ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما بدأ محمد علي في وضع هاتفه المحمول على مكتبه في إسبانيا، لم يكن يتوقع أن تؤدي مقاطع الفيديو إلى انتفاضة في وطنه مصر. (مقاطع الفيديو التي سجّلها المقاول الذي تحول الى أحد المبلغين عن المخالفات، والتي كشفت عن النفقات الضخمة للرئيس عبد الفتاح السيسي وعائلته، أدت في نهاية المطاف إلى احتجاجات غير مألوفة مناهضة للحكومة في جميع أنحاء البلاد في أيلول / سبتمبر الماضي) خلافا لذلك، كان يتوقع أن النظام سيستهدف عائلته كوسيلة لتشويه سمعته.
على التلفزيون المصري، تبرأ والده منه علنا واتهمه شقيقه ووالدته بسرقة شقيقه الراحل. ولقد قال لي علي في مكالمة هاتفية من إسبانيا: “لقد كذبت عائلتي. إنهم مؤيدون للسيسي. لم يفاجئني ما قالوه، نحن نعيش في ديكتاتورية. وفقا لمعلوماتي، أملوا عليهم ما قالوه”.
في الواقع، اتصل والد علي به العديد من المرات طالبا منه بالاعتذار علنًا عن مقاطع الفيديو. وسأله “‘لماذا تقوم بكل هذا، لقد كنا سعداء’. كما قال لي إنهم سيقتلونني. لذلك، بكيت، لكن لم يكن هناك مجال للتراجع”. خلال الشهر الماضي، ظهرت أنباء تفيد بأن مصر تطلب من إسبانيا تسليمه بتهمة التهرب الضريبي المزعوم، حيث يواصل السيسي حملة لا هوادة فيها لإسكات المنتقدين في الخارج.
إن ما عاشه علي ليس إستثناء، فهو يندرج ضمن قصص مجموعة متزايدة من المنشقين الذين اختاروا نفي أنفسهم في الخارج مقابل التعبير بحرية وانتقاد الأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية. وقد شهد الكثير منهم على الضغوط الهائلة التي تُمارسها قوات الأمن على عائلاتهم سعيا منها لابتزاز أقاربهم في الخارج لإسكاتهم.
في المقابلات التي أجريتها مع العديد من النقاد الصريحين، وجدت أن تكتيكًا متكررًا يستخدمه أكثر من نظام واحد في الوقت ذاته تقريبًا: يُطلب من العائلات الضغط على قريبهم المعارض لإسكاته، ورفضه، وتشويه سمعته، واستنكار أفعاله. تواجه العائلات التي لا تمتثل حظر السفر، والعزلة الاجتماعية، وفقدان الوظائف، وحتى السجن. لكن منتقدو الحكومة منذ فترة طويلة يقولون إن هذه الأساليب لم تكن شائعة أو كانت ممنهجة في الماضي.
في المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، رُبطت هذه الاستراتيجية بالفترة التي تلت تنصيب محمد بن سلمان ولياً للعهد سنة 2017، وتحديداً بعد أن بدأ تنفيذ سلسلة من حملات القمع ضد النقاد والشخصيات المؤثرة والملوك والنشطاء والعلماء ورجال الدين. وخير مثال على ذلك اعتقال رجل الدين سلمان العودة في أيلول / سبتمبر 2017. وعلى الرغم من اعتقاله قبل وصول محمد بن سلمان إلى السلطة وسجنه من 1994 إلى 1999، إلا أن ابنه عبد الله العودة يقول إن عائلته لم تتعرض للمضايقات في ذلك الوقت.
في الوقت الحالي، يُمنع 18 فرداً على الأقل من أسرته، بمن فيهم أطفال لا تتجاوز أعمارهم تسع سنوات، من السفر. كما بقي عمه في السجن لنشره تغريدات عن العودة. وبشكل متكرر، فُتّش منزلهم. في تطور غريب للأحداث، وبعد أن مُنعت عائلته من زيارته في السجن، سُمح لصحفي سعودي بمقابلته، وقد وصف السجن بأنه مكان للاسترخاء. علاوة على ذلك، ذكر الصحفي أن سلمان العودة طلب من نجله عبدا لله التوقف عن الحملة التي يقوم بها لأجل والده والتركيز على دراسته. (ردا على ذلك، يقول عبد الله أن هذا الطلب كان غريبًا، لأنه كان قد أنهى دراسته بالفعل ووالده على علم بذلك).
المضايقات العائلية أصبحت بمثابة ردة فعل في السعودية بسبب العلاقة الوثيقة بين ولي عهد الإمارات محمد بن زايد ومحمد بن سلمان
من جانب آخر، شهدت لجين الهذلول، الناشطة الحقوقية السعودية البارزة، نفس التحول في التكتيكات. على عكس اعتقالها الأولي سنة 2014، عندما ألقي القبض عليها مرة أخرى سنة 2018، وقع منع والديها من السفر. أعيد زوجها قسراً إلى المملكة العربية السعودية من الأردن. في وقت لاحق، تطلق الزوجان ولكن ما زال من غير الواضح ما إذا كان ذلك بسبب ضغوط الحكومة. كما ضُغط على أشقائها لالتزام الصمت بشأن قضيتها، لكنهم تحدثوا في نهاية المطاف بعد أن علموا بالتعذيب والتحرش الجنسي الذي تتعرض له لجين في السجن.
في هذا الصدد، أشارت هالة الدوسري، ناشطة وباحثة سعودية بارزة، إلى أن “العديد من (النقاد والعائلة) حاولوا التزام الصمت، ولكن الشيء الجديد بخصوص محمد بن سلمان، هو أنه حتى إذا بقيت صامتًا، فلن يتغير شيء. وهذا أمر مستجد في المملكة العربية السعودية. فهم يقولون لك: سنلاحقك أنت وعائلتك، وليس هناك مجال للتفاوض. لهذا، لا يعد الصمت مجديا”.
على الرغم من أن حظر السفر ليس إجراء جديدًا في المملكة العربية السعودية، إلا أنه في عهد ولي العهد السابق محمد بن نايف، الذي أبعده محمد بن سلمان عن السلطة سنة 2017، يُراجع سنويًا ويكون قابلا للطعن، وذلك وفقًا للدوسري. ولكن لم يعد هذا هو الحال. عدد الأشخاص الممنوعين من السفر في المملكة العربية السعودية غير معلوم بدقة، لكنه يقدر بالآلاف. كما أضافت الدوسري: “تحت حكم محمد بن سلمان سيظل العدد غير محدد”.
في الحقيقة، تضمنت هذه الجهود ضغوطًا مباشرة على الدول الغربية، حيث يقع نفي النشطاء. سنة 2018، على سبيل المثال، زار اللاجئ السياسي عمر عبد العزيز، وهو منتقد صريح لمحمد بن سلمان، أحد إخوانه في كندا برفقة رجلين قالا إنهما يحملان رسالة من ولي العهد. وقد دُعي عبد العزيز إلى الذهاب إلى السفارة السعودية في كندا أو العودة إلى المنزل معهم. ولكنه لم يفعل أي من ذلك. عند عودته إلى المملكة العربية السعودية، سُجن شقيقه مع عدد من أصدقائه، في محاولة لمزيد الضغط عليه. بعد ذلك بعامين، وفي ظل عدم تراجع عبد العزيز عن نشاطه، حذرته السلطات الكندية من أنه أصبح هدفاً محتملاً للحكومة السعودية.
كما هو الحال في قضية عبد العزيز، حيث تم احتجاز أسرته كرهائن، يقع استخدام التكتيك ذاته مع سعد الجبري، ضابط المخابرات السابق في المملكة العربية السعودية، الذي ساعد في إحباط مؤامرة حاكها تنظيم القاعدة ضد الغرب. اعتقلت الحكومة السعودية اثنين من أبناء الجبري وأحد إخوانه للضغط عليه للعودة إلى الوطن. (بعد مقتل جمال خاشقجي سنة 2018، أقر المسؤولون السعوديون بوجود تعليمات دائمة بإعادة المنشقين إلى الوطن ولم تحدد الطريقة).
يشتبه النشطاء في أن المضايقات العائلية أصبحت بمثابة ردة فعل في السعودية بسبب العلاقة الوثيقة بين ولي عهد الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، خاصة وأن الإمارات العربية المتحدة استخدمت مثل هذه الأساليب قبل سنوات. تقول الناشطة الإماراتية في مجال حقوق الإنسان آلاء الصديق، التي تعيش في لندن، حيث تسعى حاليًا للحصول على اللجوء، إن هذا الاتجاه انتشر في المملكة العربية السعودية بشكل أكثر قسوة في السنوات الأخيرة، لكنها واجهت التكتيكات ذاتها مباشرة في الإمارات العربية المتحدة.
آلاء صديق هي ابنة أحد المواطنين الإماراتيين الأربعة والتسعين الذين أدينوا في 2013 بتهمة “المساس” بأمن البلاد، وهي قضية قمت بتغطيتها أثناء العمل في دار نشر محلية داخل في الإمارات آنذاك. وقالت الصديق إنه وقع إسقاط الجنسية عن 20 من أقارب هؤلاء، بمن فيهم هي شخصيًا. أما البقية، فقد منعوا من السفر، وواجهوا الإقصاء الاجتماعي، ولم يتمكنوا من الحصول على وظائف معينة.
مارست مصر ضغوطاً دبلوماسية على وزارة الخارجية الأمريكية لمنح الببلاوي حصانة دبلوماسية من دعوى التعذيب
أخبرتني الصديق من لندن: “إذا تقدم أحد لخطبة أختي، فإن الحكومة ستمنعه. نحن لا نعرف بالضبط عدد الأشخاص المحظور عليهم السفر، ولا يوجد أوراق أو أوامر تعطى للناس لإبلاغهم. ولكن بمجرد محاولة عبور الحدود، يتم إخبارهم بذلك شفويا. إن هذا التحالف المتنامي بين السعودية والإمارات العربية المتحدة يؤدي إلى ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان ذاتها واستخدام التكتيكات نفسها. ولذلك، لا يُعلم الأشخاص المحظورين من السفر في المملكة العربية السعودية مسبقا، ولكن يكتشفون ذلك عند الوصول إلى المعابر الحدودية.
قال أحد المنشقين، الذي طلب عدم الكشف عن هويته خوفًا من أن يقع الانتقام منه، إنهم يشجعون أسرهم على التخلي عنهم، مضيفًا أنه قبل التحدث علناً، يدرك المنشقون تمامًا أن الحكومة ستبذل جهودًا كبيرة لإسكاتهم، بما في ذلك الضغط على أقاربهم. مع تبني الأنظمة تكتيكات أكثر قسوة ضد منتقديها، يلجأ المنشقون في الخارج إلى اتخاذ إجراءات قانونية لتسليط الضوء على المعتدين. من خلال هذا النهج، تُمارس ضغوط داخلية على الحكومات الغربية للتنديد بمنتهكي حقوق الإنسان، حتى أثناء محاولتهم الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية في المنطقة.
في وقت سابق من هذه السنة، بدأ عدد من السعوديين والحلفاء المسجونين في تكليف محامين وجماعات ضغط، ونقل قضاياهم إلى الولايات المتحدة. في الآونة الأخيرة، رفع الناشط المصري الأمريكي محمد سلطان، الذي تعرض للتعذيب أثناء سجنه في مصر، دعوى قضائية في واشنطن ضد رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي لإصدار أمر باعتقاله سنة 2013.
رداً على ذلك، اعتقلت الحكومة المصرية خمسة من أبناء عمومته واستجوبت والده قبل نقله إلى مكان مجهول. وقد أبلغت الحكومة المصرية الأسرة بأنهم محتجزون كرهائن حتى يتخلى سلطان عن الدعوى. وصف صناع السياسة الأمريكيون الاعتقالات بأنها تدخل واضح في القضاء الأمريكي.
من المحتمل أن يسبب السعي المستمر للمعارضين وعائلاتهم مشاكل دبلوماسية مستمرة للغرب والولايات المتحدة على وجه الخصوص، سواء في ظل حكم الرئيس الحالي دونالد ترامب أو منافسه الانتخابي جو بايدن، ما لم يتم بذل جهد جماعي للضغط على الأنظمة لتحسين تعاملاتهم في مجال حقوق الإنسان.
أعرب بايدن بالفعل عن قلقه بشأن مضايقة عائلة سلطان وحذر من أنه لن يكون هناك مزيد من السلطة المطلقة “للديكتاتور المفضل” لترامب، في إشارة إلى السيسي، حيث يقدم لمحة عما يمكن أن تعنيه رئاسته للولايات المتحدة لمصر وبقية الدول في المنطقة.
للأسف، في حالة سلطان، مارست مصر ضغوطاً دبلوماسية على وزارة الخارجية الأمريكية لمنح الببلاوي حصانة دبلوماسية من دعوى التعذيب، التي أعلنتها الوزارة الآن. سيؤدي هذا الأمر إلى ممارسة مزيد من الضغط على عائلة سلطان، وبقية الناشطين الذين ينتظرون تطبيق العدالة على المعتدين عليهم وتحرير أسرهم.
بينما لا تستطيع الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى تصدير قيم حقوق الإنسان الخاصة بها إلى العالم العربي، يمكنها على الأقل مساعدة أولئك الذين يلجؤون إليها لتحقيق العدالة، لا سيما عندما يطال الأمر مواطنيها. في المقابل، من المحتمل أن يشجع بذل جهد أقل هذه الأنظمة على المضي قدما في قمعها.
المصدر: فورين بوليسي