يرتبط موسم الحج في ذاكرة المسلمين، بالعديد من القصص والروايات والطقوس التي ترافق قوافل الحجيج إلى البقاع المشرفة، ولعل أكثر ما يميز الوارد إلينا من أخبار الحج القديم التي نقرأها في الكتب ورأيناها في بعض الصور العتيقة المأخوذة منذ أكثر من قرن، هو محمل الحج العظيم.
المسلسل السوري “الخوالي” يصور حالة المحمل الشامي وطريقة خروجه، كما يبين الاهتمام السلطاني العثماني بهذا الطقس الذي استمر لمئات السنين حتى اختفى في أوائل القرن الماضي. وبالنظر إلى أهميته التاريخية سنتناول في هذا التقرير تاريخ ظهوره وانتشاره وأنواعه.
المحمل الشامي
يطلق اسم المحمل على الهودج وهو القبة التي توضع على الجمال من أجل أن تركبه النساء في السفر والحروب، واختلف المؤرخون حول تاريخ ظهور المحمل، لكن تشير الكتب إلى أن أول من أرسل محمل الحج الشامي كان الملك الظاهر بيبرس، واهتم به اهتمامًا زخرفيًا كبيرًا، ثم توارث الحكام والأمراء هذا الاهتمام شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح طقسًا أساسيًا ومألوفًا.
كان الاهتمام الأكبر في عهد الدولة العثمانية، إذ تسابق سلاطين آل عثمان على الاهتمام بالقافلة والحجيج، وكانت دمشق آنذاك مركز انطلاق القافلة، حيث يتجمع حجاج إيران والأناضول والهند وباكستان وبنغلادش وأفغانستان والعراق وبلاد البلقان في المدينة، ويُعتقد أن أعدادهم كانت تصل بين الـ20 والـ40 ألفًا، وبطبيعة الحال كانت دمشق تزدهر اقتصاديًا في ذاك الوقت من السنة مع نشاط حركة البيع والشراء وازدحام الخانات.
يُذكر أن المحمل يمر بعدة محطات قبل أن يحط رحاله في مكة، وفي كل محطة تُقام الاستقبالات والأفراح قبل أن يغادرها، وتتعدد أنواعه وأشهرها الشامي والمصري واليمني والعراقي بالإضافة إلى محامل خرجت في حالة استثنائية وأخرى لم تستمر طويلًا، ولعل الأبرز والأهم هما المحملان الشامي والمصري نظرًا لعدة اعتبارات من أهمها طول فترة تسيير هذه القوافل الممتدة لمئات السنوات.
وفقًا للكاتب منير كيال في كتابه “محمل الحج الشامي” فإن محمل الشام عبارة عن “هيكل خشبي يعلوه هرم أو قبة مزين بالحلي والنفائس يحمله جمل قوي مزين هو الآخر بمختلف أنواع الحرير ومغطى بفاخر القماش، وكان بداخل المحمل مصحف مغطى بالحرير”، ويضيف كيال “المحمل، لم يكن يشكل جزءًا من طقوس الحج ولا من متطلبات قافلة أو ركب الحج، وكذلك لا يستفاد منه للركوب بل ولا ينقل فيه شيء من المتاع أو الأغراض المتعلقة بالقافلة أو بأمير الحج، بل كان كل ما يحمل فيه هو نسختان من القرآن الكريم”.
ويرى كيال أن المحمل ما هو إلا إضفاء نوع من القوة والسطوة للحكام الذين يرسلونه، بقوله: “لا يعدو عن كونه رمزًا يمثل السلطة التي يعود إليها ركب الحج المصاحب للمحمل، لقد أعطى المحمل أهمية تؤكد قوة وسطوة من يحرصون على إرساله إلى مكة بل وصار يفيض عليهم شرفًا عظيمًا يمدهم بالحكم فترات أطول”.
في عام 1708 ميلادية أصبح والي دمشق أمير الحج، وأصبحت الدولة العثمانية ترسل موظفين من إسطنبول للإشراف على شؤون الحجيج، وكانت المهمة الأساسية لأمير الحج الإشراف على أمن الحجيج ورعاية مصالحهم وحمايتهم من هجمات البدو الذين كانوا يطبقون على القوافل وينهبون ما يحمله الحجاج من أموال ومتاع، ومن هنا نشأت عادة “الصرة” وهي الأموال التي تُجبى كضرائب من ولايات الدولة وتدفع لزعماء البدو والقبائل التي تمر القوافل بأرضهم لصرف أذاهم عن الحجاج.
يقول المؤرخ إسماعيل حقى أوزون في هذا الخصوص: “يذكر أن الدولة العثمانية كانت تخصص للقبائل العربية التي يمر بها طريق الحج صرة من النقود الذهبية وكميات من الحبوب وخلعة فاخرة لشيوخها ولكن قد تحصل بعض الإجراءات الخاطئة من أمير الحج أو قد يحجب الشريف الصرة أو يعطيهم أقل مما هو مخصص لهم، فيؤدي ذلك إلى ثورتهم”.
رحلة المحمل من دمشق إلى مكة
يبدأ الإعلان عن انطلاق المحمل عبر تنقله في شوارع مدينة دمشق، حتى يبدأ الدمشقيون بالاحتفالات بما يسمى “يوم زيت الحرمين الشريفين”، ويأتي هذا الاسم نسبةً إلى نقل زيت الزيتون المتوجه إلى أرض مكة، وكانت منطقة كفر سوسة تحتضن هذا اليوم، ويتابع الدمشقيون الأفراح واحتفالتهم بيوم الشمع الذي يرافق المحمل لاستخدامه في إضاءة المناسك، كما أنهم يجهزون ماء الورد والملبس المحشو باللوز.
اليوم الرابع من شهر شوال يبدأ الاحتفال بدورة السنجق، وهو “لواء الرسول الأعظم” الذي يحضرونه من مسجد الصحابي الجليل أبي الدرداء في قلعة دمشق، إلى جامع السنجقدار، وبعد صلاة العصر يُطاف بالسنجق إلى قصر المشيرية ويوضع في القاعة باحتفال مهيب تتلى فيه الأناشيد الدينية ويظل اللواء تحت حراسة العسكر، وبعد خروجه من القلعة تُطلق المدافع ولدى خروجه ودخوله من المسجد وكذا الأمر عند خروجه من المشيرية.
يبدأ احتفال المحمل الأكبر بجولة المحمل والسنجق في المدينة، ويحضره الناس من كل مناطق المدينة والقرى المحيطة، ويشارك في الاحتفال كبار رجال الدولة والعلماء ومشايخ الطرق الصوفية والمنشدين، بالإضافة للعساكر الدمشقيين الذين يكونون بأبهى الحلل وأجمل الأسلحة، كما يحمل بعض الأشخاص المباخر في أيديهم وخلفهم ألوف من جنود المشاة والفرسان والدرك والهجانة المكلفين بمواكبة الركب.
يتقدم الموكب قاضي المحمل وأمير الحج، ثم يليهم الحجيج بترتيب معين، ويبدأ الموكب بالمسير في أحياء المدينة وسط فرحة عامرة، ثم يطوى المحمل وتوضع جميع مقتنياته في صناديق مختومة إلى يوم طلوع موكب الحج في الخامس أو السادس عشر من شهر شوال إلى مكة، ويكون الجمل الذي يوضع عليه المحمل ضخم البنية قويًا وأصيلًا، وكان يُوضع فيه نسخ من القرآن الكريم تُلف بالحرير وكسوة للكعبة المشرفة وكسوة لضريح النبي.
بعد انتهاء مناسك الحج، يتجمع الحجاج في المدينة المنورة حول المحمل والسنجق ويعودون في نفس الموكب الذي ذهبوا به، بعد ذلك يذهب رسول أمير الحج إلى دمشق ليبشر الناس بعودة الحجاج قبل وصولهم ببضعة أيام، ويبشر الناس بسلامة الحج ونظافته من الوباء والأمراض والمصائب، ويبدأ الناس بالسفر إلى مزيريب أو غباغب أو الكسوة وهي مناطق جنوبي سوريا من أجل استقبال الوفد.
المحمل المصري
أول ذكر لارتباط اسم مصر بالكعبة يعود إلى زمن الخليفة عمر بن الخطاب الذي طلب صناعة كسوة الكعبة من القماش القباطي الذي اشتهرت به مدينة الفيوم المصرية. وبدأت فكرة المحمل المصري من عهد شجرة الدر في عهد المماليك، وكانت الكسوة الخاصة بالكعبة توضع في صناديق تحملها الجمال، ومع قدوم الظاهر بيبرس بدأت أشكال الاحتفال بانطلاق المحمل تزداد وتكثر، الجدير بالذكر أن بيبرس كان يُلقب بخادم الحرمين.
والمحمل المصري عبارة عن إطار مربع من الخشب هرمي القمة مغطى بستار من الديباج الأحمر أو الأخضر، مطرز بخيوط من الذهب، ويوضع بداخله مصحفان صغيران.
كان يطوف المحمل في القاهرة في جولة تستمر لـ 3 أيام ضمن أجواء احتفالية واسعة في جميع أنحاء المدنية، ويحيطه حراس الموكب وشيوخ الطرق الصوفية بالإضافة إلى بعض المهرجين الذين كانوا يُسمون “عفاريت المحمل”.
ومن ثم تبدأ فعاليات انطلاقه إلى مكة بعد أن يأذن الحاكم بالمسير ويتوجه المحمل إلى العباسية، وهناك يبيت ليلته بالجمال، ثم يتحرك تجاه القلزم بالسويس، ليستقل البواخر، ويظل محفوفًا بالاحتفالات حتى يصل إلى مكة في آخر شهر ذي القعدة.
وكما محمل الشام كان لمحمل مصر أمين الصرة، ثم ترسل المالية إلى كليهما خطابًا محددة فيه واجباتهما، وكشفًا بعدد الموظفين والأطباء والعكامة والمشاعلية وغيرهم من الضباط والجنود والخدم، مع ذكرها عدد الخيام والجمال وسائر المستلزمات.
أمر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون حاكم مصر بوقف خراج قريتين بالقليوبية هي قرى باسوس وأبو الغيط من أجل نفقات المحمل، إلا أنه ومع مرور السنوات لم يعد يكفي هذا الوقف، حتى أتى العهد العثماني وأمر السلطان سليمان القانوني بوقف 7 قرى أخرى بالإضافة إلى رفع الضرائب عن أهالي تلك القرى، أما في زمن حكم محمد علي باشا فكانت نفقة كسوة الكعبة من خزينة الدولة التي أسست دار الخرنفش لتصنيع الكسوة وظلت تعمل حتى عام 1962.في شهر ذي القعدة، كان المسؤولون عن الحماية والمال يتفقون على اليوم المحدد لنقل الكسوة من دار الكسوة الشريفة إلى مسجد الإمام الحسين، ويصدر الأمر بتعطيل المصالح الحكومية، ويحضر هذا الاحتفال كبار مسؤولي الدولة والجيش والشرطة.
بعد الحج يعود المحمل حاملًا الكسوة القديمة للكعبة بعد إبدالها بالجديدة وتقطع إلى قطع وتوزع على النبلاء والأمراء، وما زالت هذه القطع موجودة في متحف كسوة الكعبة، وبعضها في قبور العائلة الملكية بمصر، حيث زينوا بها أضرحتهم كنوع من التبرك.
توقفت قافلة محمل الحج في عهد محمد علي باشا بعد وقوع مشاكل بين جماعة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقافلة الحج المصرية عام 1807، ومع ذلك أستأنفت مصر إرسال الكسوة فيما بعد، لكن في عام 1926 حدث قتال آخر بين حراس المحمل المصريين والنجديين، وذلك بسبب الموسيقى والمظاهر الاحتفالية، وحدث تبادل إطلاق نار بين الطرفين، واستمرت مصر بعد ذلك في العصر الجمهوري بإرسال الكسوة دون المحمل إلى أن توقفت عن ذلك تمامًا بعد عام 1962، وفي وقتنا الحاليّ يؤتى بها من السعودية.