ترجمة وتحرير: نون بوست
حلت الكارثة، التي لم تأت ضربة قاصمة بل جاءت قطرة، قطرة.
في البداية، أنكرت إثيوبيا ما كان يخشى منه مئة مليون مصري يعيشون على مصب النيل، أن تكون تعبئة خزان سد النهضة العظيم قد بدأت.
في الخامس عشر من تموز/ يوليو، أذاع التلفزيون الوطني الإثيوبي خبرا، ثم ما لبث بعد ساعات أن عاد واعتذر وتراجع عن الخبر. في البداية، ادعى سيليشي بيكيلي، وزير الري والطاقة الإثيوبي، أن الصور التي نشرتها وكالة رويترز كانت صورا لمياه نجمت عن “أمطار غزيرة”.
ولكن بعد أن أكد السودان أن عددا من محطات النيل تعطلت عن العمل بسبب الهبوط المفاجئ في مياه النهر، اضطرت إثيوبيا إلى البوح بالحقيقة. “تهانينا! كان ذلك نهر النيل، وقد تحول النهر إلى بحيرة. لن تنساب المياه من بعد في مجرى النهر. سوف تنال إثيوبيا كل التنمية التي تبتغيها منها. في الحقيقة، النيل نيلنا”.
ما لا يكاد يصدق أن هذا الإعلان عن النصر صدر عن وزير الخارجية نفسه، غيدو أندارغاتشيو، وقد تخلى عن كل ما يمت للدبلوماسية بصلة.
حلم يتحقق
بالنسبة لإثيوبيا، يعدّ السد تحقيقا لحلم يعود إلى عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي في ستينيات القرن الماضي. تحت شعار “للإثيوبيين بأيدي الإثيوبيين” وبتكلفة بلغت 4.6 مليار دولار (وتمويل ذاتي بالكامل)، لم يقصد بالمشروع فقط توفير الكهرباء لبلد يتعطش لها، بل يشكل السد حجر الزاوية في النهضة السياسية والاقتصادية للبلد. بالإضافة إلى ذلك، يُقصد منه التأكيد على أن إثيوبيا لم تعد مرتعا للقوى الاستعمارية تتلاعب بها كما كانت تفعل في الماضي.
تستضيف إثيوبيا المقرات الرئيسية لكل من الاتحاد الأفريقي والمفوضية الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة. ولديها جيش قوي صقلته المعارك. وهذا وضع معاكس تماما لما عليه الحال في مصر، التي تراجعت في عهد عبدالفتاح السيسي، وفقدت موقعها كقوة إقليمية يعتد بها.
إذا ما تمت تعبئة السد خلال ثلاثة أعوام كما يريد الإثيوبيون، فسوف ينخفض مستوى المياه في النيل إلى الحد الذي تنكشف بسببه كثير من أنابيب المضخات
تحت رئاسة السيسي، تضاعف دين مصر القومي ثلاثة أضعاف تقريبا منذ عام 2014 من 112 مليار دولار إلى ما يقرب من 321 مليار دولار. وطبقا لتقرير صادر عن الوكالة المركزية للتعبئة الشعبية والإحصاء، وهي مؤسسة رسمية في مصر، فقد وصلت نسبة الفقر إلى 32.5 بالمئة في عام 2019، بعد أن كانت 27.8 بالمئة في عام 2015، بينما وصلت نسبة الفقر المدقع إلى 6.2 بالمئة، بعد أن كانت 5.3 بالمئة في تلك الفترة الزمنية ذاتها.
يتزايد عدد السكان في مصر، الذي تجاوز مؤخرا حاجز مئة مليون، بمعدل مليون كل ستة شهور، وهي نسبة تتوقع الأمم المتحدة أن تؤدي إلى شح في المياه خلال خمسة أعوام من الآن، حتى من دون السد.
ثمانون بالمئة من المياه التي تصل مصر تأتي من إثيوبيا. وكانت الجمعية الجغرافية في أمريكا قد تنبأت في مايو/ أيار من عام 2017 أن البلد سيعاني من نقص بمعدل 25 بالمئة من حصته السنوية من المياه إذا ما تم ملء الخزان خلال خمسة إلى سبعة أعوام.
في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال مصدر مصري كبير شارك في المفاوضات: “إذا ما تمت تعبئة السد خلال ثلاثة أعوام كما يريد الإثيوبيون، فسوف ينخفض مستوى المياه في النيل إلى الحد الذي تنكشف بسببه كثير من أنابيب المضخات. وعندما يتدنى المستوى إلى هذا الحد، فسوف تنخفض الدلتا، وسوف تدخل مياه البحر، ما يعني أن تربة الدلتا ستصبح مالحة وغير صالحة لكثير من المحاصيل الزراعية.”
الانخفاض النهائي
نشرت وكالة رويترز في عام 2018 تقريرا، جاء فيه أن 17 بالمئة من الأراضي الزراعية في مصر سوف تتدمر إذا ما ملأت إثيوبيا الخزان في ست سنين، وسترتفع النسبة إلى 51 بالمئة إذا تم الملء في ثلاث سنين. ويتوقع الخبراء المصريون أن ينجم عن ذلك تدمير 75 بالمئة من مزارع السمك.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تشريد ما يصل إلى 30 مليون نسمة، أي ثلث عدد السكان. إذا ما كان ثمة شيء يمكن أن يطلق عليه عبارة أزمة قومية، فإنها اللحظة التي يبدأ عندها الانخفاض الطويل والنهائي لمستوى المياه في النيل. إلا أن السد لم يكن وليد اللحظة، أي أنه لم يكن بالأمر المفاجئ.
بدأت عمليات الإنشاء بشكل جدي في عام 2011. بعد ذلك مباشرة أصبح محمد مرسي رئيسا، وكان قلقا، ومحقا في ذلك.
وسعيا منه لمنح نفسه بعض السطوة على طاولة المفاوضات، قال مرسي إن “كل الخيارات” موجودة على الطاولة فيما يتعلق برد مصر على المشروع.
طالما كان النيل باستمرار قضية أمن قومي أولى بالنسبة لمصر في العصر الحديث.
وكانت مصر قد خاضت حربا مع إثيوبيا في عام 1874، في محاولة فاشلة للسيطرة على النيل الأزرق.
كشفت برقية للسفارة الأمريكية تعود إلى عام 2010، نشرتها فيما بعد ويكيليكس، عن أن المصريين فجروا أجهزة كانت في طريقها إلى إثيوبيا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.
في كلامه للأمريكيين، قال المصدر الذي كان يعدّ على درجة عالية من المصداقية وله تواصل مباشر مع حسني مبارك ومع مدير مخابراته عمر سليمان: “لن يكون هناك حرب. إذا ما وقعت أزمة، سوف نرسل طائرة تقصف السد، وتعود في نفس اليوم، بتلك البساطة، أو قد نرسل قواتنا الخاصة لإغلاق أو تخريب السد، لكننا لن نتوجه إلى الخيار العسكري الآن. هذا فقط تخطيط احتياطي. تذكروا العملية التي نفذتها مصر في منتصف أواخر السبعينيات، أظن تحديدا في عام 1976، عندما كانت إثيوبيا تحاول بناء سد ضخم. فجرنا المعدات عندما كانت في طريقها بحرا إلى إثيوبيا. تلك حالة جيدة للدراسة.”
إلا أن مرسي تعرض للتسخيف من قبل نواب المعارضة، وللتقويض من قبل الجيش؛ لأنه كان حازما في حديثه.
مؤامرة السيسي
قبل ثلاثة أيام من المشاركة في اجتماع أزمة مع مرسي بشأن السد، اتصل السيسي نفسه بأيمن نور، أحد السياسيين المشاركين في الوساطة مع بلدان أفريقية أخرى حول البناء المقترح.
كشف أيمن نور، العام الماضي، أن السيسي أخبره بأن مرسي أراد استطلاع خيار القيام بعمل عسكري، إلا أن الجيش لم يكن مستعدا لذلك، وأنه ينبغي أن يترك الملف بأسره للجيش وحده.
ثم تعرض اجتماع مرسي للتخريب. قيل لمساعدي مرسي إن كاميرا كانت تسجل وقائع الاجتماع لأغراض داخلية، بينما في الحقيقة كل ما ظنوا أنهم كانوا يناقشونه فيما بينهم في السر كان يبث على الهواء مباشرة. كان هدف السيسي واضحا، فقد كان يريد إحراج رئيسه قبل شهر واحد من الإطاحة به.
قال أيمن نور: “كان ذلك جزءا من مؤامرة لتوريط مصر في مشكلة كبيرة تتعلق بسد النهضة. كانت جزءا من محاولة لإثبات فشل النظام الحاكم في تلك المرحلة.”
كان لدى السيسي سبب آخر للحيلولة دون رد مصري قوي وحاسم على السد
كان يعرف أنه بعد شهر من ذلك، حينما ينفذ انقلابه العسكري، سوف يقوم الاتحاد الأفريقي بتجميد عضوية مصر فيه. لم يدم تجميد عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي -الذي كان الرد الدولي البارز الوحيد على الانقلاب- سوى سنة واحدة، حيث لعبت مواقف السيسي الحمائمية تجاه إثيوبيا دورها في إنهاء عزلة مصر.
عندما استحوذ السيسي والجيش على الملف قالوا للإثيوبيين إن مصر باتت الآن في أيد عقلانية ومنطقية يمكنهم أن يتفاوضوا معها، وقالوا لهم إن أيام الإسلاميين الجانحين قد ولت.
إلا أن المفاوضات لم تحقق شيئا.
الضوء الأخضر
في عام 2015، وقّع زعماء كل من مصر والسودان وإثيوبيا اتفاقية “مبدئية” ثلاثية.
خلال احتفال التوقيع، قال رئيس وزراء إثيوبيا هيلامريام ديزاليغن بكل جدية: “أود التأكيد على أن بناء سد النهضة لن يسبب أي ضرر لدولنا الثلاث، خاصة للشعب المصري.” فأجاب السيسي: “هذه اتفاقية إطار، وسوف يتم استكمالها. لقد اخترنا التعاون، وأين يثق كل منا بالآخر من أجل التنمية.”
وتم تكرار ذلك، عندما طلب السيسي في عام 2018 من رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آبي أحمد أن يعيد من ورائه باللغة العربية “والله، والله لن أضر مياه مصر”. وقف السيسي يضحك ويصفق، بينما كان آبي يتلفظ بكلمات لم يكن يفهمها، فهو لا يتكلم العربية.
كانت النتيجة التراكمية للتصريحات التي لم تكن تنوي إنفاذها حصول إثيوبيا على الضوء الأخضر للمضي قدما في تنفيذ المشروع. خمس سنوات أخرى ضاعت، وما لبث السد بعدها أن أصبح واقعا على الأرض.
خيارات قليلة
بينما سعى السيسي إلى تحويل الأنظار بعيدا عن الحدث -مثل تهديده بأن يرسل القوات إلى ليبيا لمواجهة حكومة طرابلس المدعومة من قبل تركيا- شكل ملء الخزان ضربة هائلة لزعم الجيش المصري بأنهم حماة الدولة. يتعرض الجيش للتجاهل والتهميش، وقد كشف عجزه الجار الأفريقي الأقوى والأكثر ثقة بنفسه.
التوصل إلى تسوية عادلة بين إثيوبيا والسودان ومصر بشأن السد ليس الأولوية الأولى في السياسة الخارجية الأمريكية
ليس بوسع السيسي لوم خصومه في تركيا، حيث إن تركيا هي ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا. فحليف مصر، الإمارات العربية المتحدة، تمارس اللعبة ذاتها في إثيوبيا، حيث تنفق ما يقرب من 3 مليارات دولار على هيئة مساعدات واستثمارات. بالنسبة للإمارات وتركيا، الصديق والخصم في آن واحد، غدت مصر ثانوية بالنسبة لمصالحهم القومية.
لم يبق للسيسي من ورقة يلعبها مع إثيوبيا سوى دونالد ترامب. نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية تقريرا، جاء فيه أن عددا من المسؤولين من إدارة ترامب علقوا بأن الإدارة يمكن أن تقطع المساعدات عن إثيوبيا إذا ما توقفت المفاوضات تارة أخرى. إلا أن عملة ترامب، إذ يخوض حملة ترشحه لانتخابات نوفمبر، فقدت الكثير من قيمتها.
ليس التوصل إلى تسوية عادلة بين إثيوبيا والسودان ومصر بشأن السد الأولوية الأولى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. فيما لو فاز المرشح الديمقراطي للرئاسة جو بايدن وحل محل ترامب، فسوف لن يبقى السيسي، على أقل تقدير، “الدكتاتور المفضل” لرئيس الولايات المتحدة. فقد وعد بايدن بأن يتوقف الدعم الأمريكي على سلوك السيسي تجاه حقوق الإنسان.
لن يكون بايدن سندا للسيسي، ولا يمكن الثقة بتعهدات إثيوبيا بأن يتسبب السد بانقطاع مؤقت في انسياب مياه النيل.
واحد من التعهدات التي قدمها الإثيوبيون على المستوى الدولي يقول إن الخزان -الذي سيكون بحجم مدينة لندن- سوف يستخدم فقط لتوليد الكهرباء.
أعرف رجال أعمال من الخليج تلقوا عروضا بامتلاك حصص في الأراضي المحيطة بالخزان، وهي أراض يتوقع لها أن تكتسب قيمة كبرى عندما تروى بمياه الخزان، الذي من المؤكد أنه سوف يستخدم للري والزراعة، كما أنه سيستخدم لتوليد الكهرباء.
لا تملك مصر قدرة على وقف ملء السد، ولا على منع الإثيوبيين من استخدام المياه داخل الخزان كما يشاءون. تواجه مصر بحق أزمة وجودية، إذ لا يمكن لبلد تعداد سكانه مئة مليون نسمة أن يبقى على قيد الحياة إذا تراجع منسوب مياه النيل.
هذه هي نكبة مصر، التي يمكن أن ينجم عنها تشريد ملايين البشر. والسيسي مسؤول مئة بالمئة عن هذه الكارثة القومية.
المصدر: ميدل آيست إي