ترجمة وتحرير نون بوست
أحدث تحول آيا صوفيا من متحف إلى مسجد جدلا واسعا في جميع أنحاء العالم. يعيد معظمها المعلومات نفسها التي تفضي بأن الكنيسة العظيمة بُنيت في القرن السادس في عهدة الإمبراطور البيزنطي جستنيان، وتحولت إلى مسجد عندما استولى محمد الفاتح على القسطنطينية سنة 1453، وأن مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، أعاد تحويله إلى متحف في سنة 1934.
يعد كل هذا واقعا، ولكن تنقصه النكهة والسياق التاريخي لهذا المبنى البالغ الأهمية. يتألم الجانب الغربي، كما لو أن آيا صوفيا هي جزء من التراث الثقافي المسيحي الأوروبي بطريقة أو بأخرى، وهو الآن في طيات الإسلام المظلمة مع الأوهام العثمانية الجديدة التي يتبناها الرئيس التركي.
مما لا شك فيه أن الرئيس أردوغان لديه بالفعل أجندته الخاصة لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وتوقيته سياسي بشكل واضح ويزيد من شعبيته لدى أنصاره الإسلاميين الأساسيين في وقت تضرب فيه جائحة فيروس كورونا الاقتصاد التركي المتدهور ضربة شديدة. وأردوغان لا يعتذر عن أفعاله. في الواقع، يظهر استطلاع أوبتيمار أن 60 بالمائة من الأتراك يؤيدون هذه الخطوة.
الشيء المهم الذي ينبغي فهمه هو أن آيا صوفيا، مثل العديد من المباني الدينية، تحمل خلفية سياسية خاصة بها. كما هو الحال دائما، تعكس الهندسة السياسة، وتوضح ما يحدث في المجتمع. والأحداث الحالية هي الأحدث في سلسلة طويلة من التقلبات والمنعطفات.
متنوعة الأعراق
شُيّدت الكنيسة الأولى سنة 360، ولكن لا يوجد دليل على وجود فسيفساء مسيحية على الجدران من النوع الذي عُثر عليه من القرن الخامس والسادس وما بعده. وبدلاً من ذلك، تم تغطية الجدران بزخارف رخامية وبلاستر وزخارف جصية مطلية بالذهب في أنماط زخرفية.
عندما انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية وروما نفسها في سنة 476، أصبحت القسطنطينية أكبر وأغنى مدينة في أوروبا، وكانت التأثيرات عليها واسعة ومتنوعة، بما في ذلك الثقافة اللاتينية الرومانية والأقباط في مصر والتراقيون والمقدونيون والإليريون والبيثينيون والكاريسيون والفريجيون والأرمن والليديون والغلاطيون والبهلغونيون والليكيون والسوريون والكيليسيون والمسيسيون والكابادوسيون والفرس، وبعد ذلك العرب المسلمون.
يطلق العديد من الأوروبيين على الإمبراطورية البيزنطية اسم “اليونان”، بينما كانت على أرض الواقع متنوعة عرقيا للغاية. شكل اليونانيون جزء صغيرا نسبيا من هذه الإمبراطورية متعددة الأعراق، ولم يكن معظم الأباطرة البيزنطيين من أصل يوناني.
اضطر جستنيان إلى بناء آيا صوفيا الحالية بعد أن تضررت بشكل لا يمكن إصلاحه من قبل الحشود الغاضبة التي احتجت على الضرائب المرتفعة التي فرضها. وفقًا لمؤرخ الفن جون لودن، كان جستنيان “شخصًا ذا رؤية وطاقة استثنائية، وكان متدينًا بشكل مكثف تمامًا وعديم الرحمة على حد سواء. يقابل طموحاته العسكرية برنامج المباني الضخمة خاصته”.
إعادة بناء آيا صوفيا
لاستعادة السيطرة على المبنى في أسرع وقت ممكن، كلف جستنيان اثنين من المهندسين المعماريين المشهورين في سنة 532، واللذان كان كلاهما من غرب الأناضول، وهي منطقة جغرافية تقع في الجزء الجنوبي الغربي من آسيا وتضم معظم ما هو حاليًا تركيا، وذلك بهدف إكمال المشروع بواسطة قوة عمل ضخمة على مدى خمس سنوات مكثفة.
تجاهل كل من قسطنطين وجستنيان العديد من الاقتباسات الأسلوبية والتعليمات المفصلة من الإمبراطور وخلقا إبداعاتهما الفريدة والخاصة بهما، والمعترف بها عالميا كنقطة بارزة في العمارة البيزنطية والتي أعجب بها الجميع حول العالم لتحقيقها الإنجاز المذهل للقبة المركزية.
هناك صورة مختلفة تماما تنقلها المخطوطة اللاتينية لأوروبا الغربية الموجودة الآن في مكتبة الفاتيكان، حيث يظهر جستنيان كبير الحجم، أكبر بكثير من آيا صوفيا نفسها، وهو يوجه بنّاء صغيرا يبدو متوترا إلى حد ما وهو يحاول الحفاظ على توازنه على سلم.
لم تُستلهم آيا صوفيا من مبنى البانثيون لهادريان أبدًا، ولكن من التقاليد الشرقية الأقدم. كانت كنيسة مار سمعان في سوريا غرب حلب، والتي اكتملت في سنة 490 أكبر وأهم مؤسسة دينية في العالم لمدة 50 سنة قبل بناء آيا صوفيا. كما مثلت الكنيسة مصدر إلهام موقع التراث العالمي لليونسكو، كنيسة رافينا، والتي مثلت لفترة وجيزة عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية، حيث كان جميع الأساقفة حتى سنة 425 من أصل سوري وكان قديسهم أبوليناريس من مواليد أنطاكية. يمكن لكنيسة مار سمعان التي تشتهر في جميع أنحاء أوروبا كموقع للحج، والتي تشبه سانتياغو دي كومبوستيلا في زمانها، أن تستوعب 10 آلاف مصلي، أي أكثر مما تسعه كاتدرائية نوتردام دو باري أو دير كلوني.
معبد السماء
كانت آيا صوفيا أكبر كاتدرائية في العالم لأكثر من ألف سنة، وكان لها تأثير كبير وإلهام على العمارة الدينية المستقبلية، سواء المسيحية أو الإسلامية. سنة 558، تسببت سلسلة من الزلازل في سقوطها، بعد عشرين سنة فقط من اكتمالها، وفي ذلك الوقت كان جستنيان يبلغ من العمر 76 سنة وكان المعماريان قد توفيا آنذاك.
فتح القسطنطينية من قبل الصليبيين سنة 1204.
انهارت أجزاء من هذه القبة الثانية التي انتهى تشييدها عام 562، مرة أخرى عاميْ 989 و1346. لكنها رُممت دون إجراء تغيير على المواد المكونة لها. عد هذا إنجازا لافتا، وقد أشاد به المؤرخون العثمانيون في وقت لاحق. احترمت الإصلاحات التقاليد البيزنطية النموذجية، حاول من خلالها المهندس المعماري مماهاة أوصاف الملاك الحارس الذي يحمي الكنيسة.
سنة 1204، خلال الحملة الصليبية الرابعة، شهدت آيا صوفيا أكبر ضرر لحق بها على مر تاريخها الطويل، حيث تعرضت للنهب، على غرار القسطنطينية بأكملها، وهو ما خلف انقساما كبيرا بين الكنائس اللاتينية واليونانية والروم الكاثوليك ضد المسيحيين الأرثوذكس. وتواصل القتل والاغتصاب والنهب والدمار طيلة ثلاثة أيام.
الحملة الصليبية الرابعة
أججت هزيمة بيزنطة، التي تشهد حينها تدهورا، وضع الانحطاط السياسي في الإمبراطورية، مما جعلها فريسة سهلة للأتراك. وعموما، أسفرت الحملة الصليبية الرابعة والحركة الصليبية، في نهاية المطاف، عن انتصار راية الإسلام، وهي نتيجة خالفت جميع الانتظارات.
من جهته، وجه البابا إنوسنت الثالث، الذي أطلق بشكل غير مقصود الحملة المشؤومة، توبيخا فقال:
“كيف ستعيد كنيسة الإغريق وحدة الكنائس والتفاني في نشر الرسالة، بغض النظر عن شتى ألوان المحن والاضطهاد التي عانتها، وهي ترى اللاتينيين مثالا قائما على الهلاك وأعمال الظلام، حتى أنها الآن، ولأسباب وجيهة، تكن كرها للاتينيين أكثر من كرهها للكلاب؟
أما أولئك الذين كان من المفترض أن يخدموا غايات الدين المسيحي، وليس مصالحهم الخاصة، فصنعوا سيوفهم، التي كان من المفترض أن يرفعوها في وجه الوثنيين، ولطخوها بالدم المسيحي، فلم يحترموا لا الدين ولا العمر ولا الجنس. لقد ارتكبوا سفاح القربى والزنا والفحشاء أمام عيون الملأ … وانتهكوا الأماكن المقدسة ودمروا الصلبان والآثار”.
غير أن الغضب الذي أظهره البابا لم يثنه عن قبول الجواهر المنهوبة والذهب والمال وغيرها من الأشياء الثمينة، ليبدو على الكنيسة الكثير من الثراء والبذخ. وقد استغل جزء كبير من هذه الثروة بدوره في مشاريع بناء ضخمة في جميع أنحاء أوروبا معظمها لتزويق كاتدرائية القديس مارك في البندقية وبعضها لتمويل الكاتدرائيات القوطية في أوروبا.
الفسيفساء البيزنطية في القرن السادس في حنية كاتدرائية سانت أبوليناري في كلاس.
أعرب البابا يوحنا بولس الثاني عن ندمه بعد مرور 800 سنة على أحداث الحملة الصليبية الرابعة. وقال في رسالته التي توجه بها إلى رئيس أساقفة أثينا سنة 2001: “من المؤسف أن المعتدين الذين انطلقوا لتأمين حرية وصول المسيحيين إلى الأرض المقدسة، انقلبوا ضد إخوانهم في الدين. يأسف الكاثوليك لحقيقة أنهم مسيحيون لاتينيون”.
رمزية مشتركة
سنة 1453، عندما استولى محمد الفاتح على القسطنطينية، أطلق العنان لجيوشه لنهب البلاد طيلة ثلاثة أيام، وهي عادة دأب عليها أي جيش منتصر في تلك الفترة (ليس فقط العثمانيين)، ولكن بعد ذلك دعاهم للتوقف. وسمح محمد الفاتح لمعظم الكنائس بمواصلة نشاطها ولكنه جعل آيا صوفيا مسجدا. أقام مئذنة وقام السلاطين اللاحقون بتشييد ثلاثة أخرى، وهو ما يفسر وجود واحدة الآن في كل ركن، لكن لم تطرأ تغيرات كبيرة على الداخل ومازالت إلى حد كبير كما كانت في أي وقت مضى.
يضفي كل من المسيحية والإسلام الكثير من الرمزية المشتركة على دلالة القبة على غرار التمثيل المادي للسماء والآخرة، لكن لطالما اختلفت آيا صوفيا عن المباني المقدسة في روما، مثل البانثيون وكاتدرائية القديس بطرس. كذلك، عد تصميمها متجذرًا في التقاليد الشرقية، حيث تميزت الأضرحة الفارسية بقبة دائرية ترتكز على أسطوانة مربعة. نتج عن الانتقال بين الدائرة والمربع شكل عرف باسم المثمن، وهو يمثل، في المسيحية والإسلام، القيامة والرحلة بين الأرض والسماء، وهو ما يفسر الشكل المثمن الذي تتخذه العديد من المقابر في كلا الديانتين.
كنيسة القديس سمعان في إدلب سنة 2010.
بالإضافة إلى المفاهيم المشتركة، تمتع المسيحيون والمسلمون في شرق البحر المتوسط بتراث مشترك ظهر في مواد البناء والتقنيات المستعملة والأدوات التي تنتقل من العوالم اليونانية والرومانية والفارسية وحتى الإتروسكانية القديمة.
كذلك، فهم يتشاركون في العمال والبنائين والحرفيين الذين عملوا حسب الطلب، نزولا عند رغبة الحريف الذي يكون سخيا في خلاص أجرهم، بغض النظر عن دينه. تكرر استخدام الفسيفساء البيزنطية، على سبيل المثال، لتزويق المساجد الإسلامية، على غرار قبة الصخرة، والمسجد الأموي في دمشق، وكاتدرائية سيدة الانتقال.
في سنة 1573، كُلف المهندس المعماري العثماني العظيم سنان بترميم آيا صوفيا، التي بدأت تظهر عليها بوادر الانهيار مرة أخرى. فتمت إضافة دعامات إضافية إلى الخارج لضمان مقاومتها للزلازل. عموما، أضيفت 24 دعامة على مر القرون الماضية لضمان تماسكها مما جعل مظهرها الخارجي مختلفًا تمامًا عما كان سيبدو عليه في الأصل.
اليوم، في عالم الضغوط الاقتصادية، يجب الإشارة إلى الخسارة التي تعاني منها الخزينة التركية بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد على غرار المسجد الأزرق المجاور، وجميع المساجد في تركيا (على عكس العديد من الكاتدرائيات والكنائس في أوروبا)، فالدخول الآن سيكون مجانيًا للجميع.
كانت آيا صوفيا متحفا ويستوجب الدخول لها ثمنا باهظا، يناهز 15 دولارًا للشخص الواحد. ربما يجب أن نحتفل بحقيقة أن المسلمين وغير المسلمين على حد سواء يمكنهم اليوم القيام بزيارات متكررة لملاحظة الهندسة المعمارية التي تمتزج فيها المسيحية بالإسلام المعروضة مجانًا في هذا المبنى الفريد، القائم على التلاقح بين الشرق والغرب.
المصدر: ميدل إيست آي