطي مع التصريحات الإثيوبية والصور الملتقطة لبدء عملية الملء دون اتفاق، بأن بلاده لا ترد على الاستفزازات باستفزازات مقابلة، مؤكداً أنه لا تفريط في حصة مصر المائية.
وأضاف السباعي ردًا على من يتهمون مصر بضعف موقفها، أن ذلك غير صحيح، وأن الدولة المصرية لن تفرط في نقطة ماء واحدة، مكررًا التأكيد على أن ما تفعله إثيوبيا ليس سوى استفزازات لتحقيق مآرب أخرى، وأن بلاده لن تتعامل بالمثل، كما أنها لن تتنازل عن حقوقها المائية.
أما عن تأثير المرحلة الأولى من ملء السد والتي أعلنت عنها أديس أبابا، فأكد وزير الري المصري أن ذلك لم يؤثر على بلاده “لوجود احتياطي ومخزون مائي في بحيرة ناصر والسد العالي، ومناسيب المياه في بحيرة السد العالي في الحدود الآمنة”.
وعن مسألة نشوب مواجهة عسكرية بين القاهرة وأديس أبابا كما تردد بعض وسائل الإعلام هنا وهناك، أعلن السفير الإثيوبي في موسكو، أليمايهو تيغينو أرغاو، أن هذا أمر غير واقعي، موضحًا خلال تصريحات له لوكالة “سبوتنيك” الروسية: “الآن هناك مفاوضات ثلاثية بشأن السد تجري تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، وأعتقد أن جميع المشاكل ستحل قريبًا جدًا. سد النهضة الإثيوبي الكبير ليس سببًا في الصراع. السد منشأة ثمينة للمنطقة. إنه مصدر للتعاون، وليس للصراع”، مشيرًا إلى أن “قيام مصر بطلب تدخل مجلس الأمن الدولي في المفاوضات الثلاثية بشأن السد يعد أمرًا لا معنى له ولا جدوى منه”.
المقاربة الأمريكية لملف السد
على عكس ما يصدر إعلاميًا، فإن المقاربة الأمريكية لملف سد النهضة تعاني من التعقيد، وأنها ليست بالسهولة التي يمكن الحكم عليها منذ الوهلة الأولى، فالأزمة أكبر من تصنيفها على أساس حزبي، فليس كل الجمهوريين وعلى رأسهم ترامب مع الموقف المصري، ما أن ليس كل الديمراطيين عم أديس أبابا.
الحكومة الإثيوبية وضعت إدارة ترامب في حرج شديد أمام شعبه من جانب وأمام حلفاءه من جانب أخر، كما ضيعت عليه فرصة ثمينة يمكن توظيفها في الماراثون الانتخابي القادم، خاصة وأن من المتوقع أن يواجه منافسة شرسة من خصمه الديمقراطي بايدن.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تلوح فيها واشنطن بفرض عقوبات أو قطع مساعدات، حيث شهدت الأونة الأخيرة محاولات عدة، يتعلق معظمها معظمها بالدور الأمريكي المؤثر لسرعة صرف إثيوبيا دفعات قرض صندوق النقد الدولي، الذي وافق عليه المجلس التنفيذي للصندوق في ديسمبر/كانون الأول الماضي بقيمة 2.9 مليار دولار.
كما أن الطريقة التي تعامل بها آبي أحمد مع مبادرة ترامب للتوصل إلى اتفاق بشأن ملء السد، أثارت غضب الرئيس الأمريكي بصورة كبيرة، وكانت هذه المسألة هي محور اللقاء الذي جمع وزير الخارجية مايك بومبيو برئيس الحكومة الأثيوبية خلال زيارة الأول لأديس أبابا قبل عدة أشهر.
آبي أحمد يجيد فن التلاعب الدبلوماسي بصورة مميزة، حيث استطاع خلال الأشهر الماضية تحقيق أهدافه من وراء استمرار المسار التفاوضي، مستعينًا بدبلوماسية التسويف وكسب الوقت في مواجهة دبلوماسية النوايا الحسنة التي انتهجتها القاهرة وتدفع ثمنها اليوم.
رئيس وزراء إثيوبيا استطاع التهرب من تعهداته السابقة لترامب بشأن ضرورة التوصل إلى اتفاق وتجنب الفعل الأحادي، عازفًا على وتر ضرورة الإبقاء عليه في السلطة وفوز حزبه في الانتخابات المقبلة، كون ذلك الضمانة الوحيدة لترجمة أي اتفاق مع القاهرة والخرطوم بشأن السد، وهو السبب ذاته التي دفع واشنطن لتأجيل أي قرار سلبي ضده.. لكن يبدو أن هذا ليس السبب الوحيد.
الصين.. معضلة أمريكية
المأزق الذي وضع فيه آبي أحمد الرئيس الأمريكي لم يكن وحده كافيًا لاتخاذ موقف سلبي ضده لحساب القاهرة والخرطوم، حيث هناك دوائر مؤثرة داخل الإدارة الأمريكية وأروقة وزارة الخارجية على قناعة تامة بضرورة التوازن في العلاقات مع أطراف النزاع، مهما بلغ تعنت طرف دون آخر.
وفي الوقت الذي ترى فيه القاهرة دعمًا لموقفها أمريكيًا، مستندة إلى ما نشرته “فورين بوليسي” وضرورة العقاب على الموقف الأحادي من سد النهضة، يذهب آخرون إلى أن ملف السد في حد ذاته ليس المحرك الوحيد لتشكيل ملامح العلاقة مع تلك العواصم الإفريقية.
وتعد الصين على رأس الملفات التي يرى البعض تأثيرها القوي في تحديد وجهة أمريكا وسياستها الخارجية تجاه إثيوبيا، وهنا ينقسم الموقف إلى قسمين: الأول يرى بضرورة تقليل المساعدات لأديس أبابا وتقليم أظافرها عبر الضغوط الاقتصادية حتى العدول عن موقفها بما يحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية ويعزز من فرص ترامب في الانتخابات القادمة.
وفي الجهة الأخري يحذر فريق ثان من هذه الخطوة التي تمهد الطريق أمام ارتماء أديس أبابا في حضن الصين بصورة شبه كاملة، خاصة وأن بكين الداعم الأبرز بجانب موسكو لإثيوبيا في بناء السد، وهما بمثابة حائط الصد أمام أي قرار أممي يدين الدولة الإفريقية.
وعليه يفتقد الموقف الأمريكي الداخلي لتوجه موحد في التعامل مع أديس أبابا، وإن كانت الأمور يبدو أنها ستسير في اتجاه مناهضة النفوذ الصيني داخل إفريقيا بعدم ترك الساحة بالكلية أمامها، ما يعني حفاظ واشنطن على علاقتها مع أديس أبابا صاحبة الثقل القاري الكبير، حتى رغم تجاوزاتها وتعنتها فيما يتعلق بملف السد.
المال يتحدث
يمثل النفوذ الصيني داخل إثيوبيا كابوسا يؤرق مضاجع الأمريكان، فعلى الرغم من اختلاف التوجهات السياسية في الداخل الاثيوبي حول الوجود الصيني، إلا أن لغة المصلحة هي من تحدد في النهاية ملامح خارطة التحالفات، فيرى الإثيوبيون في الصين ملاذهم النهضوي وقاطرة التنمية التي تقودهم للأمام، فيما يعتبر الصينيون إثيوبيا بوابتهم الكبرى لتعميق نفوذهم داخل إفريقيا.
ويمثل العام 2000 التطور الأبرز للعلاقات الصينية الإثيوبية وذلك من خلال انطلاق منتدي التعاون الصيني الافريقي واطلاق إستراتيجية جديدة طويلة الأجل تضع أسس التعاون بين البلدين، والتي ترجمت على أرض الواقع بصورة كبيرة وصلت لأن تكون بكين المستثمر الأول والأبرز في الداخل الإثيوبي.
الاستثمارات الصينية في عشرات المشروعات الإثيوبية جعلت من الصين حليفا قويًا لأديس أبابا، ففي مجال السكك الحديد على سبيل المثال مولت بكين هذا القطاع بقيمة 475 مليون دولار في العاصمة وكذلك الطريق الدائري الذي تبلغ تكلفته 86 مليون دولار.
كما أشرفت الشركات الصينية على العديد من مشروعات البنية التحتية كالطرق والكباري وغيرها، فيما أظهرت بعض التقارير بأن نمو الاستثمار الصيني كان مرتفعًا بشكل مستمر وبمعدل نمو متوسط بأكثر من 52% سنويًا في إثيوبيا وذلك خلال العام 2017 فيما تعمل أكثر من 10 ألاف شركة صينية في دول إفريقيا.
وفي المجمل فإن النفوذ الصيني في إثيوبيا ربما يكون عائقًا كبيرًا أمام تجاوب واشنطن مع موقف القاهرة، وهو ما يضع المفاوض المصري في مأزق حقيقي، يدفعه لأن يعيد النظر في الإستراتيجيات المتبعة فيما يتعلق بأوراق الضغط التي يملكها بعيدًا عن الارتكان على الدعم الأمريكي له، ومن جانب آخر عليه إعادة تشكيل خارطة تحالفاته، فأصدقاء السيسي المقربين هم أكثر المستثمرين في بناء السد الذي يهدد المصريين بالعطش.