عجت تركيا، منذ أن أصبح واضحًا أن رجب طيب إردوغان سيكون مرشحًا لخوض معركة الانتخابات الشعبية المباشرة لرئاسة الجمهورية، بالتوقعات المنذرة بما هو أسوأ، وفي خضم الصراع السياسي الحاد الذي تعيشه البلاد منذ صيف 2013، لم يكن من السهل دائمًا التفريق بين الشائعات السياسية والتوقعات العقلانية المحتملة، معظم هذه التوقعات/ الشائعات، تبددت الآن، بعد أن شهدت البلاد انتقالاً سلسًا للسلطة، ولكن هذا لا يعني أن الطريق إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة المقررة مطلع صيف 2014، سيكون سهلاً وخاليًا من التحديات.
ويحكم حزب العدالة والتنمية تركيا، من خلال حكومة منفردة، منذ نهاية 2002، ويسيطر الحزب على مقاليد الحكومة، متمتعًا بأغلبية برلمانية مريحة وعلى رئاسة الجمهورية منذ 2007 عندما فاز “عبد الله غل” بأصوات الأغلبية البرلمانية التي وضعته في قصر جانكايا لسبع سنوات، ولم يكن مدهشًا بالتالي أن تعيش أحزاب المعارضة حالة مختلطة من الآمال والتمنيات بسقوط الحزب، الذي استطاع الفوز طوال الاثنتي عشرة سنة الماضية في كل معركة انتخابية خاضها، برلمانية، محلية، أو استفتاء شعبي مباشر، ولأن إردوغان – رئيس الحزب ورئيس الحكومة – أصبح الشخصية المهيمنة على السياسة التركية، وموقعه يحتل مركز عملية الانتقال السياسي التي تفرضها انتخابات رئاسة الجمهورية، أصبح هو أيضًا هدف تمنيات المعارضين وتوقعات الأسوأ للعدالة والتنمية، لحكومته، ولرئيسه وعلاقات قادته، قيل في البداية إن عبد الله غل ليس سعيدًا بترشح أردوغان للرئاسة، وأنه يوشك أن يعلن عزمه هو الآخر الترشح وخوض الانتخابات ضد رفيقه السابق في تأسيس وقيادة العدالة والتنمية.
وعندما اتضح أن غل سيفسح المجال لأردوغان، ذهب حزبا المعارضة الرئيسيان، الشعب الجمهوري والحركة القومية، إلى توافق غريب، بالرغم من الاختلافات الجوهرية بين معتقدات الحزبين والقاعدتين الجماهيرتين اللتين تدعم كلاً منهما، وقررا تسمية مرشح واحد لهما في مواجهة إردوغان، وفي سلوك ذرائعي لم يخف على الناخب التركي، أعلنت المعارضة “أكمل الدين إحسان أوغلو” السكرتير العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، الذي ينظر إليه في بعض الدوائر التركية باعتباره شخصية محافظة، أقرب إلى صورة العدالة والتنمية منه إلى ميراث حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية، مرشحًا لها.
ولأن القوميين الأكراد قرروا أيضًا التقدم بمرشح رئاسي، بنيت حسابات المعارضة على أن معركة الانتخابات لن تحسم من الدورة الأولى، وأن ثمة فرصة لإيقاع هزيمة بأردوغان في الدورة الثانية، المشكلة أن إحسان أوغلو خاض معركة انتخابية هزيلة، ليس فقط لأنه عجز عن عقد لقاء جماهيري واحد، ولكن أيضًا لأنه بدلاً من منافسة أردوغان على رصيده المحافظ، ذهب يمينًا وشمالاً ليؤكد لأنصار الشعب الجمهوري والحركة القومية أنه في الحقيقة لا يختلف عنهما، لا في التزامه العلماني الراديكالي، ولا في تبنيه للأسس القومية الحصرية للجمهورية؛ وبذلك، انتهى أوغلو إلى الفشل في إقناع الأغلبية بمصداقية مؤهلاته لموقع الرئاسة، وحقق أردوغان الفوز من الجولة الأولى، وهنا بدأت توقعات من نوع آخر، فمنذ ما قبل الانتخابات الرئاسية، كانت الأدلة تتزايد على أن أردوغان – وأغلبية كادر العدالة والتنمية – يسعى لترشيح أحد أبناء الجيل الثاني لخلافته في رئاسة الحزب ورئاسة الحكومة، وأن هذا المرشح سيكون د. أحمد داوود أوغلو، وزير الخارجية النشط وبالغ التأثير، ما قيل عندها إن عبد الله غل في طريقه للعودة إلى الحزب، وأن أنصاره من القوة بحيث سيرجعونه لقيادة الحزب والحكومة، وأن أية محاولة لمقاومة هذا التوجه ستؤدي لانقسام العدالة والتنمية ونهاية سيطرته على الساحة السياسية، ولكن ما إن عقد العدالة والتنمية مؤتمره الطارئ، حتى حصد داوود أوغلو الأغلبية العظمى من أصوات المندوبين، وشهدت تركيا في اليوم التالي تسليم رئاسة الجمهورية في أجواء بالغة الاحترام والتقدير، انسحب غل لحياته الخاصة، وتسلم داوود أوغلو رئاسة الحكومة بسلاسة فائقة، خلال أيام قليلة، أعلن داوود أغلو تشكيل حكومته الأولى، وتقدم للبرلمان ببرنامجه، ليحوز على ثقة الأغلبية البرلمانية.
داوود أغلو أستاذ جامعي سابق، عالم سياسة ذو اهتمام كبير بتاريخ تركيا والمشرق، وواحد من أبرز مثقفي تركيا ومفكريها السياسييين، وقد تلقى منذ التحاقة المبكر بحكومة العدالة والتنمية تدريبًا مميزًا في إدارة شئون الحكم، بحكم قربه وصلاته الوثيقة بدائرة صنع القرار، بهذا المعنى، لابد أن يعتبر داوود أوغلو أول رئيس حكومة بهكذا خلفية في تاريخ المشرق الحديث، وليس تركيا وحسب، ولكن الانتقال السلس للسلطة من أردوغان لداود أوغلو، ووحدة الحزب من خلفه، والترحيب الشعبي الملموس بخلافته لأردوغان، لا يعني أن الطريق أمامه مفتوح بلا تحديات، خلال أقل من عام، ستقف تركيا أمام الاستحقاق الانتخابي البرلماني، وعلى داوود أوغلو إثبات جدارته بقيادة العدالة والتنمية إلى الفوز من جديد؛ وليس أي فوز، بل فوزًا يمنح حكومته من الشرعية ما يكفي لفتح الملف الأكبر أمام البلاد: إعداد دستور جديد للجمهورية.
وكان الدستور الجديد أحد الوعود التي حملها برنامج الحزب الانتخابي في برلمانيات 2011؛ ولكن إيكال المهمة للجنة برلمانية توافقية، بهدف تحقيق إجماع وطني حول مسودة الدستور المأمولة، انتهت بعد عام كامل من العمل إلى الفشل، ثمة اعتقاد واسع في أوساط الحزب، يشترك فيه كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجديدين، أن النظام السياسي التركي يفتقد مركزًا مرجعيًا للدولة، نظرًا لأن الدولة الجمهورية بنيت من البداية على أساس توزيع القوة بين أركان الحكم المختلفة، وأن هذا الوضع لا يناسب دولة في حالة صعود اقتصادي ودور إقليمي نشط، وهذا ما جعل داوود أوغلو يعد في برنامج حكومته بالعمل على إعداد دستور جديد، مباشرة بعد الانتخابات البرلمانية القادمة؛ وهو الأمر المشروط بتعزيز أغلبية العدالة والتنمية البرلمانية، وبناء علاقات من نوع جديد مع المعارضة، سيما الكردية.
وفي الطريق إلى انتخابات 2015، وليس فقط من أجل تحقيق فوز يسمح بوضع دستور جديد، ينبغي على حكومة بروفسور العلوم السياسية والجغرافيا – السياسية أن تحافظ على الاستقرار والنمو الاقتصاديين، في وقت تنتشر النزاعات في جوار تركيا العربي، وتبرز بوادر جديدة على انتكاسة التعافي الاقتصادي الأوروبي، كما أن على الحكومة الجديدة أن تسعى لتخفيف حدة التدافع السياسي في البلاد، الذي بلغ مستوى غير مسبوق من الاستقطاب خلال العام الماضي، بفعل عجز حزبي المعارضة الرئيسيين عن تشكيل تحد ملموس لحكم مستمر بلا انقطاع منذ اثني عشر عامًا.
ولكن ثمة ملفين رئيسيين يجب على حكومة داوود أغلو التعامل معهما بقدر كبير من الكفاء، ومحاولة إحراز تقدم مقنع لعموم الناخبين الأتراك: الأول، ملف القضية الكردية، وما يتصل بها من إجراءات سلم ومصالحة، هذه بالطبع هي القضية التي تسببت في إنهاك كبير لتركيا منذ منتصف الثمانينيات، وقد استطاعت حكومة إردوغان تحقيق تقدم كبير على صعيد إقفال هذا الملف في العامين الماضيين وأوقفت بالفعل نزيف الدماء، ولكن تحقيق مزيد من التقدم نحو حل نهائي للمسألة الكردية يتطلب خطوات إضافية شجاعة من جانب الحكومة، بما في ذلك سن تشريعات جذرية لتعزيز حالة السلم المؤقت وتستجيب لمطالب الأكراد القومية. أما الملف الثاني فيتعلق بسلسلة النزاعات في الجوار التركي، سيما في سوريا والعراق والموقف من حالة الصراع المحتدمة بين قوى الثورة والثورة المضادة في العالم العربي، وبالرغم من ارتفاع أصوات في تركيا تدعو للعودة إلى العزلة التقليدية للجمهورية عن جوارها، فإن حكومات العدالة والتنمية المتعاقبة أدركت منذ زمن أن استقرار ورفاه تركيا غير ممكنين بدون استقرار ورفاه الإقليم، أو على الأقل تحرك دوله نحو الاستقرار والنهوض.
ولم تصدق المراهنات على اضطراب عملية الانتقال السياسي أو انشقاق العدالة والتنمية. ولكن ما يبدو أن لابد من الانتظار قليلاً قبل أن يؤكد رئيس الحكومة الجديد قدرته على قيادة تركيا وحزبها السياسي الرئيسي في المرحلة القادمة. والمحك، في النهاية، وكما في كل الديمقراطيات، سيكون صندوق الاقتراع.