شهدت منطقة شرق البحر المتوسط حلقة جديدة من سلسلة التوترات بين الجارتين العدوتين، تركيا واليونان، عندما أعلنت أنقرة بـ”إخطار بحري” – المعروف باسم Navtex – أنها تعتزم إرسال سفينة الأبحاث “أورتش رئيس” جنوب جزر رودس وكارباثوس وكاستيلوريزو اليونانية حتى 2 من أغسطس/آب ويرافقها 18 سفينة حربية تركية، ضمن أنشطة التنقيب عن الهيدروكربون (النفط والغاز) في المنطقة، وذلك وسط اعتراضات وانتقادات علنية من اليونان والولايات المتحدة وفرنسا ودول أوروبية أخرى.
تفاصيل التوتر اليوناني التركي
رغم تأكيد وزارة الخارجية التركية أن المنطقة البحرية التي ستجري فيها أعمال البحث والاستكشاف تقع ضمن حدود الجرف القاري التركي المحدد من الأمم المتحدة والمناطق المرخصة من الحكومة التركية لصالح مؤسسة البترول التركية عام 2012، وتأتي في إطار اتفاقية التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مع حكومة الوفاق الليبية، فإن الأجواء ازدادت توترًا مع مطالبة اليونان تركيا بوقف أنشطتها “غير القانونية” فورًا، معتبرةً إياها “انتهاكًا لحقوقها السيادية وتقويضًا للسلام والاستقرار في المنطقة”.
أعلن الجيش اليوناني حالة استنفار في صفوفه، ما أثار التخوفات بشأن لجوء اليونان للخيار العسكري الذي كانت تهدد به منذ أشهر
أشارت أثينا أيضًا إلى عواقب الخطوة التركية على تماسك حلف شمال الأطلسي وعلاقات أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك لم يأخذ الخلاف مسار التهدئة، فقد دافعت تركيا عن حقوقها ومصالحها في ثروات البحر المتوسط المدفونة وقالت إن مزاعم الجانب اليوناني بشأن الجرف القاري “منافية للعقل والقانون”، إذ تستند اليونان في حديثها إلى وجود جزر بعيدة عن برها الرئيسي، وعلى رأسها جزيرة ميس (كاستيلوريزو)، وذكرت كذلك أنها ستمزق الخرائط التي “رُسمت لسجننا داخل البر”.
تبع هذا البيان، تدخل أمريكي يقضي بضرورة إلغاء تركيا لجميع إجراءات التنقيب بالقرب من جزيرة كاستيليريزو اليونانية، وذلك بالتزامن مع إعلان الجيش اليوناني حالة الاستنفار في صفوفه، وقطع رئيس الأركان اليوناني، قسطنطينوس فلوروس، زيارة كان يقوم بها إلى قبرص اليونانية، ما أثار التخوفات بشأن لجوء اليونان للخيار العسكري الذي كانت تهدد به منذ أشهر.
بوادر التهدئة
دعت أنقرة أثينا مرارًا للحوار بشأن كل الاقتراحات المتوافرة لمناقشة سبل تعزيز التعاون والثقة والتقاسم العادل في البحر المتوسط، وتكررت هذه الدعوة عقب التصعيد اليوناني الأخير بقول المتحدث باسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إبراهيم قالن: “اليونان بلد مجاور مهم بالنسبة لنا.. ونحن على استعداد للتحاور مع اليونان”، معلنًا تعليق مشروع التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط لمدة شهر، آملًا بوضع الأحكام الأيديولوجية المسبقة جانبًا والعمل معًا في هذا الحقل.
المتحدث باسم الحكومة اليونانية ستيليوس بيتاس: “نريد فتح قنوات اتصال مع تركيا ومناقشة القضية التي يعاني منها الجانبان منذ عقود عديدة: ترسيم المناطق البحرية”
رحب وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس بالقرار التركي، خلال مؤتمر صحفي عقده الثلاثاء، مع نظيرته الإسبانية أرانشا غونزاليس لايا، في العاصمة اليونانية أثينا وقال: “إنها خطوة نحو نزع فتيل الأزمة (…) لنكن واضحين، خلافاتنا تتعلق بترسيم الهضبة القارية والمناطق البحرية الخالصة”.
في السياق ذاته، وصف المتحدث باسم الحكومة اليونانية ستيليوس بيتاس هذه الخطوة بـ”التطور الإيجابي”، وقال: “نريد فتح قنوات اتصال مع تركيا ومناقشة القضية التي يعاني منها الجانبان منذ عقود عديدة: ترسيم المناطق البحرية. هذه هي القضية التي تحتاج بالطبع إلى الإطار المناسب للمضي قدمًا”.
من جانبها صرحت الوزيرة الإسبانية عن أملها في إجراء حوار حقيقي مع أنقرة بشأن التنقيب عن النفط في شرق البحر المتوسط، مشيرةً إلى أن نظيرها التركي مولود تشاووش أوغلو أبدى استعدادًا للشروع في محادثات بهذا الصدد، وأضافت: “ينبغي تحويل ذلك إلى فعل. ليس كافيًا أن تقول إنك تريد الحديث”.
ويضاف إلى إسبانيا، ألمانيا التي لعبت دور الوساطة بين الجارتين، فقد أوضح قالن أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تتبع نهجًا يعتمد على التقدم بخطوات لخفض التوتر في بحر إيجه وشرقي المتوسط، واتخاذ إجراءات لبناء ثقة متبادلة وتأسيس أرضية مشتركة للخروج بمجموعة قرارات إيجابية تتعلق بتركيا في هذه المرحلة التي تترأس فيها ألمانيا الاتحاد الأوروبي.
حاليًّا لا يبدو أن الخصمين الإقليميين التاريخيين يحرزان أي تقدم إيجابي في الملفات الخلافية، فقد اقتربا من حافة الحرب ثلاث مرات منذ أوائل السبعينيات
ولفت إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في وجود فجوات بالمنطقة الاقتصادية الخالصة المتعلقة بالجرف القاري لبحر إيجه والجزر وشرقي المتوسط، مشيرًَا إلى عدم وجود تعريف قانوني بهذا الخصوص، إذ ينص القانون البحري الدولي على حل القضايا المتنازَع عليها بشكل ثنائي بين الدول”، مؤكدًا أن أنقرة تطلق إخطار “نافتكس” منذ 10 سنوات، لكن هذه المرة كان “انفعال اليونان مفرطًا، كأننا سنذهب على الفور لنحتل جزيرة ميس”.
دعوة للسلام في شرق البحر المتوسط
من غير الواضح كيف ستسير المحادثات بين اليونان وتركيا بشأن القضية أو ما إذا كانت ستحدث من الأساس، إذ ترتبط اليونان وتركيا بعلاقة جليدية ومعقدة منذ عهد الدولة العثمانية، وحاليًّا لا يبدو أن الخصمين الإقليميين التاريخيين يحرزان أي تقدم إيجابي في الملفات الخلافية، فقد اقتربا من حافة الحرب ثلاث مرات منذ أوائل السبعينيات، ومؤخرًا في وقت سابق من العام الحاليّ، تشاجر البلدان بشأن عبور المهاجرين إلى اليونان، ثم اتسعت الفجوة مع تحويل تركيا آيا صوفيا إلى مسجد.
يضاف إلى التاريخ الحافل بالخصومات والمشاحنات، أنه لا يزال هناك احتمال أن تستأنف تركيا خططها للتنقيب في المنطقة، فقد قال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في وقت سابق: “مشروعات الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط التي تستبعد تركيا من معادلة الطاقة محكوم عليها بالفشل”، ولذلك يبقى الخيار العسكري مطروحًا إلى الآن ومرهونًا بنتائج المفاوضات المنتظرة ومدى استعداد اليونان في التخلي عن تعنتها من أجل تحقيق السلام في أكثر المناطق توترًا في العالم.