مرّ عيدي الأول في الغربة دون عائلتي التي اعتدت أنسها صباحات العيد، وبلا فوضى غداء يجمع الأخوال والأعمام وأولادهم رفاق الطفولة، أما إسطنبول المدينة الآسرة المكتظة بالبشر التي ضمت غربتي لأشهر طويلة، أصبحت خالية، إذ رحل أهلها إلى قراهم ومدنهم، حيث يمضون أيام العيد رفقة أهلهم، أحيانًا كنت أجد في أصحابي السلوى، إذ نلتقي مع الصديقات في جمعية للجالية العربية بإسطنبول، كان لقاءً جميلًا لكنه بارد لا يشبه العيد، كأننا غرباء ألقي بنا في مكان لا روح فيه.
غدًا هو عيدي العاشر – أو أكثر لم أعد أحصي السنوات – في إسطنبول، عائلتي اليوم هنا وكونت عائلتي الصغيرة وأنجبت طفلًا، لا أزال أذكر أعياد الطفولة بحب وشوق، لكنني أعرف أن البلاد التي أتيتها غريبة أصبحت موطني الثاني، وأن بإمكاننا صناعة ذكريات جميلة هنا أيضًا، كل ما يحتاجه الأمر هو الانفتاح على المجتمع الجديد وتقبله، مع الاعتزاز بما نحمله من ثقافة وعادات اجتماعية.
أسعى من خلال هذا التقرير إلى اقتراح بعض الأفكار لاستثمار العيد في الاندماج الإيجابي مع مجتمعاتنا الجديدة وتقديم ثقافتنا ومجتمعاتنا الأم للبيئة المحيطة بنا، وإذابة جليد اللقاء الأول مع جيراننا، لجعل كل أيامنا أعيادًا مع تكوين علاقات طيبة مع محيطنا.
إهداء أطباق حلويات محلية
إن تبادل الطعام بين الجيران هو المدخل الأول للعلاقة فيما بينهم، ويعني الرغبة في بدء علاقات جديدة واسعة مع المحيط، ويقال في الأمثال الشعبية (بينهم خبز وملح) للدلالة على عمق العلاقة بين الأصحاب، وفي بلداننا ومدننا الجديدة يعتبر الطعام والحلويات الأسلوب الأفضل لتقديم ثقافتنا وهويتنا للآخر فيما قد نعجز عن التعبير عنها بكلماتنا المتواضعة، ومن ذلك ما يقوله الكاتب الفرنسي جان بريلات: “قل لي ماذا تأكل.. أقل لك من أنت”، فشخصية الإنسان تظهر للآخرين من خلال ما يتناوله من طعام وكيفية إعداد وجباته فضلًا عن تقديمها.
تعد الأعياد فرصة مثالية لتعزيز العلاقة مع بيئاتنا الجديدة لا سيما لو أرفق طبق الحلويات ببطاقة محبة ومعايدة، ففيها إظهار للكرم والفرحة وتعريف للآخر بأعيادنا ومناسباتنا الدينية وإرثنا الحضاري خاصة في الدول شديدة التباين مع عاداتنا وثقافتنا، وتأكيد ما يجمعنا من شعائر ونشاطات اجتماعية في مجتمعات مثل تركيا.
يعيش أغلب المسلمين في بلاد اللجوء والهجرة في حنين دائم لبلادهم ويتجدد هذا الشوق في كل عيد
وعلى الرغم من أننا نسعى لتقديم أطباق محلية منزلية الصنع، يفضل أن تكون مختارة بعناية ومكوناتها قريبة مما يتعارف عليه أهل البلد لتشجيعهم على الاستمتاع بتذوقها، كما أن تقارب الأذواق يساعد أيضًا على زيادة الألفة وكسر الحاجز نحو الآخر، ويكون في أحيان كثيرة مدخلًا لحوار طويل عن طريقة كل مجتمع في تحضير نفس الطبق، أما النصيحة الثانية عند تقديم الهدية فهو مراعاة تغليفها بشكل لطيف وجيد، فما زالت الظروف الصحية لأزمة كورونا مسيطرة على المشهد.
طاولة ضيافة عند مدخل البناء
من شأن وضع طاولة ضيافة منوعة ومرتبة مع بطاقات تهنئة عند مدخل البناء أن تضفي أجواء الفرح على المكان ورغبة في مشاركة الاحتفالات مع الآخرين، وقد يكون الاختيار المفضل لمن يقيم في المجمعات الكبيرة، حيث يوجد عدد كبير من الشقق السكنية في البناء الواحد يتجاوز المئة، أو من يجد حرجًا في طرق أبواب الجيران، وعادة ما يكون تفاعل الأطفال كبيرًا وحماسيًا مع هذه اللفتة اللطيفة ويفتح بابًا للتعارف والتقارب مع الأهل.
يمكن أن تحتوي الطاولة إضافة للحلويات والزينة وبطاقات المعايدة، بطاقات تعريف ثقافية بالعيد وبالبلد الأم وثقافته، وهنا أيضًا يفضل مراعاة تقديم الحلويات منزلية الصنع والابتعاد قدر الإمكان عن المكونات غير الصحية مما يسبب حرجًا للوالدين في بعض المجتمعات، والمحافظة على نظافة المكان بعد الانتهاء من التوزيع.
مشاركة أهل البلد طقوس العيد
يعيش أغلب المسلمين في بلاد اللجوء والهجرة في حنين دائم لبلادهم ويتجدد هذا الشوق في كل عيد، مع حرمانهم من الوصول لبلادهم وأقاربهم بسبب الحرب والملاحقات الأمنية والتكاليف المادية المرتفعة للسفر.
كل هذه الأسباب تدفعهم لتقوية العلاقات فيما بينهم أكثر في بلاد الاغتراب والحرص على تعزيز العلاقات فيما بينهم لا سيما في الأعياد، وهذا بعمومه شيء طيب، لولا أنه يتضخم في حالات كثيرة ويشكل حاجزًا يعيق التواصل مع أهل البلد.
ومن ذلك ما نراه في بعض المناطق بتركيا حيث تنظم بعض الجاليات العربية دعوات خاصة لإقامة صلاة العيد، فيما أنه من الأفضل لو استثمرنا وجودنا في مدن إسلامية وشاركنا أهلها في الشعائر الدينية فنقوي بصلاتنا جنبًا لجنب ورفع أيدينا بالدعاء لإله واحد الروابط التي تجمعنا ونتذكرها فيما لو نسيناها مع ظروف الحياة واختلاف ألسنتنا، حيث تمثل صلاة الجماعة وصلاة العيد مظهرًا اجتماعيًا يتبادل فيه المسلمون على اختلاف جنسياتهم ومشاربهم التهاني والمعايدات وتظهر تآلفهم في أوقات الفرح فضلًا عن أوقات الشدة.
تشجيع الأطفال على مشاركة نشاطات العيد مع الجيران وأقرانهم
من أبرز مظاهر احتفال الأطفال بالعيد، دورانهم على البيوت طلبًا للعيدية وحلوى العيد، فيمكن للأسرة ترتيب الأمر والتعريف بطقوس العيد للعائلات التي تجهل الأمر وتوضيح رمزية الهدية، ما يزيد الألفة بين الأطفال والبيئة المحيطة بهم، وفي بلاد المهجر الإسلامية نشجع الأطفال على مشاركة أقرانهم من أطفال البلد زياراتهم لبيوت الجيران بدلًا من الاكتفاء بزيارة منازل الجالية العربية فقط.
إن الأطفال هم بهجة العيد في كل مكان وانتقالهم بين المنازل ينشر الفرح وتنتقل البسمة من وجوههم الضاحكة إلى قلوب سكان العمارة والحي، خاصة مع تعويد الأطفال على مراعاة الآداب العامة والحفاظ على نظافة الحي وتشجيعهم على استخدام لغة أهل البلد في حضورهم تأدبًا وتلطفًا.
مشاركة الأضاحي مع الجيران
خرج أغلبنا من بلاد منكوبة امتلأت بالفقر والمرض والجوع، ونسعى في كل فرصة إلى سداد دين تلك البلاد ومعونة أهلنا هناك بإرسال أضاحي العيد للتخفيف عنهم والتضامن معهم، لكن جزءًا من شريعة الأضاحي هو صلة للقربى والجيران، فيستحسن للموسرين إضافة لإرسال الأضحية للبلاد الفقيرة، ذبح أضحية في مكان إقامتهم لتوزيعها على فقراء البلد وأهله وجيرانه، أو لمن لا يطيق تقديم أكثر من أضحية أن يناوب في كل عام بين بلده الأم وموطنه الجديد، ففي المشاركة إظهار للكرم والجود فضلًا عن التعريف بعادة جديدة من عادات الشعوب الإسلامية، كما يمكن أن تقام وليمة غداء بدلًا من الاكتفاء بتوزيع اللحوم.
وهنا أيضًا يجب التنبه لعادات الطعام عند الجيران، فالبعض يرفض تناول اللحوم وذبح الحيوانات، ولا نرغب في تحويل العيد لساحة نقاش محتدمة، إضافة للالتزام بأماكن الذبح المخصصة حتى لا يتسبب بإزعاج للجيران من الرائحة أو آثار الأضحية.
تعهد حراس البناء وموظفي النظافة بالتواصل والهدية والمعايدة يعطي نظرة وشعورًا إيجابيًا تجاه ثقافتنا وديننا
مشاركة أجواء العيد مع العاملين وحراس الأبنية وموظفي النظافة
هذه من العادات المحببة التي يؤجر عليها الإنسان في كل زمان ومكان لما فيها من مشاعر التضامن والتآخي الإنساني مع كل الطبقات الاجتماعية دون تفرقة، خاصة من يضطر منهم للعمل في يوم عيده، فمن الواجب تقديم هدية العيد بأفضل صورة، فإننا بهذه الهدية نمثل أخلاق وثقافة مجتمع كامل.
في بعض المناطق يُنظر للجاليات العربية وخاصة المقيمين خارج المناطق الشعبية، أنهم أصحاب أموال وأملاك، لذلك فإن تعهد حراس البناء وموظفي النظافة بالتواصل والهدية والمعايدة يعطي نظرةً وشعورًا إيجابيًا تجاه ثقافتنا وديننا، إضافة لدعوة أطفالنا للتأدب في التعامل معهم والحفاظ على النظافة حتى لا نرهقهم بآثار احتفالنا بالعيد.
التطوع ومشاركة المنظمات الخيرية
العيد هو فرحة الأطفال بالعيدية والحدائق وتحضير الكبار للحلويات وتبادل الزيارات، أما للشباب ففرحة العيد في مشاركة الخير مع المحتاجين، يمكن للشباب والفتيات تنظيم مبادرات لزيارة العائلات المحتاجة من أهل البلد في المناطق الفقيرة وتأمين بعض احتياجاتها أو تجهيز فعاليات لإسعاد أطفال الأحياء الفقيرة، لننشر السعادة في يوم عيدنا وتصل رسالة ثقافتنا وديننا أننا أبناء المهاجرين واللاجئين لا تكتمل فرحتنا إلا بمشاركتها مع الجميع، كما يمكن تنسيق المبادرات مع المنظمات الخيرية المحلية لتنظيم أفضل وتجنبًا لأي مشاكل محتملة.
سهرات العيد
تحكي البيوت الكثير عن أصحابها ونظرتهم للحياة، ومن اللطيف استثمار مناسبة العيد لدعوة الجيران والمعارف إلى سهراتنا العائلية بالعيد، فتكون فرصة أكبر للتعرف على الثقافات والعادات وكسر حواجز التواصل مع الآخر، خاصة أن أغلب العائلات والجاليات العربية والإسلامية تجتمع في سهرة للعيد، فدعوة الجيران للمشاركة يعني أننا نمد أيدينا لهم بالمحبة ونرغب في توطيد علاقاتنا كما العائلة، ومن الآداب المستحسنة في هذه الجلسات تجنب تفرد الحديث بلغتنا الأصلية بل محاولة استخدام لغة أهل البلد للمحافظة على الأجواء المريحة.
يرسم المواطنون الصورة الذهنية عن اللاجئين والمغتربين والأجانب الذين يقيمون في بلادهم في الغالب عن طريق التعامل اليومي معهم، فالتواصل الشخصي مع البيئة المحيطة أقوى من كل حملات التحريض التي قد يحملها العنصريون في خطاباتهم الإعلامية، من زارك في منزلك وأكل من طعامك وعادك في مرضك لن يبني تصوراته من مادة إعلامية أو حملة انتخابية، بل ستشكل علاقتك به صمام أمان في بيئات سياسية متبدلة.
ما سبق وتحدثنا عنه فضلًا عن أنه يشعرنا بشبكة واسعة من الأمان المجتمعي ورابطة قوية من العلاقات الاجتماعية، فله أثر أكبر في تعزيز التصور الإيجابي عن مجتمع اللاجئين والمهاجرين لدى المجتمعات المضيفة، إضافة لكسر الحواجز الثقافية والاجتماعية، وتأكيد وجود المشتركات الدينية والثقافية خاصة في المجتمعات المسلمة المستضيفة.