الحوادث السياسية والدينية التاريخية وتأثيراتها على الحج

الكعبة المشرفة

منذ نداء سيدنا إبراهيم للناس بالحج “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” تم تأسيس التصور الأولي لهذه الرحلة الإيمانية التي تتوق لها قلوب المؤمنين، وارتبطت قواعدها بتعاليم الإسلام التي أقرها وجعل لها القدسية كركن من أركان الدين.

مع دخول مكة الإسلام بالفتح تم إرساء قواعد الحج وشكل الحرم، حيث أزيلت من حوله الأصنام ومحيت من داخله الصور ومنع الحج لكل عارٍ وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام باتباع ما يفعله خلال الحج لتكون تعاليم يلتزم بها المسلمون من بعده.

اليوم وبعد أكثر من 14 قرنًا، مرت رحلة الحج السنوية بتأثيرات عصفت بها شكلًا ومضمونًا وأودت بها للتوقف سنوات أحيانًا وتغيير دروبها أحيانٍ أخرى، في هذا المقال سنحاول تتبع التأثيرات السياسية والدينية على رحلة الحج بعيدًا عن تأثيرات الظواهر الطبيعية والأوبئة والأمراض وكيف أثرت هذه الظواهر على الحج ومكة التي يقصدها الناس من كل فج عميق.

الحج للقطيف بدلًا من مكة

في شرق المملكة العربية السعودية حاليًّا وشرق جزيرة العرب سابقًا، انشقت مملكة صغيرة من الدولة الفاطمية سميت بالدولة القرمطية واتخذت مدينة الأحساء عاصمةً لها، وتنسب الدولة لاسم مؤسسها حمدان بن الأشعث الأهوازي الملقب (قرمط)، وكان نهجها السياسي معاداة الدولة العباسية التي كانت تمر بحالات ضعف بعد الازدهار، فاستغلوا ضعف بغداد وتفككها لدويلات وانشغالها بحرب مع ثورة الزنوج.

فانتشرت دعوتهم في بعض مناطق الجزيرة العربية وارتكبوا مجازر كبرى خاصة في طريق الحجاج، فألغى أهل الشام والعراق الحج لشدة الرعب منهم، كما هجموا على البصرة وارتكبوا مجزرة كبرى استمرت 17 يومًا، واستباحوا الأموال واغتصبوا النساء، ثم هاجموا أطراف الشام، وكانوا كلما مروا بقرية سلبوا الأموال وقتلوا الرجال واغتصبوا النساء، ولا يغادرونها دون أن يحرقوها بما فيها ومن فيها من أطفال وعجائز.

عام 908م أغار زعيم الدولة القرمطية أبو طاهر على مكة والناس محرمين واقتلع الحجر الأسود وأرسله إلى هَجَر وقتل عددًا كبيرًا من الحجاج، فبلغ عدد قتلاه في مكة 30 ألف وفقًا لبعض الروايات، وحاولوا أيضًا سرقة مقام إبراهيم ولكن أخفاه السدنة. 

وفي 318هـ سنّ الحج إلى الجش بالقطيف بعدما وضع الحجر الأسود في بيت كبير، وأمر القرامطة سكان منطقة القطيف بالحج إلى ذلك المكان، لكن الأهالي رفضوا تلك الأوامر، فقتل القرامطة أناسًا كثيرين من أهل القطيف.

 

ذكر ابن كثير في أحداث سنة 317 هـ، أن أبو طاهر القرمطي أمر “أن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم سنتين وعشرين سنة حتى ردوه، كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج”.

ظلّ الحجر الأسود بحوزة القرامطة مدّة 22 سنة في البحرين، ولم تجد كل المحاولات والمساعي التي بذلها العباسيون والفاطميون من أجل الضغط عليهم وإجبارهم على إعادة الحجر الأسود، إلى أن ضعفت الدولة القرمطية وبعد تهديدات تم إعادة الحجر الأسود ليوضع في محله بالكعبة المشرفة.

ورغم قول بعض المفكرين إن القرامطة وثورتهم شيوعية بامتياز كما يذكر المفكر والفيلسوف اليساري حسين مروّة قائلًا: “إن كانت ثورة الزنج هي ثورة العبيد، فإنّ الثورة القرمطية هي ثورة الفلاحين بلا منازع”، فإن النزعة الدينية للقرامطة غامضة ومحاولة بيان تصورٍ واضح جليّ لمذهبهم صعب جدًا، نظرًا لاعتمادهم التكتم الشديد في عقائدهم المنشقة عن العقيدة الباطنية الإسماعيلية، التي كان أكثرها حكرًا على كبار الأئمة والدعاة، لكننا شاهدنا نتائجها الكارثية والدموية في إرث هذه الدولة بالمنطقة وتأثيرها على الحج، هذه الفريضة التي غابت لسنوات نتيجة الدعوة القرمطية المتوشحة بالسيف للمعارضين.

الحج للأغنياء فقط

يذكر الرحال ابن جبير في كتابه “ذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك” أن خلال الخلافة الفاطمية، فرض حكام الحجاز المحليين الضرائب على الحجاج وبلغت الضريبة ما يعادل سبعة ونصف دينار على الحاج وهذا المبلغ في وقتها يعتبر ضخمًا على الفقراء. 

يذكر ابن جبير أن الحجاج الذين لم يتمكنوا من دفعها عانوا من تعذيب بدني شديد أو منعوا من الحج، واستمر هذا العرف سائدًا حتى سقوط الدولة الفاطمية على يد صلاح الدين الأيوبي وتأسيس الدولة الأيوبية، فأمر الأيوبي بإلغاء الضرائب المفروضة على الحجاج، وقد أشاد ابن جبير بإلغاء صلاح الدين الضرائب غير القانونية. 

برج الساعة

فندق فيرمونت المطل على الحرم في مكة المكرم أحد أوجه الرفاهية في الحج

استمرت حالة فرض الضرائب على الحجاج بعد ضعف الدولة الأيوبية، وتحرك السلاطين المملوكيون في وقت لاحق كمحاولة للاتفاق مع الحكام المحليين المكيين على إلغاء فرض ضرائب على قوافل الحج عن طريق تعويض الحكام المكيين مع تخصيص مبلغ ثابت من المال. 

ويذكر السيوطي أنه في عام 384هـ (نحو 994م)، فشل الحجاج الذين جاءوا من العراق وسوريا واليمن في أداء الحج، فلم يسمح لهم بأداء الحج دون دفع الضرائب، فقط أدى الحجاج المصريون الحج هذا العام لأن حكام مصر دفعوا مبلغًا مقطوعًا للحكام المحليين على الحجاز، ما جعل الحج حكرًا على الطبقة الغنية من المسلمين فقط وهذا لم تكن تعرفه العرب حتى قبل الإسلام باعتبار صد حاج عن بيت الله الحرام من الكبائر.

الحج لمن يوافق شروط محمد عبد الوهاب

منذ أن بزغَ فجرُ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسيطرة أتباع الدعوة على أغلب مناطق الجزيرة العربية بعد التحالف مع آل سعود بما فيها مكة والمدينة، فرض أتباع هذه الدعوة قواعد جديدة على الحجاج القادمين من الأمصار الإسلامية ووقعت حوادث منع للحجاج تحت بند عدم الالتزام بالتعاليم الصحيحة، منها منع الحجَّاج القادمين من الشَّام وإسطنبول من الحج عام 1223هـ، وقد ذكر مؤرِّخ الدعوة الوهابية ابن بشر في كتابة “عنوان المجد في تاريخ نجد” ما نصه: “فلمَّا خرج سعود من الدرعية قاصدًا مكَّة أرسل فراج بن شرعان العتيبي ورجاله معه لهؤلاء الأمراء المذكورين، وذكر لهم أن يمنعوا الحواج التي تأتي من جهة الشامّ وإستنبول ونواحيهما، فلمَّا أقبل على المدينة الحاج الشامي ومن تبعه وأميره عبد الله العظم باشا الشَّام، فأرسل إليه هؤلاء الأمراء أن لا يقدم إليهم”.

المحمل في مكة

المحمل في مكة المكرمة وسط حشود الحجاج

وأيضًا تم منع المحمل المصريّ عام 1344هـ، ومنع حجاج مصر من القدوم بعد ذلك، حيث وقعت الحادثة مع دخول الملك عبد العزيز مكَّة ودخولها تحت حكمه، وأرَّخ الكثير لهذه الحادِثَة، وذكرتها الصحف الرسمية كصحيفة أم القرى السعودية والأهرام المصرية.

حيث كانت قافلةٍ المحمل تتَّجه نحو مكة المكرمة حاملةً معها كسوةَ الكعبة، وسط احتفالات شعبيَّة في مصر، تصاحبه فرق موسيقية وحشود عسكرية، ويصاحب المحمل الحجاج القادمون من مصر، وكانت هذه عادةَ مصر كلَّ عام في ذلك الوقت.

وفي عام 1344هـ حين وصل المحمل المصري مِنى، تم التعرض لهم من أصحاب الفكر الوهابي وألقوا إليهم الحجارة، وكرد فعل من الضَّابط المرافق للمحمل أمر بإطلاق النار للدفاع عنه.

وتم بعد هذه الحادثة منع المحمل المصري واحتكار الحج وفق القواعد التي وضعها اتباع دعوة محمد عبد الوهاب، مما أثار ولا يزال يثير لغطًا بشأن أحقية السعودية بفرض قواعد الحج وطرقه وكل ما يتعلق به من موروث ديني وثقافي وروحي، فالمعتمر والحاج اليوم عند وصوله لمكة المكرمة يدرك أن كثيرًا من معالمها تم تغيبه نتيجة الفكر الوهابي المسيطر سياسيًا على المملكة، فلن تجد مثلًا منزل الرسول عليه الصلاة والسلام ولا دار الندوة ولا أي شيء من آثار هذه المدينة التي شهدت ولادة الإسلام وانتشاره للعالمين، بسبب فرض أتباع الدعوة الوهابية رؤيتهم على هذه المدينة الإسلامية التي تحتوي على قبلة أكثر من مليار ونصف إنسان.

الحج بعد جهيمان

في موسم الحج لعام 1979م، أغلق 200 شخص مسلح يتبعون جهيمان العتيبي، الحرم المكي واحتجزوا الحجاج داخله، مطالبين بمبايعة المهدي المنتظر محمد القحطاني صهر جهيمان، ما أدى لوقوع اشتباكات بين حرس الحرم وأتباع جيهمان أودت بحياة العديد من الطرفين إضافة للحجاج.

 

أظهرت تحقيقات جديدة عن الحادثة أن عدد من قتل من الحجاج في حصار الجهيمان يصل للآلاف، لكن آثار هذه الحادثة على الحج والدولة المسؤولة عنه كان أكبر، فقد قادت هذه الحادثة السعودية للتشدد الديني والانغلاق على الذات واتخاذ إجراءات أمنية مشددة بالحرم وتحول البساطة في الإجراءات لموسم الحج إلى التعقيد الذي ما زالت آثاره إلى يومنا.

وقد كتب ياروسلاف تروفيموف كتابًا بعنوان “حصار مكة، الانتفاضة المنسية في أقدس الأماكن الإسلامية وولادة القاعدة” اعتمد فيه على مقابلات شخصية ووثائق سرية من زارة الخارجية الأمريكية، وخلص المؤلف فيها إلى أن الأسلوب الذي تم التعامل به مع هذه الحركة هو الذي أفضى في نهاية الأمر إلى ولادة القاعدة، خاصة أنها توافقت مع فترة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، ما يجعل الحادثة من أكثر الحوادث الدينية والسياسية تأثيرًا في تاريخنا المعاصر.

مكة واستعراض السلطة السياسية

إن مكة المكرمة المدينة المقدسة والحرم كقبلة للمسلمين بقي رمزًا دينيًا تحاول السلطة السياسية استغلاله لفرض نفوذها ومنحها تلك السلطة الدينية في قلوب ملايين المسلمين عبر العالم، فالمتتبع لتاريخ هذه المدينة يدرك أن الحوادث السياسية والدينية كانت عاصفة بها بشكل كبير بداية من كسوة الكعبة التي وصلت حد الاقتتال لنيل شرف الإكساء كما فعل مماليك مصر، وصولًا للون القماش الذي صبغت به الكسوة كرمزية سياسية من الأسود العباسي إلى الأبيض الفاطمي.

أقدم ستارة لباب الكعبة الشريفة معروفة في حالة كاملة، والتي أعدها المماليك في مصر عام 1516م. أُُحضرت تلك الكسوة من مكة بعد استبدالها بأخرى جديدة في أول حج بعد الفتح العثماني لمصر والحجاز، وأُعطيت لخليفة المسلمين السلطان سليم الأول (سليم يافوز) عام 1517م فأودعها بأولو جامع ببورصة، عاصمة العثمانيين يومئذ. وتلك الكسوة تُعتبر وثيقة سياسية هامة تمثل انتقال الخلافة من مصر إلى الدولة العثمانية

وفي الصورة أعلاه تظهر أقدم ستارة لباب الكعبة الشريفة معروفة في حالة كاملة، التي أعدها المماليك في مصر عام 1516م.

أُحضرت تلك الكسوة من مكة بعد استبدالها بأخرى جديدة في أول حج بعد الفتح العثماني لمصر والحجاز، وأُعطيت لخليفة المسلمين السلطان سليم الأول (سليم يافوز) عام 1517م فأودعها بأول جامع ببورصة، عاصمة العثمانيين يومئذ، وتلك الكسوة تُعتبر وثيقة سياسية مهمة تمثل انتقال الخلافة من مصر إلى الدولة العثمانية.

وقد أوغل الحكام والسلاطين والملوك في ذلك، فتجد وضع أسماء السلاطين على الكسوة ورفع أسماء الملوك على أبواب الحرم كنوع من كسب الشرعية الدينية بفرض مظاهر السلطة السياسية على الحج وطرقه والحرم ومدينته.

في النهاية فإن المتتبع لتاريخ هذه الرحلة الإيمانية والتغييرات التي طرأت على الأرض المباركة التي هي مقصد الحجاج، يدرك أن الحوادث السياسية والدينية كانت أشد فتكًا وتأثيرًا على الحج والحجاج من الأمراض والأوبئة والظواهر الطبيعية من أمطار وسيول وغيرها، وأن الحفاظ على هذا الركن من أركان الدين الإسلامي ورحلته الروحانية مناط بمنع التأثيرات السياسية والأهواء الدينية من التحكم بهذه الشعيرة التي هي حق لمليارات المسلمين الذين عاشوا على هذه الأرض منذ أربعة عشر قرنًا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.