ترجمة وتحرير: نون بوست
نشأ غابرييل غيمارايش في فيتوريا بالبرازيل، في منزل مطلي بالأصفر تحيط به أشجار الكرامبولا وحظائر الدجاج. وقد غرس فيه والده الذي أعدّ برمجية لبنك محلي، حبًا شديدا بالكمبيوتر. في عطلات نهاية الأسبوع، عندما كان غيمارايش يشعر بالملل من لعبة نينتندو، كان يقوم ببرمجة الألعاب بنفسه. في المدرسة الابتدائية، صمّم روبوتًا شبيها بالإنسان وبرمجه ليتجول حول المنزل. في فيتوريا، وهي مدينة تقع على ساحل المحيط الأطلسي، كان غالبية أقرانه يحلمون بالالتحاق بالجامعة في ساو باولو التي تبعد مسافة ساعة بالطائرة، بيد أن غيمارايش كان يريد الالتحاق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
عندما التحق غيمارايش بالمدرسة الثانوية، كان معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد نشر مئات من دروسه مجانا على الإنترنت، ضمن سلسلة من الدورات الضخمة المفتوحة أو ما يُعرف بـ” المساق الهائل المفتوح عبر الإنترنت” (MOOC).
جرب غيمارايش حضور الدرس التمهيدي لعلوم الكمبيوتر، لكنه وجد أن المحاضر “رجل أبيض الشعر يقف أمام سبورة سوداء”، وكان ذلك مملا للغاية بالنسبة له.
في سنة 2011، عندما كان غيمارايش يبحث عن مواد دراسية أخرى على يوتيوب، نقر على محاضرة تمهيدية لعلوم الكمبيوتر في جامعة هارفارد، وتُعرف باسم “علم الحاسوب 50” أو “سي أس 50″، يقدمها أستاذ شاب يدعى ديفيد مالان. يقول لي غيمارايش إنه شعر على الفور أنه “تحت تأثير منوم مغناطيسي”.
كان مالان، ذو الشعر الأسود اللامع والمفعم بالحيوية، يقدم محاضرته من قاعة كبيرة في حرم جامعة هارفارد.
خلال الدرس الأول، قام مالان بتوضيح خوارزمية تسمى البحث الثنائي من خلال دعوة متطوع للعثور على اسم “مايك سميث” في الصفحات الصفراء. و وبعد إلحاح مالان، فتح الطالب دفتر الهاتف بصفة عشوائية، ومزق نصف الكتاب دون العثور على الاسم الصحيح، ثم كرر العملية حتى بقيت الصفحة المطلوبة فقط.
ساهمت دروس مالان في تبسيط علوم الكمبيوتر. تقدم دورات مالان دروسا للأطفال لتعلم لغة البرمجة من خلال تصميم ألعاب رسوم متحركة في سكراتش.
لحل عدد من المعضلات حول التحاليل الجنائية التي واجهها مالان خلال فترة عمله في مكتب المدعي العام، دُعي الطلاب إلى برمجة رموز لاستعادة مجموعة من ملفات الصور المحذوفة. يقول غيمارايش: “لقد شعرت بأنها أروع لعبة فيديو جربتها على الإطلاق”.
في حرم جامعة هارفارد، تتوج دورة “سي أس 50” بحفل ختامي يعرض فيه الطلاب مشاريعهم النهائية ويتعرفون عن قرب على ممثلي شركات كبرى مثل فيسبوك وغوغل، وكثير منهم من خريجي الدورة.
يوزع مالان بعض الهدايا التذكارية، بينها قمصان كتب عليها “حضرت دورة سي أس 50”.
في البرازيل، قرر غيمارايش تنفيذ مشروعه النهائي الخاص ويتمثل في ترجمة دورات ومحاضرات مالان إلى اللغة البرتغالية. في سنته الثانية في الجامعة، قام بتدريس “سي أس 50” لزملائه على امتداد أحد عشر أسبوعًا.
عندما وصل لتقديم درسه الأول، خرج حوالي مائة طالب من القاعة.
مرتديًا قميصًا فضفاضًا لجامعة هارفارد اشتراه عبر الإنترنت، ألقى غيمارايش محاضرة مالان الأولى، وكرر تجربة دليل الهاتف نفسها.
كانت مواد دورة “سي أس 50” متاحة للجميع بموجب قوانين المشاع الإبداعي، ولكن على سبيل المجاملة، أرسل غيمارايش بريدا إلكترونيا إلى طاقم مالان يخبرهم فيها بمشروعه. خلال الأسبوع السادس من محاضراته، حصل على هدية من مالان داخلها كل دروس “سي أس 50”.
كان مالان الذي استلم إدارة “سي أس 50” سنة 2007، رائداً في توزيع مواد دورات هارفارد على الإنترنت مجانًا. في سنة 2012، أطلقت جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا منصة التعلم عبر الإنترنت الخاصة بها، والتي تُعرف باسم إيديكس، وتقدم اليوم آلاف “المساقات الهائلة المفتوحة عبر الإنترنت” والإصدارات الرقمية من الدورات الجامعية وبرامج الشهادات الأصلية المصممة من مايكروسوفت و آي بي أم وبقية عمالقة التكنولوجيا.
لأكثر من شهرين، قدم مالان دروس سي أس 50 عبر الإنترنت، لطلاب فصله في جامعة هارفارد، وطلاب آخرين خارج الجامعة
لكن عددا قليلا من الدورات، إن وجدت أساسا، تجمع بين المصداقية العلمية والحضور الكبير والالتزام، على غرار ما يقدمه مالان.
منذ بدأ غيمارايش يتابع هذه الدروس قبل عقد من الزمان، وصلت “سي أس 50” إلى كل القارات باستثناء القارة القطبية الجنوبية. على الرغم من أن معظم الطلاب الذين اشتركوا في موقع إيديكس – أكثر من مليوني شخص حتى الآن – غادروا قبل انتهاء الدورة، إلا أن أولئك الذين يتابعون إلى النهاية يصبح لديهم شغف كبير.
في وقت سابق من السنة الحالية، قام طلاب جامعة الحكمة ببغداد بتصميم قاعة مشابهة في كل تفاصيلها لتلك التي يقدم فيها مالان دوراته.
من أجل توسيع قاعدة متابعي “سي أس 50″، يستضيف مالان ورش عمل سنوية للمدربين ويساعد في دعم عدد من المراكز حول العالم.
على حد تعبير أحد أعضاء الفريق، تعد دروس “سي أس 50” دورة واحدة وليست نظاما كاملا من الدورات، مع توفير دروس متنوعة لعملاء مختلفين: المحامون وطلاب إدارة الأعمال ولاعبو الفيديو. خلال سنة 2015، أطلق قسم علوم الكمبيوتر في جامعة هارفارد شراكة غير مسبوقة مع جامعة ييل لتقديم بث مباشر لمحاضرات مالان، بداية في جامعة كامبريدج، وصولا إلى نيو هافن.
أدى استثمار مالان في التعلم الافتراضي إلى تغيير الطريقة التي يتفاعل بها الطلاب في الفصل. وتعد “سي أس 50” إحدى الدورات الأكثر شعبية في كلية هارفارد. كما أنها تعد الدورة الوحيدة التي يمكن للطلاب مشاهدتها مباشرة من غرف نومهم بدقة عالية.
منذ سنوات، شجعهم مالان على القيام بذلك، إذ نشر تدوينة في 2016 كتب فيها أنه من الممكن أن تكون “تجربة مشاهدة محاضرات سي أس 50 عبر الإنترنت أفضل من حضورها على عين المكان”.
لا يزال التدريس عن بعد أمرا غير شائع بين أساتذة جامعة هارفارد. حتى محاضرات مايكل سانديل ذائعة الصيت حول العدالة، والتي تُبث عبر الانترنت وعلى محطة بي بي آس، لم تستطع منافسة دورات سي أس 50، بسبب ما يملكه مالان من مهارات تكنولوجية.
أخبرني رئيس الجامعة لورنس باكو، في رسالة بالبريد إلكتروني، أنه عندما أجبرت جائحة فيروس كورونا المستجد الجامعات في جميع أنحاء البلاد على تقديم الدروس عبر الإنترنت، كان حوالي 500 أستاذ فقط في هارفارد يملكون خبرة في التدريس عن بعد. في غضون أيام، قفز العدد إلى حوالي ثلاثة آلاف، أي كامل أعضاء هيئة التدريس في جامعة هارفارد.
بالنسبة للعديد من الأساتذة، مثّل الانتقال المفاجئ نحو التدريس عن بعد معضلة كبيرة. أما بالنسبة لمالان، كان امتدادا طبيعيا لتجربة طويلة.
قال لي مالان مؤخرًا: “من حسن حظ فريقنا أنه خاض هذه التجربة التعليمية لبعض الوقت.. بالنسبة لنا، أضحى الأمر سهلا”.
يُسمح لمالان من خلال عقده مع هارفارد بالتركيز بشكل حصري تقريبًا على سي أس 50، حتى البحث الذي ينشره يركز أساسا على هذه الدورات.
خلال الربيع، حاول تقديم مختصرات من سي أس 50، والتي كانت في السابق تُقدم خلال دورة الخريف، واعتمد على محاضرات عبر الإنترنت تم تصويرها في وقت سابق. دفعت الجائحة مالان إلى نقل أجزاء من الدورة إلى منصة زووم.
بينما كان زملاؤه يبذلون الكثير من الجهد لتنظيم الفصول الدراسية عبر المنصات الافتراضية والتعامل مع المشاكل التقنية غير المألوفة واختصار الدروس، بقيت دروس سي أس 50 على حالها، حسب ما كتبه أحد الطلاب خلال تقييم نهاية الفصل الدراسي.
في الواقع، لا يمكن استنساخ تجربة مالان للتعليم عن بعد بسهولة. لا يمكن تقديم دروس سي أس 50 دون امتلاك ذلك الكم هائل من الموارد والتزام مالان المثير للإعجاب. ولكن، بينما تحاول الجامعات إعادة فتح أبوابها بأمان في الخريف مع استمرار التعليم عبر الإنترنت كخيار أول، فإن انتشار دروس سي أس 50 ونجاحها يقدمان لمحة عن الاتجاه الذي يسير نحوه التعليم العالي.
في صباح أحد أيام يونيو/ حزيران، زار مالان حرم جامعة هارفارد. مازال مسرح ساندرز، حيث كان يقدم محاضراته، مغلقًا رسميًا. إلا أن بعض أعضاء فريق سي أس 50 حصلوا على إذن خاص بالدخول. وجدت مالان عند باب جانبي. كان يرتدي قناعا ويحمل حقيبة ظهر تحتوي جهازي كمبيوتر يضعهما على كتف واحد. في الداخل، عُلقت لافتات بألوان جامعة هارفارد للتشجيع على غسل اليدين واحترام قواعد التباعد الاجتماعي.
تُركت الأبواب مفتوحة للحد من لمس المقابض، ووُضعت إشارات حمراء اللون على الأرض خارج الحمامات، للإشارة إلى وجود شخص ما في الداخل.
لم تنته جامعة هارفارد بعد من إجراءات فتح أبوابها مجددا، لكنها أصدرت تقريرًا مؤقتًا الأسبوع الماضي ينص على أنه “بغض النظر عما إذا كان الطلاب موجودين في الحرم الجامعي أم لا، ستُقدم الدروس عن بعد في العام المقبل، مع استثناءات قليلة”.
لأكثر من شهرين، قدم مالان دروس سي أس 50 عبر الإنترنت، لطلاب فصله في جامعة هارفارد، وطلاب آخرين خارج الجامعة، وكانت الجلسات مفتوحة للجمهور.
أما الآن سيحاول تقديم الدروس من قاعة ساندرز ليكتشف شعور التدريس أمام جمهور افتراضي. وقد قام أكثر من ألف طالب من مائة وتسعة دول بالتسجيل لحضور الدرس.
في سنة 2008، بدأ مالان بتدريس سي أس 50 لأول مرة في قاعة ساندرز، وقبل ذلك، كان يقدم محاضراته في مدرج عادي في قاعة سيفير في هارفارد، وكان في الفصل حوالي ثلاثمائة طالب يحتلون قسم الأوركسترا وجزءًا من بهو صغير. بحلول سنة 2014، تجاوز عدد الطلاب المسجلين 800 طالب، مما دفع بالعديد منهم إلى حضور الدرس من الشرفة.
تعتبر ساندرز واحدة من أكبر القاعات في الجامعة، وهي قاعة ضخمة بحجم ملعب بنيت من خشب البلوط الأحمر. قام فريق مالان بتجهيزها بخمس كاميرات، بعضها يشتغل عليه مصورون والبعض الآخر يتم التحكم فيه آليًا. وفي الجزء الخلفي يوجد ستوديو صغير للإنتاج.
يقول مالان إن الدروس أشبه بحدث رياضي يُبث بشكل مباشر، إذ يشاهد طلاب سي أس 50 من خلال شاشاتهم لقطات له أثناء إلقاء المحاضرات، ولقطات أخرى لجهاز الكمبيوتر الخاص به، ولقطات بانورامية للطلاب الموجودين في القاعة.
في حين أن العديد من المدرسين عبر الإنترنت يقدمون محاضراتهم في شكل مقاطع فيديو قصيرة، تتخللها تمارين تقييمية ومقاطع تحفيزية، ينشر مالان محاضرته كاملة دون انقطاع، وغالبًا ما يقوم بالتدريس أمام شاشة خضراء، حتى يتمكن طاقم التصوير من تحويل متصفح الويب الخاص به إلى خلفية عملاقة في مرحلة لاحقة عند إعداد الفيديوات.
يتضمن إعداد الدروس التي يقدمها مالان عن بعد مجموعة من التقنيات، بما في ذلك شاشة كمبيوتر تفاعلية بعرض سبعة أقدام تسمى مايكروسوفت سورفس هوب.
يعتبر مالان شخصية مشهورة إذ يملك معجبين من جميع أنحاء العالم. ويرى كثير من طلبته وزملائه أنه يشبه ستيف جوبز إلى حد ما، عندما يرتدي سترته السوداء الرفيعة والجينز داكن اللون.
يرتدي مالان في معصمه الأيسر ساعة آبل، وشيئا آخر يبدو للوهلة الأولى كأنه سوار فضي، لكنه في الواقع سلسلة يستخدمها في إنارة مصباح منزلي، وهو “ليس من محبي الأشياء الثمينة” على حد تعبيره.
يتحدث مالان ويكتب بأسلوب أدبي عفا عليه الزمن، ويستخدم عبارات مثل “تمحيص” و”بيد أن”، ويتحدث بطريقة الخطباء الكبار في التاريخ الأمريكي، ويبذل الكثير من الجهد خلال محاضراته.
يملك مالان حسابات موثقة في فيسبوك وتويتر وانستغرام، يترك عبرها الطلاب ملاحظاتهم حول الدروس ومدى استفادتهم منها، إلا أنه يتحفظ بشكل تام على تفاصيل حياته الخاصة. في كل مقابلات زوم، وفي كل درس من دروس سي أس 50 التي قدمها من منزله، ظهرت وراءه خلفية بيضاء.
في ساندرز، صعد مالان على خشبة المسرح وهو يعبث بميكروفون وضع على صدره ويربط جهاز إرسال لاسلكي بحزامه، وقال: “اختبار، واحد، اثنان.. هل يمكن أن يسمعني المكلفون بالإنتاج؟”. حينها كان ستة من أعضاء فريق سي أس 50 مشغولين بمكالمة زوم، ظهرت وجوههم على شاشة كمبيوتر تفاعلية بعرض سبعة أقدام، تسمى مايكروسوفت سورفس هوب، ثُبتت على على حافة المسرح.
يوجد ضمن طاقم سي أس 50 ثلاثة منتجين يعملون بدوام كامل للتصوير مع مالان وللتحرير وتحميل المحتوى. هؤلاء لا يعملون فقط على المحاضرات ومقاطع الفيديو الإرشادية، ولكن يشتغلون كذلك على عدد كبير من الأمور الأخرى التي قد يرى البعض أنها غير ضرورية، على غرار المواد الترفيهية التي تقدم في شكل مقتطفات، والمقاطع الإعلانية وتصوير الكواليس، وإحدى معزوفات البيانو الخاصة بالدورة، ومقطع فيديو مستوحى من فيلم “المواطن كين” يظهر فيه مالان نفسه. (قال لي عضو سابق عمل طيلة صيف كامل في مكتب سي أس 50 الواسع، أنهم “كانوا يصورون كل شيء، طوال الوقت”).
لم يحضر على عين المكان هذه المرة إلا برايان يو، وهو طالب تخرج حديثا من جامعة هارفارد وأصبح الآن أستاذ جامعيا، وأندرو ماركهام، أحد المنتجين في فريق مالان.
كان بيل غيتس أحد طلابه الأوائل، وقد ترك جامعة هارفارد لاحقا لإطلاق مشروعه الخاص
يبلغ ماركهام من العمر حوالي ثلاثين سنة. يقف على سلم متنقل مرتديا قميصا مرجاني اللون، وأمامه كاميرتان رقميتان يلقي من خلالها نظرة خاطفة على الجزء العلوي من سورفس هوب، وسيعمل على ربط الشاشة مع جهاز كمبيوتر عملاق. سيعتلي كل من مالان و برايان يو خشبة المسرح على بعد 12 قدمًا ويتحدثان قبالة هذه الكاميرات لتقديم درس مشترك.
سيظهر الطلاب على كامل الشاشة تماما مثلما يظهر فريق التصوير حاليا. بينما كان ماركهام يسير على خشبة المسرح، يتأكد من عمل كل الكاميرات، يدخل مالان إلى قسم الأوركسترا. يخطط مالان لبدء المحاضرة بتكبير شاشة هاتفه الخلوي وأخذ الطلاب في جولة عبر أنحاء المسرح. غالبًا ما يرحب مالان بطلابه عند انطلاق الحصة بالعبارة الأولى التي يتعلمها المبرمجون الجدد “مرحبًا، أيها العالم!”.
خلف الكواليس، يقوم فريق الإنتاج باختيار مجموعة من المتصلين ووضعهم في قائمة الانتظار لطرح الأسئلة. ضمت المجموعة صبيا في الخامسة عشرة من عمره من أثينا، وطبيب أسنان من بوينس آيرس، ومدرس أطفال من الدومينيكان يعيش في تكساس، بالإضافة إلى آخرين من كندا وإنجلترا وكينيا والمغرب.
قال سوجيت، وهو طالب هندسة من دارواد في الهند، وقبل طرح سؤاله عن كيفية تطبيق دروس مالان في مجال تصميم المباني: “قبل كل شيء، هذه المشاركة شرف عظيم بالنسبة لي”.
وطرحت خديجة، وهي أم وربة بيت تعيش في دبي، سؤالا عما إذا كان من الممكن أن تصمم تطبيقا خاص بها. وتساءل إيه جي فينيزيانو، وهو طالب بجامعة هارفارد يرتدي قميص المرشح الديمقراطي بيت بوتجيج، عن تطبيقات علوم الكمبيوتر في العلوم الإنسانية، وقال “أتابع دروس سي أس 50 خلال فصل الصيف، لأنني كنت خائفا جدا من متابعة الدروس في الخريف، وأيضا لأنني درست التاريخ، ولم أتعرض مطلقا للترميز”.
في وقت لاحق، أخبرني فينيزيانو في مكالمة خاصة عبر تطبيق زوم، أنه التحق بدروس سي أس 50 لتمضية الوقت أثناء الحجر الصحي في منزل والديه في دايتون بولاية أوهايو. وعلى غرار بقية طلاب هارفارد، علم بخطط إغلاق الجامعة يوم 10 آذار/ مارس، بعد أن تلقى رسالة بريد إلكتروني من عميد الكلية. حينها، كان أمامه خمسة أيام لحزم أمتعته ويغادر. أخبرني فينيزيانو أنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها أساتذته خلال فترة الحجر، فإن التعليم عن بعد أثّر سلبا على دراسته.
أُلغي الدخول إلى المختبرات في درس الكوارث الطبيعية. أما في الفصل الأكثر أهمية ضمن اختصاصه، وهو دراسة الكتاب المقدس، فقد عمل أستاذه السبعيني الذي يجد صعوبة في التصوير المباشر، على تسجيل محاضراته قبل بدء الوباء.
يقول فينيزيانو إن جميع طلاب الفصل، وعددهم حوالي 200، كانوا يحضرون الدروس في الحرم الجامعي. لكن بمجرد انتقال المحاضرات إلى زوم، لم يحضر أكثر من ثلاثين منهم تقريبا في كل مرة. يضيف فينيزيانو أن محاضرات مالان ” تتقدم بسنوات على تلك التي حضرتها هذا الربيع”.
كنت أعتقد أن فينيزيانو يأخذ دورة سي إس 50 الصيفية الكاملة التي أعاد مالان تقديمها على غرار ما فعله في الربيع الماضي اعتمادا على محاضرات الخريف الأسبوعية. ولكن، عندما سألته عن مدة الدورة، بدا فينيزيانو مرتبكًا وقال:”أن أتابع النسخة المجانية”، مشيرًا إلى دورة مووك التي يمكن للجميع التسجيل فيها من خلال موقع إيديكس الإلكتروني.
وخلافا لإصدار هارفارد، لا تتضمن دورة مووك المجانية حلقات نقاش، لذلك يستعين فينيزيانو بموقع “ستاك أوفر فلو”، وهو واحد من حوالي 12 منتدى يستخدمها طلاب مالان لحل المشكلات التي تعترضهم بشكل جماعي.
لن يحصل فينيزيانو على درجة أكاديمية لأن جامعة هارفارد لا تمنح الدرجات لدورات إيديكس.
بالنسبة لفينيزيانو، لم يكن هناك خيار أفضل من هذا خاصة عندما كان على بعد 800 ميل من الحرم الجامعي.
كان هاري روي لويس عميد كلية هارفارد سابقاً من أوائل أساتذة علوم الكمبيوتر بالجامعة. في السبعينيات، عندما تخرج من هارفارد، لم تكن الجامعة تطلق على تلك المواد علوم الكمبيوتر، بل كانت تدرجها ضمن اختصاصات الفيزياء والرياضيات والرياضيات التطبيقية.
كان هاري لويس الذي تقاعد هذا الصيف، قد التحق بطاقم التدريس في هارفارد سنة 1974، عندما كان المبرمجون في الجامعة يعملون عبر وحدات تحكم طرفية متصلة بحواسيب صغيرة، وُضعت في غرفة خاصة بالطابق الأول من قسم العلوم بالجامعة.
كان بيل غيتس أحد طلابه الأوائل، وقد ترك جامعة هارفارد لاحقا لإطلاق مشروعه الخاص الذي تحول فيما بعد إلى مايكروسوفت.
يقول لويس إن إدارة الجامعة كانت حينها “غافلة عن مستقبل الحوسبة”. وفي سنة 1978، اقترح أن تنشىء جامعة هارفارد تخصصًا منفصلًا في علوم الكمبيوتر. حينها، سخر بعض زملائه من الفكرة، وقال أحدهم :”ما هي الخطوة التالية، برنامج لهندسة السيارات؟”
كان اللباس المفضل لدى مالان في ذلك الوقت هو البدلة والحمالات، لكنه اعتمد مقاربة بيداغوجية عصرية
عندما التحق مالان بجامعة هارفارد كطالب بالسنة الأولى في 1995، كان انتشار الإنترنت قد جعل من المستحيل تجاهل علوم الكمبيوتر. بدأت الشبكة العنكبوتية تتوسع، وكان لاري بايج وسيرجي برين، الحاصلان على شهادة الدكتوراة من جامعة ستانفورد، يعملان على تطوير نسخة من محرك بحث أُطلق عليه في البداية اسم باكروب، ثم تحوّل لاحقا إلى غوغل. لكن مالان، وهو ابن لمدير إعلانات ومدرس في المرحلة الإعدادية، خطط للتخصص في العلوم السياسية. فقد نشأ وترعرع في ستامفورد بولاية كونيتيكت، ويتذكر أنه كان يقضي أيام السبت على دراسة نصوص تاريخية، وأيام الأحد في مطالعة مقالات باللغة الإنجليزية.
كان كمبيوتر العائلة نموذجا بدائيا من ماكنتوش، واستخدمه مالان لطباعة واجباته المكتوبة ولعب كينغز كويست. وكما يقول، فإنه لم يكن يهتم كثيرا بكيفية عمل أجهزة الكمبيوتر. يضيف مالان، خلال عن المرحلة الإعدادية “أتذكر أنني نظرتُ عبر النافذة الزجاجية إلى مختبر الكمبيوتر، ورأيت بعض أصدقائي يقومون بهذا النشاط العبقري، رؤوسهم إلى الأسفل وهم يكتبون على لوحة المفاتيح. لم أهتم بذلك أبداً”.
وفي خريف عامه الثاني بالجامعة، اعترته رغبة في أخذ عينة من دروس سي أس 50، وقرر التمسك بالفصل لأنه يمكن أن يجتازه. قدّم تلك الدورة براين كيرنيغان، وهو أستاذ زائر حقق شهرته من خلال العمل في مختبرات بل التابعة لشركة إيه تي آند تي، وشارك في كتابة دليل شامل عن لغة البرمجة الحاسوبية “سي”. كانت محاضرات كيرنيغان تفتقر إلى جودة الآداء مقارنة بالنسخة الحالية من سي أس 50، لكن مالان وبعد بضعة محاضرات، أصبح”مدمنََا عليها “.
كل يوم جمعة، عندما كانت تُقدم مجموعة المسائل للأسبوع التالي، كان يأخذ حاسوبه المحمول – وهو حاسوب باور بوك 500، الذي كان يتميز بأول لوحة لمس في العالم – إلى مكتبة جامعة هارفارد ليبدأ العمل. وبعد عدة أسابيع من الفصل الدراسي، مدركا أنه لن يحظى بالدرجات الرئيسية إذا لم يحصل على درجة في الفصل، هرع إلى مكتب التسجيل في الوقت المناسب.
بدأ مالان في التدريس بجامعة هارفارد بفضل هنري لايتنر، الذي قام كان يدرس الدورة الثانية في السلسلة التمهيدية للتخصص عندما كان مالان طالبا.
التقى الاثنان لأول مرة في نهاية الفصل الدراسي عندما زار مالان مكتب لايتنر للاعتراض على درجته النهائية (والتي كانت درجة أقل من الممتاز). ذُهل لايتنر الذي كان حينها عميدا مشاركا في قسم التعليم المستمر بجامعة هارفارد، من سلوك مالان، لكنه عيّنه في نهاية المطاف كمدرس مساعد في مدرسة هارفارد الإرشادية.
وفي ربيع السنة التي تخرج فيها، وفي ظل نقص المدرسين، كلف لايتنر مالان بتدريس دورة كاملة، وحذره من أن يخبر طلابه أنه لا يزال هو نفسه طالبًا.
كان اللباس المفضل لدى مالان في ذلك الوقت هو البدلة والحمالات، لكنه اعتمد مقاربة بيداغوجية عصرية أصبحت فيما بعد جزءا من هويته، حيث أثرى محاضراته باستخدام رسوم وورد آرت وجعل الدروس أقرب إلى أذهان الطلاب.
في درسه الأول الذي قدمه في قاعة محاضرات ذات إضاءة ضعيفة، طرح سؤالاً بسيطًا: “في منتصف سنة 1998، كم كان عدد أجهزة الكمبيوتر الموصولة بشبكة الإنترنت؟ (إذا لم تكن متأكدًا من ماهية الإنترنت، فهذا أمر عادي). كانت الإجابة ستين مليونًا. وأضاف: “لا يسعنا إلا أن نتخيل كيف ستكون الأرقام بحلول سنة 2000”. وفي نهاية ذلك الفصل الدراسي، أخبرني لايتنر أن “تقييم ديفيد كان خمسة على خمسة في كل المستويات”.
ملابس مالان المميزة هي عبارة عن سترة سوداء رفيعة وبنطال أسود ما يجعله أشبه بستيف جوبز.
يعمل تقنيو الإنتاج بدوام كامل في دورة سي أس 50 مع مالان لتصوير وتحرير وتحميل محاضرات الدورة وكل ساعات العمل ومقاطع الفيديو الإرشادية ومجموعة كبيرة من المواد الترفيهية الإضافية.
بعد التخرج، قضى مالان فترة في تدريس الرياضيات بالمدرسة الثانوية في مقاطعة فرانكلين بولاية ماساتشوستس، وقضى العام الموالي في شركة ناشئة للاتصالات اللاسلكية في فيلادلفيا، كما واصل العمل عن بعد في جامعة هارفارد.
كان لايتنر يُشرف على أول دورات المدرسة الإرشادية عبر الإنترنت. لم يكن التعليم عن بعد شيئا جديدا، إذ تعود جذوره إلى الخمسينات من خلال البث الإذاعي والتلفزيوني، كما استُخدمت الأشرطة السينمائية في الستينيات لتسجيل مواد تعليمية لأفراد القوات البحرية عن كيفية استخدام الغواصات.
لكن النموذج الجديد أصبح يقوم على تحميل مقاطع الفيديو والمنتديات الافتراضية. وقد أخبرني لايتنر أنه كان يقدم دورات في علوم الكمبيوتر على أمل أن يكون الطلاب على دراية كافية باستخدامه ويتجنب عناء تقديم الدعم الفني بشكل مستمر.
لم تكن منصات البث المباشر على غرار تطبيق زوم موجودة آنذاك، لكن الدورات التدريبية الأولى التي قدمها مالان، والتي تضمنت محاضرات مسجلة مسبقًا ومجموعات مسائل في شكل بي دي إف، لم تختلف كثيرًا في جوهرها عن المحاضرات التي يقدمها حاليا. يقول مالان: “بالطيع، جودة الفيديو كانت أسوأ بكثير.. ولكن جوهر الفكرة كان هو ذاته تقريبا”.
في سنة 2002، بناءً على اقتراح لايتنر، سجلّ مالان في برنامج الدكتوراه بجامعة هارفارد، وأجرى بحثًا تحت إشراف مايكل سميث، الذي كان آنذاك مدرسًا لدورة سي أس 50.
أصبح مالان أول مدرس من هارفارد يوفر دورة كاملة مجانًا بالصوت والصورة. وعندما تمت ترقية سميث إلى منصب عميد في سنة 2007، طلب مالان من لايتنر مساعدته في الحصول على مكانه.
وفي ذلك الوقت، كانت دورة سي أس 50 لا تزال تُعرف بجمودها وصعوبتها.
لم يكن هدف مالان منذ البداية تدريس الدورة فحسب، بل تغيير طبيعتها على أمل جذب المزيد من الطلاب، خصوصا أولئك الذين ليس لديهم معرفة مسبقة بعلوم الكمبيوتر.
في العقد الماضي، انخفض عدد التخصصات في اللغة الإنجليزية بجامعة هارفارد بأكثر من الثلث
أخبرني مالان أنه كان معجبًا دائمًا بالمبشرين الذين يشاهدهم على شاشة التلفزيون بسبب “أسلوبهم في الإقناع”. ويضيف “أعتقد أن السبب الرئيسي وراء اهتمامي بالآداء هو شعوري بالخوف من أن يشعر الجمهور بالملل”.
على مدى سنوات، أعاد مالان صياغة منهج سي إس 50، وأصلح مشكلاته وأعدّ البنية الأساسية لفيديواته. كما شكّل فريقا لمساعدته على تطوير أدوات تعليمية متخصصة.
أدخل مالان أنشطة ترفيهية لم تكن شائعة في الجامعة، لكنها كانت معروفة في الشركات التي اشتغل فيها خريجو هارفارد مثل غوغل وآبل وفيسبوك.
بدأتُ أدرس علوم الكمبيوتر في جامعة ييل في نفس الفصل الدراسي الذي اعتمدت فيه الجامعة دروس سي أس 50. على الرغم من أنني لم ألتحق أبدًا بالصف، إلا أن صور دورات مالان كانت تظهر تظهر باستمرار على صفحتي بموقع فيسبوك.
إعتاد مالان على خرق المعايير الأكاديمية من أجل تحقيق انتشار أكبر لدروس سي أس 50. في سنة 2014، نجح مالان في الضغط على جامعة هارفارد لمنح منهج سي أس 50 الإعفاء الوحيد من اللائحة التي تمنع الطلاب من التسجيل في فصلين مختلفين في الوقت ذاته، وجادل بأنه يمكن للطلاب مشاهدة محاضراته في وقت لاحق.
في السّنة ذاتها، وللحد من حالات الغش المتفشية داخل السي أس 50، وفي معظم فصول علوم الكمبيوتر، قدم مالان اقتراحا يمنح الطلاب فرصة الإفلات من العقوبات الجامعيّة الصارمة إذا اعترفوا بالغش في غضون ثلاثة أيام. (بعد بضع سنوات، كان أكثر من ستين طالبًا من طلاب سي إس 50، أي عُشر إجمالي عدد الطلاب في الفصل، قد انتهى بهم الأمر أمام مجلس التأديب).
وفقًا لـكريمسون (صحيفة هارفارد اليومية)، تنافس كل من مالان وجامعة هارفارد في وقت ما على تقديم طلبات لتحويل سي أس 50 إلى علامة تجارية (أخبرني مالان الذي كان قد سحب حينها طلباته بعد أن تحركت هارفارد لحجبها، أن الصحيفة أساءت فهم الحادثة، قائلا: “كنت على قد أجريت اتصالا مطولا مع مكتب المستشار العام في هارفارد”.)
لقد أثار نجاح سي أس 50 وانتشارها مخاوف البعض في هارفارد. في سنة 2015، بعد أن انتقلت دروس سي أس 50 إلى قاعة لوكر المرموقة بمكتبة وايدنر، أطلق مجموعة من الطلاب حملة ساخرة باسم “أعيدوا وايدنر”، لانتزاع القاعة من سي أس 50.
في تلك السّنة، نشرت صحيفة كريمسون افتتاحية تدعو الجامعة إلى تقليص نفوذ سي إس 50. كتب أحد الطّلاب تدوينة جمع فيها شهادات مجهولة المصدر قائلا :”كيف يمكنهم شراء قمصان لـ 800 شخص، مع كرات الإجهاد والنظارات الشمسية وغيرها؟ من أين يأتي هذا المال؟” لم يكن مالان أو ممثلو هارفارد يريدون مناقشة الجوانب المالية.
قال أحد ممثلي الجامعة: “دون الخوض في التفاصيل، يمكن القول أن سي أس 50 دورة مكلفة، لكنها تتماشي مع الدورات الأخرى في قسم علوم الكمبيوتر، والتّي كلها أقلّ منها قيمة.
نظرًا لأن سي إس 50 تقدّم دروسها أيضًا في المدرسة الإرشادية من خلال قسم التعليم المستمر في جامعة هارفارد، فإنّ لديها مصدرا آخر للتمويل. أخبرني ليتنر الذي يشرف على ميزانية الابتكار في المدرسة الإرشادية أن بعض نفقات سي إس 50 مدرجة ضمن بنود البحث والتطوير.
قدّر مالان، الذي يُشغّل معه في الغالب ما يصل إلى مائة مساعد تدريس، أن تكاليف الأنشطة الإنسانية وحدها تبلغ مائتي ألف دولار في الفصل الدراسي. بالنسبة للعديد من الأحداث الاجتماعية، يغطي سي أس 50 نفقاته من خلال عقود الرعاية مع شركات التكنولوجيا.
منذ تولي مالان مسؤولية سي أس 50، إرتفع عدد تخصصات علوم الكمبيوتر في جامعة هارفارد ستة أضعاف. وفقًا للبيانات الصادرة عن جمعية أبحاث الحوسبة، شهد قسم علوم الكمبيوتر بهارفارد نموّا بنسبة 50 في المائة مقارنة بما كان يحققه بين 2006 و2015. (كما زادت نسبة الإناث في التخصص، إلّا أنّها لم تتجاوز الثلاثين في المائة).
أخبرني لويس، أحد الطلاب قسم علوم الكمبيوتر، أن تزايد الاهتمام عرّض سي أس 50 لنوعين مختلفين من الانتقادات. من جهة، هناك طلاب علوم الكمبيوتر المتفوّقون الذين يفترضون أنّ وجود زملاء في الفصل لا “يعرفون شيئا”، يعني أن سي أس 50 “أقلّ من مستواهم”. ومن جهة أخرى، هناك الأشخاص الذين يعتقدون أن سي أس 50 يرمز لسيطرة التكنولوجيا التي ستسحب البساط من الفنون والعلوم الإنسانية.
في عام 2014، ولأول مرة، كشف تقرير جامعي أن عدد طلاب هارفارد المتخصّصين في الهندسة والعلوم التطبيقية أكثر من الذّين اختاروا الفنون والعلوم الإنسانية.
في العقد الماضي، انخفض عدد التخصصات في اللغة الإنجليزية بجامعة هارفارد بأكثر من الثلث. يتحدث ليتنر البالغ من العمر ستة وستين عامًا، والمنتمي للمدرسة التقليديّة، بإعجاب واضح عن سي أس 50، لكنه يقول إنه تردّد في الموافقة على بعض نفقات الفصل.
قال لي مالان عدة مرات إنه يقوم بتصوير سي أس 50 بتقنية 4 كيبي عالية الجودة ليوفر لمتابعيه تجربة لا تقل عن تلك التي تقدمها نتفليكس لمشاهديها.
كتب مالان قائلا إن جودة تصوير المحاضرات جزء من بيداغوجيّة الفصل، إذ يسمح التصوير الجيد للطلاب الذين يتابعون الدرس عن بعد أن يشعروا بأنهم موجودون داخل الفصل مع بقية الطلاب.
لكن لايتنر يقول إن مالان اعتمد تقنية 4 كيبي في وقت كان فيه الناس يحصلون بالكاد على بث بجودة عالية.
في عام 2016، اقترح مالان استخدام كاميرات “في آر” التي تكلّف الواحدة منها أكثر من عشرين ألف دولار، للسماح لطلاب سي إس 50 عبر الإنترنت بمشاهدة مسرح ساندرز بتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد. “هل كان ذلك مهمّا؟ هل كان يستحق تلك التلكفة؟ يقول ليتينر: “لقد مازحته، وقلت له إنني لم أفهم القيمة التعليمية من ذلك”. (أخبرني مالان أن اقتراحه كان يقضي بتأجير الكاميرات من شركة نوكيا التي تقوم بتصنيعها، وهذا ما حصل في النهاية).
يجهز مالان مسرح ساندرز، قاعة المحاضرات الفخمة حيث يقوم بالتدريس، بخمس كاميرات – بعضها تدار يدويّا، والبعض الآخر يتم التحكم فيه آليا – وفي الجزء الخلفي غرفة مؤقتة للإنتاج
عندما يشعر أنه يقاوم تهوّر مالان، غالبًا ما يتذكر لايتنر أنه كانت لديه شكوك مماثلة حيال طالب سابق متألّق ومغامر،هو مارك زوكربيرغ الذي تلقى إحدى دورات لايتنر كطالب في هارفارد، قبل أن يترك الدراسة في نهاية سنته الثانية، لمواصلة العمل على موقع ويب كان قد بدأه من غرفته.
في عام 2004، بناء على دعوة من زوكربيرغ، أنشأ لايتنر حسابًا على ذي فيسبوك دوت كوم، كما كان يُعرف في ذلك الوقت، لكنه فشل في فهم سر جاذبيته غير العادية. يقول لايتنر: “أتذكر أنني قلت في نفسي: شيء جميل.. إنها فكرة رائعة”.
ويضيف: ” تعلمت الدرس.. أدركت أن منح ديفيد حرية الإبداع سيكون في مصلحة الجميع. لا ندري أبدا ما الذي يمكن أن يبتكره”.
يوم الاثنين، السادس من يوليو الجاري، أعلنت جامعة هارفارد أن حرمها الجامعي سيُعاد افتتاحه هذا الخريف لما يزيد عن أربعين بالمئة من الطلاب الجامعيين، بما في ذلك الطلاب الجدد والطلاب الذين يُعتقد أنهم يواجهون صعوبات في التعلّم عن بُعد.
بالنسبة لكل الطلاب، داخل الحرم الجامعي وخارجه، سيصبح التعليم إفتراضيّا بالكامل.
كانت تلك الأخبار صادمة لفينيزيانو، الطالب في السنة الثانية: “لا أعتقد أن الكثير من الناس توقعوا أن يكون القرار صارما بهذه الطريقة”.
ستسمح جامعة ييل لكل الفصول بالعودة إلى الدراسة باستثناء طلاّب السنة الثّانية، بينما فتحت العديد من الكليات الأخرى حرمها لجميع الطلبة. كان فينيزيانو، الذي ليس من المرجّح أن يحصل على سكن في الحرم الجامعي، يفكر في استئجار شقة بسعر زهيد في بوسطن مع زملائه الجدد
قلّص تواصل انتشار فيروس كورونا فرص العمل و السّفر، ولا تستطيع الجامعات أن تضمن توفير سكن لكلّ الطلاب الذين خرجوا في إجازة عندما يعودون للدراسة.
لكن رسوم جامعة هارفارد المرتفعة، أكثر من تسعة وأربعين ألف دولار في السنة باستثناء السكن والطّعام، تبدو صعبة التفسير في غياب كل الميزات التي توفرها الدراسة داخل الحرم الجامعي. قامت برنستون بتخفيض رسومها بنسبة 10 بالمائة، بينما لم تقدم جامعة هارفارد أي تخفيضات.
بعد أيّام قليلة من الإعلان عن الخطّة، اجتمعت أماندا كلايبو، أستاذة اللغة الإنجليزية في جامعة هارفارد وعميد المرحلة الجامعية، بعدد من زملائها في ندوة عبر الإنترنت، مفتوحة للطلبة، للتباحث حول الفصل الدراسي القادم.
قالت كلايبو إن فصل الربيع مرّ في حالة من الفوضى، بينما الآن يوجد المزيد من الوقت للتخطيط. في اليوم التالي أخبرتني كلايبو عبر الهاتف أنه من المتوقع أن يخضع جميع الأساتذة لبرنامج تدريبي لمدة أسبوع قبل التدريس عبر الإنترنت في الخريف.
عندما حدثتُها عن عودة مالان لتصوير دروسه في مسرح ساندرز بدت متفاجئة، وقالت إنها عندما حاولت جلب أحد الكتب من مكتبها، أرسل أمن الحرم الجامعي فريق تعقيم وراءها.
في الأسبوع ذاته لصدور الإعلان، اختتم مالان ورشته التّعليميّة التي درّب فيها معلمين من جميع أنحاء العالم على كيفيّة تدريس سي أس 50. على الرغم من عمل مالان في عدد من اللجان في هارفارد، إلا أنني لم أفهم منه أو من المسؤولين الذين تحدثت معهم، حقيقة كونه ناشطًا بشكل خاص في التخطيط لتغيير نمط التعليم. كتب مالان منشورا على منصة ميديام قدّم فيه تفاصيل خطته لإنشاء استوديو عمل من المنزل يتضمّن كاميرا ويب وميكروفون وأعمدة إضاءة متعدّدة الألوان وشاشة خضراء، كلها موضوعة في المطبخ. وكتب أنه عند الحاجة، يمكن لصندوق من الورق المقوّى أن يكون بديلا لمكتب.
الغالبية العظمى من الطلاب الذين يستفيدون من سي أس 50 لن يحصلوا أبدًا على درجة من جامعة هارفارد
أخبرتني ريبيكا نيسون، وهي أستاذة محاضرة في علوم الكمبيوتر تساعد كلايبو على التّخطيط للخريف، أن هارفارد خصصت في الخريف ما يصل إلى مائة وخمسة وعشرين دولارًا لكل مدرب للحصول على معدات، وقالت إن إقتراحات مالان كانت “خارج نطاق ما يمكن أن تدعمه جامعة هارفارد”.
أجبر تعليق الدروس إلى أجل غير مسمى، نتيجة انتشار الوباء، الجامعات في جميع أنحاء البلاد على تخفيض رواتب أعضاء هيئة التدريس. كما أثار تكهنات حول مستقبل التعليم العالي. من المرجح أن تصمد هارفارد التي تحصل على منح تبلغ أكثر من أربعين مليار دولار، في وجه هذه التقلبات.
هل ستهيمن الجامعات الكبرى على التعليم الجامعي عبر توسيع قاعدة الطلاب عبر الإنترنت، وتتدهور جامعات المستوى الثاني؟ إذا أجبر الوباء الجامعات على تبني الدراسة عن بعد بشكل أكبر، فكيف سيصبح الحرم الجامعي الذي نعرفه اليوم؟
قدم غابرييل غيمارايش بعد تدريسه سي أس 50 في البرازيل لمدة ثلاث سنوات، طلبًا وتمّ قبوله في جامعة هارفارد. كان خبر قبوله خبرا مهما في ولاية إسبيريتو سانتو، إذ في الأسبوع الذي تلقى فيه خطاب القبول، حضر الصحفيون إلى منزله. على الرّغم من عمله في شركة مالية ناشئة في سان فرانسيسكو إثر تخرجه، اكتشف غيمارايش أن عددًا من زملائه – بمن فيهم رؤساؤه – قد تركوا المدرسة. قال مؤخرًا من بلدة شاطئية خارج ريو دي جانيرو حيث يقضي فترة العزل مع العديد من زملائه: “لست بحاجة للذهاب إلى هارفارد”.
يشارك مالان بشكل ما فكرة غيمارايش حول جدوى التعليم العالي. في النّهاية، الغالبية العظمى من الطلاب الذين يستفيدون من سي أس 50 لن يحصلوا أبدًا على درجة من جامعة هارفارد.
مالان هو مثال مميز على إنجازات هارفارد، وقد أخبرني أنه يجد صعوبة في تخيل مغادرة الجامعة، ويقول إنه مع وجود الكثير من المحتوى المجاني على الانترنت، فإنّ اسم هارفارد هو ما يساعد في جذب طلاب سي أس 50.
يقوم مالان حاليا بالتفكير في طرق جديدة لجذب الطلاب إلى ساندرز في الخريف، وقد سأل عشرات من موظفيه في مكالمة افتراضية “هل رأيتم تلك المضيفة التي تظهر بتقنية الهولوغرام في مطار لوغان؟ لا أريد ذلك على المسرح، ولكن هل هناك أشياء من هذا القبيل؟”
المصدر: نيويوركر