ترجمة وتحرير: نون بوست
على مدى العقدين الماضيين، كان هناك تصور عام، وراسخ على الأغلب، بأن صور القمر الصناعي محظورة فوق “إسرائيل” والأراضي الفلسطينية والسورية التي تحتلها. ويعزو ذلك إلى القانون الأمريكي الذي يعود إلى سنة 1996، ويعرف باسم “تعديل كيل-بينغمان“، والذي حد من جودة وتوافر صور الأقمار الصناعية عالية الدقة التي تنتجها الشركات الأمريكية التي تغطي “إسرائيل” (من خلال السياسات الضمنية، الأراضي الفلسطينية المحتلة ومرتفعات الجولان المحتلة). بالتالي، فإن الصور المتاحة للعموم على منصات مثل “جوجل إيرث” كانت رديئة ومشوّهة بشكل متعمد.
في 25 تموز/ يونيو، وبعد سنتين من الضغط المستمر الذي تمارسه الأوساط الأكاديمية والمجتمع المدني، تم إصلاح لائحة “تعديل كيل-بينغمان” المكونة من 97 كلمة بشكل غير متوقع، حيث أصبحت صور الأقمار الصناعية عالية الدقة متاحة للجميع بموجب القانون. وعلى الرغم من الترحيب الذي لاقاه هذا الإصلاح، أثارت الأخبار بعض التساؤلات: أولاً، ما هي الآثار التي خلفها تعديل كيل-بينغمان؟ ثم، بما أن صور الأقمار الصناعية قد تطوّرت بشكل كبير من حيث الحجم والتنوع في غضون السنوات الأربع والعشرين الماضية منذ تمرير قانون “تعديل كيل-بينغمان”، لماذا استغرق التعديل وقتًا طويلاً؟
كان قانون “تعديل كيل-بينغمان” نتاجًا ثانويًا لفترة ما بعد الحرب الباردة، عندما كانت صناعة صور الأقمار الصناعية جديدة. وقد سعى الرئيس بيل كلينتون إلى إعادة تشكيل التكنولوجيا التي كانت تُستخدم في السابق للتجسس بهدف التوسع في استخدامها التجاري. كما رفع السرية عن صور الأقمار الصناعية الأمريكية للتجسس منذ الستينيات والسبعينيات.
دق كل من الاستغلال التجاري ورفع السرية عن صور الأقمار الصناعية ناقوس الخطر في بعض الأوساط. يُذكر أن “إسرائيل”، المدفوعة برغبة الحفاظ على سرية الحرب الباردة، كانت تمارس ضغوطها على الكونغرس لفرض تنظيمات أكثر صرامة، مما أدى إلى تمرير قانون “تعديل كيل-بينغمان”، وهو الرقابة الوحيدة التي تمارسها الحكومة الأميركية على تصوير أي جزء من العالم.
في الواقع، كان هذا القانون، الذي طُبّق تحت ستار حماية الأمن القومي الإسرائيلي، أقرب إلى قانون رقابة. بعبارة أخرى، تسمح صور الأقمار الصناعية عالية الدقة للباحثين بفهم التغييرات الطارئة في المشهد الطبيعي وتحديدها وتوثيقها. وتتحمل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي التابعة لوزارة التجارة الأمريكية مسؤولية تطبيق القوانين المتعلقة بالاستشعار عن بعد. ونظرًا لأن قانون “تعديل كيل-بينغمان” لم يحدد الدقة المسموح بها، فقد حُدّدت اللائحة عند مترين لكل بيكسل.
كان للرقابة على “إسرائيل” والأراضي المحتلة آثار أثرية وجغرافية وإنسانية سلبية، وأكثرها وضوحا هي آثارها على مراقبة الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود
في المقابل، من المرجح أن تتراوح الصور التجارية المتاحة في الوقت الراهن بين 0.25 و0.6 متر لكل بيكسل. إنه الفرق بين رؤية المخطط العام لمبنى كبير والقدرة على رؤية السيارات المركونة في الخارج. بالإضافة إلى ذلك، كان من الممكن تحديد التغيرات الجوهرية في استخدام الأراضي (على سبيل المثال، بناء مستوطنات بحجم المدينة أو هدم المباني الفلسطينية) على مسافة مترين، بينما كان يصعب تمييز التغييرات الدقيقة، على غرار تغوّل البؤر الاستيطانية أو المواقع العسكرية الصغيرة. تجدر الإشارة إلى أنه على امتداد 24 سنة، طمس القانون الآثار المدمرة للاحتلال الإسرائيلي بإخفائها حرفيا عن الأنظار.
علاوة على ذلك، كان للرقابة على “إسرائيل” والأراضي المحتلة آثار أثرية وجغرافية وإنسانية سلبية، وأكثرها وضوحا هي آثارها على مراقبة الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ عقود، بما في ذلك توثيق عمليات هدم المنازل والنزاعات الإقليمية وتغوّل المستوطنات. وبالتالي، فقد أحبطت الصور الرديئة الجهود الرامية لتحديد انتهاكات حقوق الإنسان والتحقق منها، لا سيما في المناطق التي يصعب الوصول إليها مثل قطاع غزة المحاصر منذ سنة 2007. على سبيل المثال، يمكن لفرق البحث، مثل هندسة الطب الشرعي، استخدام صور الأقمار الصناعية عالية الدقة لمعرفة النقطة المحددة التي أُطلقت منها طلقة قاتلة على المتظاهرين العزل.
على الرغم من أن قانون “تعديل كيل-بينغمان” ينطبق فقط على الشركات الأمريكية، إلا أن أبرز الأطراف المتدخلة في السوق العالمية، وهي شركات مثل “ماكسار” و”بلانيت” ونقاط الولوج المفتوحة عبر الإنترنت مثل غوغل وبانغ، أمريكية الجنسية. في الواقع، حتى عندما بدأت الشركات الأجنبية في إنتاج صور عالية الدقة ابتداءً من سنة 2010، وهو ما كانت تعنيه الهيمنة الأمريكية، فإن قانون “تعديل كيل-بينغمان” كان يُطبّق على نطاق عالمي فعلا.
على الرغم من المقاومة الصامتة لحدود المترين من قبل عمالقة التكنولوجيا مثل “جوجل إيرث” و”خرائط بانغ” على مر السنين، فضلاً عن الدعوات المطالبة بإلغاء قانون “تعديل كيل-بينغمان”، إلا أن الجهود الرامية إلى الإصلاح كانت ضئيلة للغاية حتى وقت قريب. وتحولت الرقابة على صور الأقمار الصناعية على “إسرائيل” والأراضي المحتلة إلى إحدى الاستثناءات الثابتة والتي تحدد النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
بالإضافة إلى ذلك، كان لقانون “تعديل كيل-بينغمان” تأثير سلبي على البحث العلمي. وتعد صور الأقمار الصناعية أداة حاسمة للمسح والرصد، ولا تمنح الصور الرديئة المستوى المطلوب من التفاصيل لأنظمة مثل علم الآثار لتتبع التغيرات التي تطرأ على مواقع التراث أو حفر النهب. وعلى نحو مماثل، كثيرا ما تعتمد تقييمات تغير المناخ على بيانات مأخوذة من صور الأقمار الصناعية، والتي لم تكن متاحة على الرغم من المخاطر التي يفرضها تغير المناخ على المنطقة.
في الحقيقة، كانت كل هذه التأثيرات بمثابة نقطة مخفية مدروسة من قبل قانون “تعديل كيل-بينغمان”، والتي حظرت بشكل مباشر العمل الحيوي الذي يقوم به الباحثون والأكاديميون والناشطون في مجال حقوق الإنسان
بشكل عام، كان قانون تعديل كيل-بينغمان غير واضح، إلا أنه ذكر أن القيود المفروضة على صور الأقمار الصناعية فوق “إسرائيل” لن تنطبق إلا إذا لم تكن صور الأقمار الصناعية عالية الدقة متاحة بسهولة من قبل شركات غير أمريكية. وإذا بدأت الشركات الأجنبية في نشر صور أكثر وضوحا وتفصيلا، فإن حدود الدقة التي يفرضها قانون تعديل كيل-بينغمان كانت تهدف إلى التغيير باستمرار بمرور الوقت لتتناسب مع جودة تلك التي تنتجها الشركات غير الأمريكية. إلا أن ذلك لم يحدث.
أصبحت المشكلة واضحة عندما بدأ عدد من الشركات غير الأمريكية – بدءَا بشركة إيرباص الفرنسية في سنة 2011 – في إنتاج وبيع صور الأقمار الصناعية عالية الدقة لـ”إسرائيل” والأراضي المحتلة. في الواقع، “إسرائيل” نفسها تقدم صورا جوية مجانية عالية الدقة للأراضي التي تسيطر عليها، وتجعل قانون “تعديل كيل-بينغمان” بلا جدوى وتفند الادعاء القائل بأنه يخدم مصالح الأمن القومي الإسرائيلي.
أدت نتائج البحث هذه إلى سنتين من الضغط على الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي ووزارة التجارة والكونغرس
لقد جعلت هذه التطورات من قانون “تعديل كيل-بينغمان” قديم العهد منذ ما يقرب عقد من الزمان. وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تتم مراجعة هذا القانون بانتظام، إلا أنه لم يتم إجراء أي مراجعة رسمية حتى سنة 2017، مما أدى إلى تفوق التكنولوجيا على السياسة وتضرر الشركات الأمريكية.
هذا التناقض يكمن في صميم الدعوة لتعديل قانون “تعديل كيل-بينغمان”. هذا وقد نشر عالميْ الآثار في جامعة أكسفورد، مايكل فرادلي والراحل أندريا زيربيني، مقالا رائدا في سنة 2018 يدعو إلى تعديل القانون. وأظهر بحثهما بصورة واضحة أن قانون “تعديل كيل-بينغمان” كان باطلا، نظرًا لأن العديد من الشركات غير الأمريكية أنتجت الصور التي كان من المفترض أن تثير الإصلاح وتعديل حدود القانون.
في الحقيقة، أدت نتائج البحث هذه إلى سنتين من الضغط على الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي ووزارة التجارة والكونغرس. وكان الطلب بسيطَا: إما أن تُسمح للشركات الأمريكية بإنتاج ونشر صور عالية الدقة لـ”إسرائيل” والأراضي الفلسطينية المحتلة، أو إعلان قانون “تعديل كيل-بينغمان” باليَا.
ثم فجأة، أثناء اجتماع المجلس الاستشاري للاستشعار عن بعد في نهاية حزيران/يونيو، تم الإعلان عن أن الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي قد أدركت أخيرا أن دقة الصور التي تزيد عن مترين لكل بكسل كانت متاحة من مصادر غير أمريكية إلى دقة أقصاها 0.4 متر لكل بكسل، والتي ستصبح معيار التقييد الجديد. وقد يُطلب من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي أن تخفض الرقم إلى 0.3 متر عندما تطلق شركة إيرباص جيلها الجديد من الأقمار الصناعية في وقت لاحق من هذه السنة.
إن الآثار المترتبة على هذا التراجع واسعة النطاق. ومن الواضح أن شركات التكنولوجيا الأمريكية ستكون أكثر تنافسية ضد الشركات الأجنبية. فمن المنظور علمي، سيؤدي التغيّر إلى تحسن كبير في القدرة على مراقبة هذه المنطقة الهشة بيئيا عن بُعد. وعندما يتعلق الأمر بتغير المناخ، فإن الصور عالية الدقة ستمكن من الاكتشاف الأكثر دقة للتغيرات في الغطاء النباتي وحالة المحاصيل وانتشار التصحر (وهو تأثير رئيسي لتغير المناخ في المنطقة) والتغيرات في توزيع المياه والإفراط في استخدام الأسمدة ومقالب النفايات؛ وهذه التغييرات يصعب تمييزها وتسجيلها بشكل كبير باستخدام صور الأقمار الصناعية منخفضة الدقة. أما بالنسبة لتخصصات مثل علم الآثار، فستساعد في تحديد المواقع ومتابعة الأضرار.
إلى حد كبير، سيؤدي هذا التغيير إلى تمكين الجماعات الإنسانية التي تعمل على محاسبة “إسرائيل” على انتهاكاتها للقانون الدولي، بما في ذلك عمليات القتل غير القانوني وبناء المستوطنات (التي تشكل وبموجب اتفاقية جنيف الرابعة، جريمة حرب). ربما لهذا السبب تسبب تغيير قانون “تعديل كيل-بينغمان” في بعض القلق في الأوساط العسكرية الإسرائيلية. كما أن لهذا التغيير آثارا جيوسياسية، حيث ستكون تغطية صورة الأقمار الصناعية للمناطق الحدودية للأردن وسوريا ولبنان ومصر رديئة (مع قلق العديد من المشغلين من الاستيلاء على أي أرض إسرائيلية). وسيوفر التغيير في التشريع صورا غير خاضعة للرقابة لهذه المناطق وسيسمح بمراقبتها والتحقيق فيها، خاصة فيما يتعلق بالقضايا البيئية مثل استخراج المياه.
حقق التراجع عن قانون تعديل كيل ـ بينغمان بعد 24 سنة تكافؤ الفرص وأعطى الذين يعملون من أجل الحرية والعدالة والمساواة أداة حيوية
وأخيرًا، من منظور العدالة والمساءلة التاريخية، فإن الصور عالية الدقة وغير الخاضعة للرقابة تمكن الفلسطينيين من تصنيف بقايا القرى والبلدات التي دمرت خلال أحداث سنة 1948 وما بعده بدقة. إن قوة الإصلاح الديمقراطية سوف تسمح للفلسطينيين باستخدام التكنولوجيا لإعادة اكتشاف ماض قد مُحي وتخيل مستقبل بديل.
ربما يكون قانون “تعديل كيل ـ بينغمان” قد ربح المعركة ضد التسويق، ولكن يبقى رفع السرية معركة منفصلة تماما. إن ضمان إعادة إصدار صور الأقمار الصناعية الأرشيفية لـ”إسرائيل” والأراضي المحتلة باستعمال الدقة المطلوبة هو الهدف التالي؛ في الواقع، كانت صورة مفاعل ديمونا التي رُفعت عنها السرية (وهي منشأة نووية إسرائيلية تقع في صحراء النقب) في وسائل الإعلام الإسرائيلية هي التي أثارت السعي إلى فرض قانون “تعديل كيل ـ بينغمان” في المقام الأول.
من جهة أخرى، أظهرت صور سلاح الجو الملكي البريطاني التي رفعت عنها السرية لفلسطين والتي التقطت من سنة 1944 إلى سنة 1948 بالفعل التغييرات الهائلة في المشهد منذ ذلك الحين، كما بإمكان الصور الأمريكية التي رفعت عنها السرية من النصف الأخير من القرن العشرين أن تكشف أكثر من ذلك بكثير.
إن الدور الذي يمكن للتقدم التكنولوجي أن يلعبه في حماية حقوق الإنسان يستحق التأمل. سواء كانت مراقبة اضطهاد الأويغور في ما يسمى بمعسكرات إعادة التأهيل في الصين، أو التطهير العرقي للروهينغا ومجموعات الأقليات الأخرى في ميانمار، أو ضربات الطائرات بدون طيار الأمريكية في الصومال، فإن صور الأقمار الصناعية تستخدم منذ فترة طويلة من قبل المنظمات الحقوقية الدولية والباحثين والصحفيين و المدنيين لتوثيق ورصد الفظائع وجرائم الحرب.
لقد حقق التراجع عن قانون “تعديل كيل ـ بينغمان” بعد 24 سنة تكافؤ الفرص وأعطى أولئك الذين يعملون من أجل الحرية والعدالة والمساواة أداة حيوية. ومع ذلك، فإن المراقبة لا يمكن أن تكون كافية وحدها. لا تزال صور الأقمار الصناعية عالية الدقة وسيلة لمتابعة المساءلة وليس الغاية.
المصدر: فورين بوليسي