ظهرت استراتيجية جديدة للغرب في تعامله مع منطقة الشرق الأوسط وهي فكرة تعزيز سايكس بيكو بأخرى، فبعد ظهور فئة كسرت سايكس بيكو وعادتها، كان لابد من التحرك سريعًا وإيجاد حلول لحل هذه المعضلة، ولكن لم يكن من الممكن أن تظهر تلك الاستراتيجية دون ظواهر وأحداث شجعت الغرب لأن يسلك هذا الاتجاه، فبعد التدخل الأممي في ليبيا ونجاحه ودعم كل شعوب وقادة دول المنطقة، وبعد قيمة العائد من هذا التدخل من عقود نفطية ومكاسب، وبعد نجاح الحفاظ على مكاسب الغرب في المنطقة رغم كل الثورات، فتونس ما زالت كما هي بعد استئناس التيار الإسلامي هناك، ومصر قد عادت بعد انقلاب السيسي على حكم الإخوان المسلمين. كل هذه الأحداث دفعت صانع القرار الأمريكي إلى تدوين العديد من الملاحظات التي أدت إلى نشوء هذا الحل للحفاظ على المصالح الغربية وحمايتها، كما أن المراقب يجد أن نتائج هذه الملاحظات والتجارب والأحداث أدت إلى تطور ملحوظ في السياسة الغربية وتبرير لمواقف غربية عديدة ظهرت في تلك المرحلة.
ليبيا والنفط
ويجب علينا هنا أن نوضح بأن الغرب ليس بالعبقري ولكن الحال كما يقول المثل العامي المصري “بتيجي مع الأعمى ضباش”، فالغرب حين تدخل لم يكن غرضه بسط نفوذ له في المنطقة، فالنفوذ موجود بالفعل والقواعد الأمريكية تشهد وتوجهات وسياسات الحكومات والأنظمة التي لم تغيرها كل الحركات والثورات “مع تحفظنا على هذا المصطلح”، إنما كان الهدف الأساسي لهذا التدخل هو تكرار تجربة عقود النفط العراقية في ليبيا وقد حدث الفعل، ولكن نتج بالإضافة لهذه النتيجة فوائد أخرى لم يكن يتوقعها الغرب، وهو أنه تم كسر النزعة العنترية العربية ضد أي تدخل غربي. نعم استغل الغرب الدول العربية الخليجية مثل الإمارات وقطر كغطاء لهذا الدعم وحتى لا يظن أحد أنها هي فقط من في الصورة، ولكنها في الحقيقة كانت هي الصورة بإطاراتها، وتم تكرار استخدام “حلفاء” الغرب الأوفياء في بداية الثورة السورية وفي العديد من الأحداث التي جرت في المنطقة، فالغرب يفضل الاعتماد على جنوده الثقات في معاركه القذرة.
دولة الإسلام في العراق والشام
ومن هنا تم تكرار هذه الاستراتيجية – الاعتماد على الحلفاء – أيضًا في استراتيجية أوباما ضد تنظيم الدولة، وسيتم تكرارها كلما استدعت الضرورة كي يحقق الغرب أهدافه دون تضحية بأي فرد منه، فلما تم كسر هذه النزعة تأكد الغرب أن الأمور ستصبح أسهل، ولكن للأسف لم يحدث ذلك في حالة الدولة في مثال مباشر لمقولة “تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”؛ فظهرت الدولة الإسلامية متمردة على حدود سايكس بيكو وكسرتها بشكل فيزيائي ولأول مرة على أرض الواقع، حتى تنظيم القاعدة لم يستطع فعل هذا، فلقد نجحت في تحقيق عالمية الجهاد عبر فروع لها في مناطق مختلفة من مناطق الصراع والاضطهاد للمسلمين، ولكنها لم تكسر أبدًا حدود سايكس بيكو وإن رفضتها وتصدت لها.
التصدي للدولة
حاول الغرب في بداية الأمر التصدي لهذا الخرق الخطير عن طريق ثلاثة محاور: المحور الأول كان محاولة الاختراق الاستخباراتي، وقد نجح ذلك مع معظم بل قل جميع فصائل المعارضة حتى التنظيمات الجهادية الأخرى، ونجح بنسبة صغيرة في الدولة ولكن لم يؤثر بشكل مباشر، نعم أدى إلى توتر الأوضاع بين الفصائل الجهادية ولكنه لم يكن كافٍ لإيقاف الدولة أو القضاء عليها. والمحور التاني كان محور الاعتماد على أبناء الجيش الأمريكي، الجيش العراقي والبشمركة للحسم العسكري … الجيش العراقي الذي فشل فشلاً ذريعًا أمام الدولة، وبذلات الجنود العراقية الملقاة على الأرض وهروبهم من المناطق الحدودية خير دليل، حتى البشمركة فشلت أمام الدولة ولولا الدعم الغربي لوصلت الدولة لأربيل. وكان المحور الثالث هو محور خنق الدولة اقتصاديًا عن طريق تجفيف المنابع. اعتقد الغرب أن الدولة كأي فرع من فروع القاعدة سيكون تمويله من القاعدة الأم واطمأن لذلك، ولكن ما لم يكن في حسبانه أن الدولة ليست تابعة للقاعدة وأنها لن تعتمد على أي أحد لمساعدتها؛ فقامت الدولة بفرض الجزية وبيع النفط من الحقول التي سيطرت عليها، والمعدات العسكرية التي غنمتها الدولة من العراقيين ومن السوريين جلعتهم في غنى أن يصرفوا أموالهم على التسليح، وبالتالي توفير الأموال لزيادة الحشود والمقاتلين ومحاولة كسب الجماهير أيضًا بالعطاءات.
الدولة والعشائر
لعبت الدولة مع العشائر السنية ضد حكومة المالكي؛ العشائر التي ما لبثت أن خافت من ضياع معركة السياسة فرجعت لكنف الغرب والدولة العراقية، وأكدت على الفرق بينها وبين الدولة وأنهم مستعدون لمحاربتهم إذا تم تغيير حكومة المالكي ومحاسبته، وكانت الدولة تتوقع ذلك فتجربتها مع الصحوات لم تزل في ذاكرتها، وبالتالي لم تعتمد بشكل رئيسي أبدًا على العشائر إلا في الدعم الشعبي السني في المناطق المفتوحة، فخرجت العشائر خاسرة، فقد غُيرت حكومة المالكي بحكومة العبادي التي يدعمها الجميع مع أنها ما زالت طائفية بامتياز، ولم يحاسب المالكي على سياساته الطائفية وما فعله من مجازر وقمع للحشود السنية.
ما قبل الحدود الجديدة
كل هذه المحاور لم تفلح وأدت لهذا الموقف السخيف الذي نرى الغرب فيه حاليًا؛ فبين استنجادهم بالدول الأخرى لمساعدتهم في حلفهم المزعوم، أراه أنا والله أعلم ما هو إلا مجرد موافقة ضمنية من كل الاطراف على سايكس بيكو جديدة. سايكس بيكو سيتم تجربتها أولاً في ليبيا، نعم تلك الأرض التي تمثل للغرب ترينيتي جديدة التي ظلت وماتزال أرض تجارب جيدة ومثمرة، فبعد نجاح انقلاب السيسي العسكري في مصر ومحاولة اللواء المتقاعد خليفة حفتر تكرار التجربة المصرية وكأنه يمشي على خطى سلفه القذافي، محاولات حفتر المستميتة ومساعدات السيسي والإمارات له بسبب كرههما للإخوان المسلمين كجماعة إصلاحية ذات طابع إسلامي تطمح للإصلاح عن طريق الوصول لسدة الحكم؛ مما يشكل خطرًا على مصالح القوات المسلحة المصرية والعائلات الملكية الخليجية جمعاء، فالإمارات هنا تعتبر رسول وممثل لمجلس التعاون الخليجي ويؤكد هذا الرأي تصرف المجلس تجاه قطر التي يقال إنها رفضت أن تسير في هذا الاتجاه الضروري للخليجيين وهو قتال الإخوان أينما ثقفوا، كل هذه التصرفات من انقلابات ومساعدات مالية ولوجستية واستخباراتية كانت تحت موافقة وضوء أخضر من الغرب.
شرارة الحدود
تتضح لك الرؤية الغربية والتي تكون أحيانًا قريبة جدًا من تلك الحقيقة التي على الأرض من كلام مبعوث الأمم المتحدة لليبيا حينما لخص الأمر في أن وجود مؤسستين تشريعيتين – المؤتمر الوطني السابق ومجلس النواب الحالي – ووجود قوتين مسحلتين – فجر ليبيا وعملية الكرامة – لا يبشر بالخير ولا يوحي بأن الأمور ستستقر، فبغض النظر عن الانحياز الذي ظهر بشكل جلي من زيارة المبعوث لمجلس النواب دون زيارة، إلا أن هذه التصريحات تؤكد لك أن الوضع لن يستقيم إلا بترسيم للحدود جديد.
كيف تكون؟؟
سيناريو متخيل لسير الأحداث: “بعد هذا التصريح وبعد استنجاد مجلس النواب الليبي الجديد بقوات دولية، ستدخل قوات دولية تحاول وقف إطلاق النار بالقضاء على أحد الأطراف وربما إطلاق صفة الإرهاب عليه أيضًا، ثم يتم محاولة الحل سياسيًا بطريقة حل الدولتين ولو ستجتمع تحت مسمى الحكم الذاتي.
ولمن يؤيد فكرة تكرار النموذج المصري وتحالف دعم الشرعية وإلخ إلخ، فإن الظروف الليبية والأرض لا تسمح بمثل هذا. المجتمع القبلي والسلاح المتوفر لكلا الطرفين لا يشير إلا إلى حل سياسي في ضوء تساوي القوى، فإن قلنا تجمع القوات الدولية وعملية الكرامة بقيادة حفتر في طرف، فستجتمع قوات فجر ليبيا والقبائل الرافضة للتدخل الدولي في جانب، وسيكون صراعًا صفريًا لن يحل إلا بتدخل سياسي. بعد نجاح عملية التقسيم الجديدة في ليبيا، سيتم استخدامها إن نجحت في كل من سوريا والعراق لحل مشكلة الدولة والقضاء عليها. فالاستراتيجية المتبعة من قبل أوباما وحلفائه لن تفلح، لأنها حتى الآن تعتمد على القصف الجوي ومناوشات الجيش العراقي والبشمركة ودعمها مبدئيًا، ولن يجدي هذا بالطبع، فلا بديل عن الحسم العسكري الأرضي. وسيتضح هذا وسترضى به الإدارة الأمريكية ومن ثم باقي الغرب، وسيتم تقسيم سوريا إلى عدة مناطق تعتمد على الأساس السياسي والعرقي ولكن بشكل سياسي أكثر، فرغم ما حدث في سوريا فالخلاف ليس عرقيًا بشكل كبير أو مؤثر لدرجة تسمح برسم حدود جديدة على هذا الأساس، أما في العراق فستكون عرقية وستتكرر التجربة الكردية، الأكراد الذين كانوا يفكرون بالانفصال في بداية المناوشات وحصلوا على أراضٍ كثيرة قبل دخولهم كطرف في القتال، وأشك في أمر إعادتهم لتلك الأراضي مجددًا للحكومة العراقية.
ولك أن تتخيل يا سيدي أن حدودًا جديدة ستبنى .. ومع كل حدود ستبنى سيستيقظ أفراد من هذه الأمة تكسر حدودًا وتوقظ أفرادًا آخرين .. إلى أن تتجمع الأمة تحت راية مهدي منتظر لا نعلم متى سيأتي … ولكنه آتٍ.