يتبنى نظام ما بعد الثالث من يوليو/تموز 2013، في مصر، خطةً عسكرية موسعة لإعادة تحديث الجيش عبر إحلال المنظومات التسليحية العتيقة من جهة، وإدخال منظومات جديدة لم يسبق تشغيلها من جهة أخرى.
ظهرت هذه الخطة إلى النور مؤخرًا، بسبب تباطؤ نظام مبارك في إحلال المنظومات القديمة خلال الثلاثة عقود السابقة، بالإضافة إلى استحداث النظام السياسي الناتج عن أحداث يوليو 2013 خصومًا إقليميين ومحليين جدد، وظهور جبهة عدائية جنوبًا، مع الأخذ في الاعتبار استمرار العدائيات التقليدية القديمة على الاتجاه الشمالي الشرقي، ومقاربة النظام المصري الجديد معظم مشاكل المنطقة مقاربةً أمنية.
وبطبيعة الحال، أدى هذا التحول النوعي الجديد إلى ظهور “مشكلات” لم تكن مطروحة من قبل، بسبب التخلي أو تقليل الاعتماد على الحلفاء السابقين لصالح الحلفاء الجدد، أو للسعي إلى الحصول على منظومات تسليحية مهمة، أو حتى بسبب ما يحدث في الغرف المغلقة من عمولات مالية واعتبارات سياسية قد تشوب هذه الصفقات.
وقد انفجر عددٌ من هذه الأزمات المتعلقة بسبب صفقات مصر العسكرية، بشكل متزامن، شرقًا وغربًا، على نحو ملحوظ، في الوقت الحاليّ.. فما القصة هذه المرة؟
سوخوي 35
طالما كان اقتران هذه المقاتلة بمصر مثيرًا للجدل، إذ تمتلك مصر عددًا ضخمًا من المقاتلات الأمريكية والأوروبية والروسية بالفعل مثل: إف 16 والرافال والميراج والميج، وقد يعد إضافة نوع جديد من المقاتلات إلى هذه التشكيلة النادرة عبئًا تشغيليًا وفنيًا ولوجيستيًا على سلاح الجو المصري.
ومن ناحية فنية وإستراتيجية، لم يكن اقتناء مقاتلة نوعية تقوم بمهام “السيادة الجوية”، بسبب قدرتها الفائقة على المناورة وترسانتها التسليحية الهائلة ومدى طيرانها الضخم، أمرًا مطروحًا بالنسبة لمصر التي التزمت على مدى عقود بالفجوة الجوية المضمونة بواسطة الولايات الولايات المتحدة بينها وبين جارتها “إسرائيل”، خاصة أن “سو – 35″، وهي مقاتلة من مقاتلات الجيل الرابع والنصف، تعد البديل الشرقي الجاهز لمقاتلات “إف – 35” الشبحية التي تمد بها واشنطن تل أبيب منذ مدة.
وقد نفت موسكو، على لسان رئيس شركة “روسبورن إكسبورت” المسؤولة عن صادرات السلاح الروسي إلى الخارج، تقارير عسكرية عن سعي القاهرة للحصول على 12 مقاتلة، من طراز “سو – 35″، على هامش معرض LIMA الدفاعي في ماليزيا، عام 2015.
وبعد سنوات، تغير هذا النفي إلى تأكيدٍ لتوقيع القاهرة وموسكو عقودًا عسكرية ضخمة، بقيمة ملياري دولار، تحصل بموجبها الأولى على سربين (20/24) مقاتلة، أي ضعف العدد المنفي، تشمل الصيانة والذخائر، على أن يتم توريدها في الفترة من 2021 إلى 2022.
التصريحات الأمريكية لا تتحدث عن الأثر السلبي لصفقة الطائرات الروسية على العلاقات بين القاهرة وواشنطن بشكل عام فحسب، وإنما تتحدث عن إخضاع القاهرة للائحة قانون “كاتسا”
الولايات المتحدة
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط هذه الصفقة المصرية الروسية منذ أبريل/نيسان 2019، عندما عرض مجلس الشيوخ الأمريكي وثيقةً مرسلة إلى وزير الخارجية مايك بومبيو، تتضمن مجموعة اعتراضات على السياسة المصرية، خلال زيارة السيسي إلى واشنطن، في الـ8 من هذا الشهر.
لم تقل الوثيقة آنذاك إن هناك مخاوف أمريكية من اضطراب التوازن الإستراتيجي المستقر بين مصر “وإسرائيل” جوًا منذ عقود، لكنها تحدثت عن خطوات مصرية للاتجاه نحو روسيا، من شأنها أن تؤثر على التحالف الإستراتيجي المستمر بين البلدين منذ اتفاقية السلام (كامب ديفيد) 1979، بالإضافة إلى ملفي: حملة الجنسية الأمريكية المعتقلون في مصر، ونوايا الرئيس المصري لزيادة مدده الرئاسية وتوسيع صلاحياته التنفيذية وهيمنة الجيش، بموجب التعديلات الدستورية التي أقرت لاحقًا.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، من العام الماضي، قال كلارك كوبر مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون السياسية والعسكرية، على هامش معرض دبي للطيران، إن مصر قد تتعرض لعقوبات تمنعها من الاستفادة بمبيعات دفاعية مستقبلية، إذا أقدمت على شراء مقاتلات “سو – 35″، وذلك في امتداد لتصريحات وزيره، مايك بومبيو، الذي قال في وقت سابق، إن القاهرة باتت على علم بنية واشنطن فرض عقوبات عليها حال استمرت في مساعي الحصول على الطائرات الروسية.
التصريحات الأمريكية لا تتحدث عن الأثر السلبي لصفقة الطائرات الروسية على العلاقات بين القاهرة وواشنطن بشكل عام فحسب، وإنما تتحدث عن إخضاع القاهرة للائحة قانون “كاتسا” (عقاب المتعاونين مع أعداء أمريكا)، الذي خرج من مجلس الشيوخ يوليو/تموز 2017، وصادق عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أغسطس/آب 2018، بغرض فرض عقوبات على الدول والكيانات والأفراد المتعاونة مع روسيا وكوريا الشمالية وإيران.
وقد عاد الحديث عن وجوب قيام واشنطن بالتحرك السياسي ضد القاهرة لردعها عن إكمال صفقة الطائرات الروسية أو عقابها عليها، حال إتمامها، بعد رفع 17 عضوًا من مجلس الشيوخ الأمريكي مذكرة لكل من مارك إسبر وزير الدفاع ومايك بومبيو وزير الخارجية، تطالبهما باستخدام صلاحياتهما القانونية ضد مصر، في رد فعل على إعلان موسكو اقتراب توريد أولى دفعات المقاتلات (5 طائرات)، نهاية يوليو/تموز الماضي.
من المتوقع أن يكتفي الرئيس الأمريكي بتوجيه وزيري الخارجية والخزانة لتطبيق الخمس عقوبات الأساسية المنصوصة في المادة 231 من قانون “كاتسا” دون اللجوء إلى تطوير العقوبات
مستقبل الصفقة
حتى الآن وعلى غير العادة، لم تصرح واشنطن أي تصريحات خشنة تجاه القاهرة، رغم اقتراب الأخيرة من استلام الدفعة الأولى من مقاتلات “سو – 35″، بعد أن نقلتها روسيا من المصنع التابع لمكتب “سوخوي” إلى إحدى المدن الواقعة في الشطر الأوروبي لإخضاعها للفحص الفني وتجارب الطيران.
نفس الأمر يتعلق بمصر أيضًا التي تقول إنها وقعت عقود الصفقة، في الفترة الواقعة بين إصدار قانون “كاتسا” في مجلس الشيوخ وتصديق الرئيس الأمريكي عليه، بما يعني أن القاهرة وموسكو نجحتا في التحايل على القانون الأمريكي، كما طلبت مصر من أمريكا قبل توقيع الصفقة الحصول على مقاتلات الجيل الخامس الشبحية “إف – 35″، فقوبل الطلب بالرفض كما كان متوقعًا، وقد صرح مصدر عسكري مسؤول من قبل أن القاهرة تنظر إلى الحصول على هذه الطائرات باعتباره شكلًا من أشكال السيادة.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الصديق الشخصي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فقد سبق واعترض على “كاتسا” معتبرًا إياه يقوض من التواصل مع بعض الدول الأوروبية، ويفيد أعداء الولايات المتحدة الثلاث، من حيث يريد أن يضرهم، كما سبق وتغاضى عن فرض عقوبات “كاتسا” على إندونيسيا، رغم تعاونها العسكري مع روسيا بعد سريان القانون.
وقد تبادلت البلدان، مصر والولايات المتحدة، الرسائل الإيجابية، سياسيًا وعسكريًا، رغم اقتراب تسليم المقاتلات الروسية، فأعلنت واشنطن، مايو/آيار 2019، الموافقة على تحديث كامل أسطول مروحيات “أباتشي” المصرية، البالغ عدده 43 مروحية، وترقيته إلى المعيار “جارديان”.
وفي الـ10 من يوليو/تموز من هذا العام، قال السفير الأمريكي إن بلاده تنوي، بالإضافة إلى تحديث أسطول المروحيات المصري، تطوير مقاتلات “إف 16″، وتزويد الجيش المصري بمستشعرات مراقبة وحماية للحدود، كما قالت مصادر أمريكية، في نهاية نفس الشهر، إن الرئيس ترامب ينوي دعم حملة مصر للضغط على إثيوبيا في ملف سد النهضة، عبر حجب حزمة من المساعدات التي تقدمها واشنطن لأديس أبابا.
فيما استجابت القاهرة لطلبات واشنطن في أحد الملفات الثلاث الشائكة، ملف المعتقلين من حملة الجنسية المزدوجة، فأفرجت، بشكل متتال، عن ريم محمد دسوقي، مايو/آيار الماضي، التي اعتقلت بعد كتابتها منشورات مناوئة للنظام المصري على مواقع التواصل الاجتماعي، ثم أفرجت بعد شهرين، عن محمد عماشة، طالب الطب الذي رفع “يافطة” تدعو للإفراج عن المعتقلين في ميدان التحرير، نظير تخليه عن الجنسية المصرية.
وفي ضوء هذه المعطيات، من المتوقع أن يكتفي الرئيس الأمريكي بتوجيه وزيري الخارجية والخزانة لتطبيق الخمس عقوبات الأساسية المنصوصة في المادة 231 من قانون “كاتسا”، دون اللجوء إلى تطوير العقوبات، كما يتيح القانون، استجابةً لضغوط الشيوخ الأمريكي، والتزامًا بالحد الأدنى من العقوبات الذي أشار إليه بومبيو ومساعده، مع أخذ المعطيات المتغيرة في الاعتبار، مثل حالة النظام المصري، استقرارًا أو اضطرابًا، وتطور الأوضاع في المنطقة، وطبيعة الدعاية التي ينوي ترامب تسويقها للناخب الأمريكي خلال سباق الانتخابات الرئاسية المنتظر انعقادها، نوفمبر/تشرين المقبل.
بينما تحاول واشنطن أن تلعب دور “المعرقل” في صفقة المقاتلات الروسية إلى مصر، فإن حكومة تل أبيب أدت دورًا مثيرًا في صفقة الغواصات الألمانية إلى مصر، هو دور “المؤيد”
الغواصات الألمانية
بالتزامن مع هذا التصعيد في ملف الطائرات الروسية، عاد ملف الفساد في صفقة الغواصات المصرية المستوردة من ألمانيا إلى الواجهة من جديد، لكن الطرف الثالث هذه المرة لم يكن أمريكا، بل كانت “إسرائيل” نفسها.
وبينما تحاول واشنطن أن تلعب دور “المعرقل” في صفقة المقاتلات الروسية إلى مصر، فإن حكومة تل أبيب أدت دورًا مثيرًا في صفقة الغواصات الألمانية إلى مصر، هو دور “المؤيد”، مما أثار الشكوك في “إسرائيل” تجاه احتمالية تورط بنيامين نتنياهو، الذي أعطى ضوءًا أخضر لبرلين كي تبيع القاهرة غواصات “تايب – 209″، في فساد وعمولات مالية، خاصة أن أقاربه في ألمانيا يملكون مصانع على علاقة بشركة “تيسن كروب” المصنعة للغواصات.
برر رئيس الوزراء الإسرائيلي، خلال إثارة القضية 3000 التي ضمت أقاربه ومست سمعته، العام الماضي، موافقته على بيع الغواصات الألمانية إلى مصر تبريرًا مفتوحًا أثار مزيدًا من الشكوك، وهو أن سبب الموافقة “سرٌ قومي على مستوى الدولة” من ناحية، وأن مصر كانت ستحصل على ما تريد من منتجين آخرين، لو لم تحصل على هذه الفئة من الغواصات من ألمانيا.
طيلة هذا الوقت، لم يرق هذا التفسير فيما يبدو إلى كثير من الضباط القدامى في الجيش الإسرائيلي الذين رأوا أنه، رغم كون الغواصات المصرية أقل تسليحًا وكفاءة من نظيرتها الإسرائيلية المصنعة في ألمانيا أيضًا “Type – 214” (دولفين)، فإن الطريقة التي أدار بها نتنياهو قرار الموافقة مثيرةٌ للشكوك، خاصة بعد أن انفرد بالقرار، دون مشاورة قادة الجيش والمخابرات، فقرروا رفع خطاب إلى المحكمة العليا، لمطالبة المدعي العام الحكومي بإعادة فتح ملف القضية، كما نظموا مسيرات احتجاجية من مقر سلاح البحرية إلى منزل نتنياهو.
ما يثير الدهشة أنه ليس ثمة مناقشات لهذه القضية على أي مستوى عام، إعلامي أو برلماني أو قضائي، في القاهرة، إذ تحاط هذه الملفات بسرية تامة، ويكتفي المتحدث العسكري، العميد محمد سمير، بنشر مراسم الاحتفال باستلام القطع الجديدة من صفقة الغواصات، التي تتألف من أربع قطع، استلمت مصر منها ثلاث قطع حتى الآن، دوريًا.
من جانبه، قلل نتنياهو، الذي يتظاهر ضده مئات الإسرائيليين يوميًا لأسباب سياسية واجتماعية منذ مدة، من أهمية هذه التحركات العسكرية، معتبرًا أن التحقيقات جرت وانتهت بالفعل، فيما ينتظر أن تبحث المحكمة العليا خطابات القادة السابقين وضباط الاحتياط، يوم الخميس القادم، كي تقرر ما إذا كانت المعطيات المقدمة تستوجب إعادة فتح القضية من عدمه.