ترجمة وتحرير نون بوست
هرب حسن العقاد من دمشق بعد تعرضه للتعذيب على يد نظام الأسد. ولكن لا شيء ساعده في التأهب للعمل كمنظف في جناح كوفيد-19 في لندن.
يقول حسن العقاد إنه كانت هناك أوقات في السنوات العشر الماضية فكر فيها بأن حياته أصبحت أشبه بفيلم، معتقدا أحيانا أن ذلك ما يجعله عاقلا، والأهم من ذلك، أنه جعله يواصل النضال. في الواقع، بدأ العقاد في المشاركة في الأحداث العالمية سنة 2011، عندما وضع المدرس الشاب للغة الإنجليزية نفسه في الخط الأمامي في احتجاجات الربيع العربي المنادية بالديمقراطية في وطنه سوريا. وتعرض العقاد للضرب والسجن من قبل النظام، كما أتيحت له الفرصة لمقابلة بشار الأسد، معذبه، وجها لوجه للدفاع عن قضيته.
بعد أن فر من دمشق خوفا على حياته خلال الحرب الأهلية، أصبح العقاد لمدة ثلاث سنوات واحدا من هؤلاء الاثني عشر مليون “نازح” الذين يبحثون عن منزل في أخبار الساعة السادسة. قدمت مقاطع الفيديو التي التقطها بهاتفه خلال رحلته الطويلة إلى بريطانيا، وهو متمسك بزورق لتهريب الناس قبالة سواحل تركيا باتجاه “الغابة” في كاليه، اللقطات الأكثر وضوحا وتأثيرا لتظفر بجائزة البافتا من بي بي سي: سلسلة رحلتنا إلى أوروبا.
تتضمن آخر أحداث حياة العقاد الأوديسة فيديو آخر عن العصامية. بعد أن شغل وظيفة عامل نظافة في قسم كوفيد-19 في المستشفى المحلي “ويبس كروس” في شرق لندن، عند بداية انتشار الوباء في أيار/ مايو، سجل العقاد فيديو مؤثرا موجها إلى بوريس جونسون. وقد تحدث العقاد، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، من خلال هاتفه حين كان قد شارف على إنهاء مناوبته المنهكة.
كان الخطاب المرتجل، الذي ألقاه العقاد نيابة عن هؤلاء العمال المهاجرين في هيئة الخدمات الصحية الوطنية الذين وقع استبعادهم بشكل مخزي من مخطط التعويضات الحكومية وأجبروا على دفع علاوة لاستخدام المستشفيات التي كانوا يخاطرون بحياتهم لضمان مواصلة عملها بشكل طبيعي، له دور مباشر في جولة أخرى من جولات رئيس الوزراء المتواضعة في اليوم التالي.
أثناء جلوسه في الحديقة المشتركة لشقته الأسبوع الماضي، كان العقاد يتساءل عما يخبئه له سيناريو حياته بعد ذلك. ضحك العقاد من جوانب حياته السريالية: حقيقة أن نجمة البوب دوا ليبا اختارته كبطل قومي لها في جي كيو في حزيران/ يونيو؛ وظهوره المؤثر مع بيرس مورغان في برنامج صباح الخير بريطانيا، حيث لم تساعد هذه المقابلة فقط في جمع 35 ألف جنيه استرليني لصالح مستشفى سانت بارثولوميو الخيري، بل لعبت دورا مهما في طريق مورغان نحو البحث عن الذات. في الواقع، قال مورغان: “يمكننا جميعا أن نكون أشخاصا أفضل بعد ذلك، حسن. أنا لا أستبعد نفسي. أعتقد أنها جلبت الكثير من المنظور، أنا حقا أعتقد ذلك”.
إذا كان الكابتن توم بمثابة مورغان تذكير بالماضي، فيبدو أن العقاد، البالغ من العمر 32 سنة، يمثل له رؤية لمستقبل ألطف وأكثر شمولا. في اليوم السابق لمقابلتنا، نشر العقاد صورة على تويتر لبطاقة عضويته الجديدة اللامعة في حزب العمال. وصرح العقاد أنه يفكر في استخدام الفرصة الفريدة التي أتيحت له في هذا البلد وبلاغته الجذابة في لغته الثانية للقيام بشيء ما في السياسة.
اقضِ ساعة أو ساعتين صحبته، وأنا أتحداك ألا تشعر برغبة في طباعة المنشورات وطرق الأبواب نيابة عنه. وصل العقاد إلى بريطانيا سنة 2015 في الوقت المناسب ليشهد ملصق الاستفتاء الذي طرحه نايجل فاراج تحت عنوان “نقطة التحول”. ومن الجدير على مخرج فيلم سيرته الذاتية أن يترك نفس المساحة للوحة الإعلانات في الانتخابات المستقبلية: صوّت لحسن العقاد من أجل بريطانيا التي قد تفخر بها مرة أخرى.
حسن العقاد في الفيلم الوثائقي لبي بي سي “الرحيل” – تم تصوير الكثير من اللقطات من خلال هاتفه.
غني عن القول أن حسن لم يرغب في أي من هذه الدراما. تحدثنا أولا ونحن جالسين تحت أشعة الشمس، حول طاولة في الحديقة على كرسيين مبطنين، محاطين بالارتفاعات الخلفية الحادة للشرفات الإدواردية، حول أهمية حسن الجيرة. نشأ العقاد في دمشق، حيث كان والده يملك مطعما للبيتزا، وكان يعرف جميع من في شارعه. في لیتنستون، قام العقاد بالدردشة مع جيرانه خلال أزمة كوفيد-19. وقال إن الجميع هنا اهتموا بشؤونهم الخاصة فقط، ولكن لحسن الحظ، بعد تقدير جهود مقدمي الرعاية الصحية، فقد تغير ذلك وصرح العقاد في هذا الصدد: “أعتقد أنه من المهم أن يكون لديك جيران بمثابة أصدقاء”.
علاوة على ذلك، مد حسن يد الضيافة من خلال التطوع في بنك الطعام المحلي، حيث تضاعفت الحاجة للطعام ثلاث مرات لأولئك الذين ليس لديهم دخل أو تغطية. في الحقيقة، لطالما كانت عادات سكايب للعزلة الاجتماعية واقعه منذ فترة طويلة. غادرت عائلته جميعا سوريا، حيث تم نقل والديه إلى الإمارات العربية المتحدة بينما كان شقيقه في اليمن يعمل في برنامج الغذاء العالمي، ولم تجتمع تحت سقف واحد منذ ثماني سنوات. بقي أعمامه وأبناء عمه في دمشق، حيث انهار الاقتصاد وتفشى فيروس كورونا، مع تجاهل تام للحكومة.
قبل يومين كان العقاد على الهاتف مع صديق له في سوريا قد توفي والده بسبب الفيروس. وفي شهادة الوفاة كتبوا أن “سبب الوفاة مرض الرئة وليس كوفيد-19. حتى في أوقات الوباء، كما نعلم، تلعب الدعاية دورا كبيرا”.
استجاب العقاد في البداية إلى حملة التوظيف لتشغيل عمال تنظيف وحمالين في مستشفى ويبس كروس، الذي يبعد 10 دقائق من منزله، لأنه شعر أنه بحاجة للعب دوره في حالة الطوارئ هذه. كان هناك نقص في الموظفين لأن العديد من العاملين في هيئة الخدمات الصحية الوطنية أصيبوا بالمرض. كان 90 بالمئة من الحالات التي تم قبولها في المستشفى من المصابين بفيروس كورونا. على الرغم من أنه قد وقع اعتقاله في السجون السورية، ولكن مع ذلك، يقول: “لا أعتقد أنني كنت خائفا من المشي في المبنى كما كنت حينها في الأول من نيسان/ أبريل. في ذلك الوقت، كان مستوى الشك مرتفعا للغاية”.
أصبح رئيسه من أصول بريطانية غانية، ألبرت، الذي عمل في القسم لمدة 15 سنة، زميله. كانوا يصلون في حدود السابعة صباحا، ثم يشرعون في التنظيف والعمل على تطهير كل ما يمكن رؤيته، “جميع النقاط الساخنة، ومفاتيح الإضاءة، والمراحيض وإطارات الأسرة للمرضى، الذي كان بعضهم كانوا قد فارقوا الحياة”.
كان حسن يعمل ثماني ساعات في اليوم، وخمسة أيام في الأسبوع، ثم يعود إلى شقته هنا ولا يبارحها، ولا يخاطر حتى بالذهاب إلى المتاجر. في سياق عمله، بدأ العقاد في التقاط صور لزملائه، والتي ظهرت في مقال كتبه لمجلة بوليتيكو. جعلت صداقاته الممرضات وعمال النظافة موجودين من جديد على الصفحات في وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا الشأن، يقول العقاد: “كنا 18 شخصا في القسم، وجئنا من 12 دولة”. ما كان يواسيهم في مهمتهم هي دردشتهم التي كانوا يجرونها خلال فترات الراحة. كان صديقه وزميله جيمبا، مضيف القسم، يصنع الأرز النيجيري المميز ويتفاخر به على الغداء، بينما ينافسه العقاد أيضا من خلال طهي الحمص والفلافل. وأوضح العقاد: “كنا نحاول صرف انتباهنا عما كنا نراه، لأن الواقع كان فظيعًا للغاية”. أصيب جيمبا بفيروس كوفيد-19 أما ألبرت، البالغ من العمر 52 سنة، فقد خلع كتفه نتيجة لكثافة متطلبات التنظيف. وقد زاد الضغط عليهم جميعا بسبب الإحباط السياسي المنتشر.
يتذكر العقاد أنه ذهب إلى العمل صباح اليوم الذي قررت فيه الحكومة استبعاد أسر عمال النظافة والناقلين في هيئة الخدمات الصحية الوطنية من مخطط تعويضات الفاجعة. وجادل رئيس الوزراء، الذي غادر المستشفى مؤخرًا، بأن العمال المهاجرين الذين يتقاضون الحد الأدنى للأجور والذين كانوا يعملون على ضمان حسن سير أقسام كوفيد-19 سيستمرون في دفع 400 جنيه إسترليني إضافية للانتفاع بخدمة هيئة الخدمات الصحية الوطنية.
يقول العقاد: “عندما وصلت في ذلك اليوم، شعر الجميع بالخيانة الكاملة والطعن في الظهر”. أمضى نوبته غير قادر على التفكير في أي شيء سوى الظلم الذي تمارسه هذه السياسة. عندما جلس في سيارته في وقت لاحق، وتحدث في كاميرا هاتفه، عبر عن الشعور الذي خالجه: “كان هناك هذا الشعور أيضا؛ لقد جئت من سوريا؛ هذه ليست أشياء أتوقع أن أواجهها هنا”.
كان العقاد واحدا من فريق مكون من 14 عامل نظافة قاموا بتطهير أقسام كوفيد-19 في مستشفى ويبس كروس بشرق لندن، 10 منهم من المهاجرين.
أتساءل لماذا يعتقد أن تدخّله أثبت فعاليته؛ لم يكن لدى رئيس الوزراء أبدا كياسة للرد عليه مباشرة، ولكن تم عكس السياسة على الفور تقريبا. وقال العقاد: “أعتقد أن ذلك لأن اللاجئين – السوريون – هم عادة المنتفعون من العمل الإنساني. لذلك عندما أقوم بذلك، وأجمع 35 ألف جنيه إسترليني من أجل صندوق بارتس، فهم يخطؤون الظن”. وقد رفض العقاد هذا التناقض المتصور. لقد تحدث عن حقوق الإنسان في سوريا، فلماذا يستسلم الآن وقد وجد منزلا هنا؟ ويقول حسن: “من تجربتي، فإن الأشخاص الذين يتم استبعادهم من المساعدة هم دائما الأكثر عرضة للخطر. وفي هذه الحالة عمال النظافة والحمالون”.
أخبر العقاد بيرس مورغان، مع بعض التسلط، أن أي إنسان عاقل سيتغير بسبب الأزمة. إذا نظرنا إلى الوراء، فقد حدد العقاد الربيع العربي على أنه اللحظة التي نحتته حقا. كما أضاف العقاد: “إذا سردت نكتة حول النظام وانتشرت، فستكون هناك عواقب”. في سن الثانية عشرة، أُجبر العقاد على الانضمام إلى حزب البعث الحاكم، وارتداء الزي العسكري في المدرسة، وتلاوة شعاراته “الوحدة والحرية والاشتراكية” ولعن “الصهيونية والإمبريالية”، على الرغم من أنه لم يفهم ماذا تعني أي من هذه الكلمات. يقول: “في نفس السنة تم اقتيادنا إلى حقل وتعلمنا إطلاق النار من البندقية. كانت سوريا دولة غنية ولكن كل الأموال ذهبت إلى نظام الأسد وحلفائه”.
درس العقاد اللغة الإنجليزية ولكن تم حظر معظم الكتب. كانت نقطة التحول بالنسبة له هي قراءة مذكرات تسمى القوقعة، وقد كتبها مسيحي سوري يدعى مصطفى خليفة. وصف الكتاب كيف تم القبض على خليفة وتعذيبه في سجن المخابرات سيئ السمعة في تدمر. يقول العقاد: “كان ابن عمي في ذلك السجن في نفس الوقت. أصبحت تلك المذكرات كتابي المقدس. بمجرد أن قرأتها، لم يكن بإمكاني أن أفكر بعقلانية وأن أعيش مع نظام كهذا”.
على عكس العديد من المحتجين الديموقراطيين، لم يكن للعقاد شيء ليخسره سنة 2011، فكان يهتم بنفسه جيدا. كان يدرس اللغة الإنجليزية ويقوم بمهام التصوير الفوتوغرافي في أوقات فراغه، ويكسب ألفي جنيه إسترليني شهريا، أكثر مما كان والده يحققه في مطعمه.
كان لديه سيارة وكان على وشك وضع وديعة للحصول على شقة. كل ذلك تغير باعتقال وتعذيب 15 طفلا في مدينة درعا، زُعم أنهم كتبوا شعارات مناهضة للأسد على الحائط، وهو الحدث الذي أثار الحرب الأهلية في سوريا. وفي هذا الصدد، يقول العقاد: “لم أستطع سماع تلك القصة وعدم التورط. كان يمكن أن يكونوا طلابي، حيث تتراوح أعمارهم بين 13 و14 سنة. وقد قامت الشرطة السرية بقلع أظافرهم. كانت تلك البداية بالنسبة لي”.
كانت الاحتجاجات تنتشر، لكن الاستجابة كانت وحشية. قام العقاد بتصوير المظاهرات ونشرها على الإنترنت. في المرة الأولى التي تم فيها اعتقاله وضربه من قبل الأجهزة الأمنية، تم كسر ذراعي العقاد بقضبان حديدية أثناء محاولته حماية وجهه. كما تم تحطيم أضلعه وساقيه. لم يمض وقت طويل بعد إطلاق سراحه، ليتم استدعاؤه لمقابلة الأسد.
قال العقاد وهو يبتسم ويهز رأسه: “يبدو أنه سمع قصتي – لقد عملت في مدرسة مع بعض النخبة من الأطفال. لذا طلب مني أن أقابله في قصره. ذهبت إلى هناك بأمانة وأنا أفكر في أنني الشخص الذي يمكنه تغيير رأيه. قلت له ‘إذا تحدثت بصدق فهل سيُسمح لي بالعودة إلى المنزل اليوم؟’ فقال نعم. لذلك أخبرته بصراحة عن التعذيب الممنهج لنظامه، وأنني عشت تلك التجربة. أخبرته كيف كان يصنع جيلا من الأعداء. أعتقد أنه يجب عليك دائما قول الحقيقة للسلطة. لكنني أفترض أن هذا ما أدى إلى فترة اعتقالي الثانية … “.
في الواقع، هناك أجزاء من تلك التجربة يجد العقاد صعوبة في التفكير فيها. وُضع في زنزانة تحت الأرض مساحتها مترين، وأخبروه أنه سيبقى هناك إلى الأبد. كانت هناك خدوش وعلامات على الجدران من السجناء الذين كانوا قبله. أُطلق سراحه بعد أسبوعين، لكن تأثير ذلك عليه كان أسوأ من الضرب الجسدي. وقال العقاد: “عندما تكون في رحلة للوصول إلى مكان ما، كما كنت، فإنك تحمل الكثير في داخلك، ولكن عندما تصل إلى المكان، تظهر ندوب عاطفية، تحت ندوب التعذيب”.
في بريطانيا، تم تشخيص إصابته باضطراب ما بعد الصدمة المعقد، ولكن لم يتم الحديث عن الصحة العقلية بكثرة في سوريا. ويقول: “أنت عالق فجأة مع هذا الشيء الذي ليس لديك مفردات لوصفه. لقد اضطررت حرفيا إلى استخدام أدوات غوغل لمعرفة ما يجري في رأسي”.
في صورة شخصية مع جائزة بافتا لأفضل مسلسل واقعي الرحيل.
يعتبر العقاد أن العمل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية في الأشهر الماضية ساعده في فهم بعض جوانب هذه الصدمة بشكل صحيح لأول مرة، فقال: “كان المستشفى مرعبا ولكنه كان يمنحني بعض القوة بشكل ما”. بعد أن شهد أسوأ ما في الإنسانية، رأى الآن بعضا من أفضل جوانبها في زملائه. “لقد شاهدت الكثير من الناس يموتون، ولكن أيضا الكثير يتعافون ويعودون إلى منازلهم لأحبائهم، ولقد لعبت دورا صغيرا في تحقيق ذلك”. في الحقيقة، يتناقض هذا الإحساس الصغير بالسلطة، حتى في الأزمة، مع عقد كانت فيه ظروف حياته القصوى خارجة عن سيطرته في كثير من الأحيان. ويضيف العقاد: “خرجت من العمل في المستشفى وأستطيع أن أقول للناس أنني لست ضحية”.
مثل جميع اللاجئين، طُلب من العقاد حمل هذا الوصف معه في جميع أنحاء أوروبا. ويقول العقاد: “يريد الناس دائما رؤيتك كرمز للألم. على سبيل المثال، أزعجني أن أصدقائي لن يطلبوا مني أن أغضب إذا كنت أشعر بالغضب، أو أيا كان”. كان الناس يشفقون عليه أو يصنفونه ضمن مجموعة معينة من الأفراد أو كليهما. لا يشعر العقاد أنه قد تلقى الأجر أو التعويض المناسب عن فيلم بي بي سي “الرحيل”، إذ يقول إنه لم يتلق أي مدفوعات مقابل خمس ساعات من اللقطات التي سلمها وقد قرر التعلم من هذه التجربة.
أراد العقاد أن يحظى بفرصة ولا بالتعاطف، فأوضح قائلا: “عندما نشرت مقطع الفيديو الخاص بالمستشفى، اتصلت بي كل شركة إنتاج على وجه الأرض طالبين مني أن أشارك في فيلمهم الوثائقي كوفيد، ولكن دائما كمساهم، وليس كمتعاون أبدا”. وبدلا من ذلك، التجأ إلى صندوق الخدمات الصحية الوطنية التابع للمستشفى ليسأل عما إذا كان بإمكانه القيام ببعض التصوير، بعد انتهاء نوبته، وهو الآن يصنع فيلما خاصًا به، “ليس عن المرضى ولكن عن [فريقه] الذي عمل لصالح هيئة الخدمات الصحية الوطنية”.
بنفس الروح، بدأ أيضا في كتابة مذكراته، كما تعاقد مع بان ماكميلان. ويقول في هذا الشأن: “أريد من الناس الذين قرأوها ألا يبكوا بل أن يقوموا بحملات”. كان ذلك جزء من الدافع الذي جعله يسجل تفاصيل تجربته في الهجرة، حتى عندما اقترب من الغرق. هل ساعدته غريزة راوي القصة تلك في إبقائه على بعد خطوة واحدة من الجنون؟
أضاف العقاد: “يمكنني تشغيل كاميرا، ويمكنني التحدث باللغة الإنجليزية، لذا كان لدي امتيازات على معظم الناس. ولكن حتى عندما كان قاربنا يطفوا على الماء وعلى وشك الغرق، قامت الكاميرا بحمايتي بطريقة ما”. كونه مراقبا أعطاه شيئا للتفكير فيه، وأخرجه من الواقع قليلا. ربما نتيجة لذلك، يبدو أنه يدرك نفسه بشكل ملحوظ. إلى أي درجة يعتقد أنه تغير بسبب التجارب التي مر بها على الطريق؟
بالإضافة إلى ذلك، صرح العاقد: “إنني أرى العالم بطريقة أكثر تشاؤما في بعض النواحي، لكنني ممتن أيضًا لجوانب مما حدث. كنت هذا الطفل في دمشق مع حياة جميلة، لكني لم أكن لطيفًا دائمًا. كنت عنصريًا في بعض الأحيان، وبعض الشيء طبقيا. لذا فقد كان كل ذلك بمثابة درس لي. لقد عشت على طرود الطعام في كاليه، لذلك أعرف كيف يبدو ذلك. نمت في حديقة لمدة 10 أيام دون خيمة أو حقيبة نوم، حيث تعرضت لهجوم من النوارس. أنا حقا أكره طيور النورس”. بعد 50 محاولة فاشلة لركوب شاحنة لوري لعبور القناة، تمكن في النهاية من ركوب طائرة إلى هيثرو بجواز سفر مزيف، وطلب اللجوء.
إذا شعر العقاد بالندم، فإنه إلى حد كبير حول المخاوف التي تسبب بها لوالدته. بينما كان يسافر عبر أوروبا، كانت هناك فجوات طويلة في الاتصال، خاصة بعد أن فقد جميع ممتلكاته في تقاطع البحر. وفي هذا الشأن، يقول العقاد: “أعتذر دائمًا لأمي على ما عرضتها له”. عندما حصل على الوظيفة في ويبس كروس أرسل لها صورته وهو يرتدي معدات الحماية الشخصية الكاملة، موضحا أنه بدأ العمل في قسم كوفيد-19. وكتبت ردا على ذلك “بالطبع”.
في الحقيقة، والديه فخوران بحملته الانتخابية، لكنهما لا يستطيعان الحصول على تأشيرة لزيارته. ويقول إن أكثر ما واجهه في المستشفى هو “مراقبة الناس وهم يودعون أحبائهم على سكايب – لا يجب أن يموت أحد بمفرده”.
تساءلت، بالنظر إلى الوراء، لما كان مصمما بعناد على المجيء إلى هنا وليس إلى أي مكان آخر في أوروبا؟ فأجابني وهو يضحك: “لقد درست الأدب الإنجليزي وفكرت في لندن كمركز للديمقراطية وحقوق الإنسان. بعد أن عشت في بلد استبدادي طوال عقدين من حياتي، أردت أن أعيش في مكان يمكنني أن أكون فيه حرا”. لقد شاهد فيلم “قلب شجاع” 10 مرات في سوريا. وبقيت صرخة ويليام والاس “الحرية!” محفورة في ذهنه.
قد اعترف الآن بأنه ربما كان عليه أن يكون أكثر انتباها لما يريده، لدرجة أنه لم يكن متأكدا من أنه يريد البقاء هنا بعد العام المقبل. وقال: “بالنسبة لشخص من سوريا، فإن الاستبداد الزاحف أصبح واضحًا هنا الآن. فالعقود من نصيب المقربين من الحكومة؛ السياسيون يخرقون القواعد ولا يعاقبون؛ إنها الديمقراطية الوهمية حيث يكذب الناس ويصوتون للكذابين”.
عندما اتخذ موقفه من هيئة الخدمات الصحية الوطنية، كان يعلم بأن تأشيرته تنتهي في آذار / مارس من العام المقبل وعليه بالتالي التقدم بطلب للحصول على إجازة غير محددة للبقاء: “كنت قلقا بشأن وضعي هناك. الكل حريصون على تغيير جميع قواعد الجنسية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أنا غريب هنا. أشاهد ما يحدث، وأتساءل: هل هناك وقت سيخرج فيه البريطانيون للاحتجاج؟”.
مع نويل فيلدنج، جيمي بينج، ستيفن دالدري، جود لو وزميله اللاجئ أحمد الرشيد، يسلمون رسالة إلى رئيس الوزراء حول معاملة الأطفال اللاجئين.
لم تعكس كل لقاءات العقاد بيئة معادية. في الشهرين الأولين من وصوله إلى هيتشن، في هيرتفوردشاير، كان ينام على أريكة متطوع التقى به في كاليه. ثم أخذته عائلة معها ليقطن بغرفة احتياطية في بريكستون. حصل على وظيفة التسويق في مؤسسة خيرية تسمى “اختر الحب” (التي جمع لها أيضًا 50 ألف جنيه إسترليني)، ومصور يقوم ببعض الأعمال لهم. وبعد سماعهم لقصته منحوه كاميرا، حتى يتمكن من مواصلة تحقيق طموحه. وفي هذا الصدد، يقول العقاد إن “مثل هذا الكرم هو ما تحتاجونه، ولهذا السبب اخترت القيام بما أُنجزه في الوقت الحالي”.
شيئا فشيئا، ومن خلال يد المساعدة التي مدت له وقوته العقلية، بدأ يشعر وكأن لندن بمثابة وطن له. كما لدى العقاد خريطة ذهنية للمناطق التي يفضلها؛ بركيستون، والمعبر المائي، وإيبينج فورست، وتلة بريمروز، وشبكة ضيقة من الأصدقاء. إذا كان العقاد يفكر في أن تُتوج مآسيه بنهاية رومانسية، إلا أن الإغلاق أحبط أمانيه. فصديقته هي أيضا زميلة مهاجرة من سوريا، فرح، وهي تدرس في بريطانيا منذ مدة وقد دُمر منزل عائلتها في دمشق بسبب القصف.
كان من المفترض أن يتزوجا الشهر الماضي في مكتب التسجيل في ليتونستون، وكانا يأملان في جمع العائلات معًا في الأردن للاحتفال. وكان العقاد من الذين اعتادوا على مفاجآت القدر وعدم اليقين. ويقول متحدثا عن الحياة التي خططا لها: “سيحدث ذلك. بالطبع سيتعين علينا الانتظار مجددا”.
المصدر: الغارديان