منذ أن تسارع الانهيار الاقتصادي بوتيرة مقلقة في لبنان، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 60% من قيمتها في الشهر الماضي وحده، و80% من قيمتها في السوق السوداء بداية من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن أحد يتصور حجم الكارثة التي ستدفع سريعًا بالبلاد إلى أسوأ أزماته الاقتصادية منذ الحرب الأهلية (1975-1990)، وذلك بعد غرقها لعقود طويلة في الفساد الحكومي والاقتصادي وسوء الإدارة، إلى جانب تداعيات جائحة كورونا.
ومع انفجار مرفأ بيروت المفاجئ ووقوع المدينة الساحلية في الدمار والخراب والدماء، كتب على بيروت الدخول في مرحلة جديدة من السواد والحداد على مئات القتلى والجرحى، وعلى ما ستجلبه هذه المصيبة من كوارث وأعباء اقتصادية إضافية، لا سيما أن مرفأ بيروت بالنسبة إليها المسمار الذي تعلق عليه معظم آمالها الاقتصادية وأعمالها التجارية.
مرفأ بيروت.. خلفية تاريخية حافلة
ذُكِر اسم مرفأ بيروت لأول مرة في الكتابات المتبادلة بين الفراعنة والفينيقيين التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، ومنذ العصر الروماني تشكلت هويته الاقتصادية، إذ عرف بكونه مركزًا تجاريًا واقتصاديًا مهمًا، لكن دمرت الزلازل المستعمرة الرومانية عام 551 وبقيت في حالة خراب حتى جاءها المسلمون عام 635 في العصر الأموي وأعادوا بناء المدينة ليصبح المرفأ مركز الأسطول العربي الأول.
أما بالنسبة لعصر الصليبيين، فقد كان لميناء بيروت دور مهم في التجارة البحرية بين الشرق والغرب (خاصةً بين بيروت والمدن الإيطالية) واستمر كذلك حتى العصر المملوكي عندما كان الميناء الرئيسي لتجار التوابل.
وبالانتقال إلى الحكم العثماني عام 1516، تراجعت الأهمية التجارية للمرفأ، لكن مع سماح النظام السياسي الجديد بالتجارة الحرة في عهد المتصرفية وتطور الملاحة البخارية بحلول القرن السابع عشر أصبح الوجهة الرئيسية لمنتجات الحرير التي كانت تمثل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني حيث كانت تعمل ما لا يقل عن عشرة خطوط للملاحة البخارية بانتظام من مرفأ بيروت، وهكذا باتت بيروت مركزًا مهمًا في حركة الاستيراد والتصدير، ما أدى إلى تدفق السلع الأوروبية إلى السوق اللبنانية، والعكس صحيح.
في أثناء الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990 أُغلق الميناء وتوقفت الأنشطة التجارية
في عام 1887 منحت الدولة العثمانية امتياز تأسيس المرفأ لشركة عثمانية من خلال إنشاء سد بحري لتوسيع وتطوير الميناء، واحتفل بمناسبة هذا الإنجاز بنهاية عام 1894، وبحلول عام 1900 أحضرت المطابع إلى المرفأ لتحفيز صناعة النشر، حيث أصبحت بيروت مركزًا للصحافة العربية وحضنًا للمثقفين الذين يرغبون في إحياء الثقافة والقومية العربية الحديثة، وبذلك تضاعفت أهمية هذا الميناء البحري.
تبلغ مساحة الميناء الإجمالية 1.2 مليون متر مربع ويتألف من 4 أحواض يتراوح عمقها بين 20 و24 مترًا
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت بيروت أهم ميناء عربي في شرق المتوسط يخدم العالم العربي، وفي عام 1925 انتقلت السيطرة على مرفأ بيروت إلى شركة فرنسية، ثم منح هذا الامتياز إلى شركة لبنانية عام 1960، وفي أثناء الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990 أغلق الميناء وتوقفت الأنشطة التجارية، وبعد انتهاء الحرب تم تنفيذ العديد من الخطط والاستثمارات لتجديد البنية التحتية للمرفأ وزيادة طاقته الإنتاجية مما يزيد من إيراداته وبالتالي يزيد من إيرادات الدولة.
اليوم، تبلغ مساحة الميناء الإجمالية 1.2 مليون متر مربع ويتألف من 4 أحواض يتراوح عمقها بين 20 و24 مترًا، و16 رصيفًا و4 مستودعات للبضائع العامة و3 مستودعات لعمليات التجميع و3 مستودعات للسيارات ومستودع واحد للبضائع الحرة تبلغ مساحته 5231 مترًا مربعًا، إضافة إلى عدد من صوامع تخزين القمح.
محرك العجلة الاقتصادية اللبنانية
يعتبر مرفأ بيروت من أكبر الموانئ البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، حيث يستوعب الميناء أكبر السفن الحديثة، ويضم العديد من الشركات والبنوك، عدا عن اكتظاظ المراسي بمناطق الجذب السياحي، فقد أدرجت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية المرفأ كأفضل مكان للزيارة عام 2009.
يلعب المرفأ دورًا حيويًا وأساسيًا في معظم عمليات الاستيراد والتصدير اللبنانية، حيث تمثل البضائع التي تدخل إليه 70% من حجم السلع التي تدخل إلى البلاد
وعادة ما يؤخذ مؤشر “الأونكتاد” لتقييم موصولية خطوط الشحن البحري، وبناءً عليه احتل لبنان عام 2018 المرتبة الـ38 من أصل 171 دولة برصيد 47.17 نقطة، أما إقليميًا، يحتل لبنان المرتبة السادسة ويشير ذلك إلى أن مرفأ بيروت من أفضل الموانئ أداءً على مستوى العالم والمنطقة، إذ يتعامل مع 300 ميناء عالمي وترسو فيه نحو 3 آلاف و100 سفينة سنويًا.
ونظرًا لموقعه الإستراتيجي، يلعب المرفأ دورًا حيويًا وأساسيًا في معظم عمليات الاستيراد والتصدير اللبنانية، حيث تمثل البضائع التي تدخل إليه 70% من حجم السلع التي تدخل إلى البلاد، ووفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية، يتم استيراد نحو 80% من إمدادات القمح في لبنان من المرفأ الذي تدمر أمس.
عدد السفن التي ترسو في الميناء سجلت ارتفاعًا هامشيًا بنسبة 0.78% بلغ مجموعها 130 سفينة في يناير/كانون الثاني 2020
وخلال فترة الـ13 سنة الماضية، زادت إيرادات الموانئ من 89 مليون دولار عام 2005 إلى 313 مليون دولار عام 2017 مسجلة زيادة سنوية بنسبة 11.1% بينما زادت النفقات التشغيلية من 52 مليون دولار أمريكي في 2005 إلى 128 مليون دولار أمريكي في 2017، مسجلة معدل نمو سنوي مركب بنسبة 7.7%، ما يشير إلى أن نمو الإيرادات يتجاوز النمو في نفقات التشغيل، ما يعني ضمنًا ارتفاع الإيرادات.
أما فيما يتعلق بعام 2019 فبلغ إجمالي إيراداته نحو 200 مليون دولار، مقارنة بـ313 مليون دولار في 2018، واستمر هذا الانخفاض بنسبة 30.33% على أساس سنوي إلى 12.37 مليون دولار في الشهر الأول من العام الحاليّ، وصاحبه انخفاض في إجمالي حجم البضائع المستوردة والمصدرة بنسبة 38% سنويًا ليصل إلى 36 طنًا، إزاء تراجع الطلب على الاستهلاك المدفوع بالأزمة الاقتصادية في البلاد.
تجدر الإشارة إلى أن عدد السفن التي ترسو سجلت ارتفاعًا هامشيًا بنسبة 0.78% بلغ مجموعها 130 سفينة في يناير/كانون الثاني 2020.
الأضرار الاقتصادية
بالنظر إلى حجم الدمار والخراب الذي خلفه الانفجار، تشير التقديرات المتوفرة إلى أن الخسائر الاقتصادية بلغت ما بين 3 إلى 5 مليارات الدولارات، أولًا لتعطل العمليات التجارية على المرفأ وثانيًا لحاجة الميناء إلى أموال ضخمة لإعادة إعمار البنية التحتية وإصلاح الأضرار الجسيمة في الممتلكات والأبنية وتأسيسها كما يلزم لمواصلة نشاطاتها التجارية.
فضلًا عن الأبنية التي تقع في محيط المنطقة، فمن المتوقع أيضًا أن تتوقف 90% من الفنادق السياحية عن العمل، إضافة إلى تعرض نحو 300 ألف منزل للهدم.
لدى لبنان مرافئ رسمية أخرى مثل صيدا وصور وطرابلس وجونية، إضافة إلى مرافئ متخصصة كمرفأي “شكا” و”الجيه”
وفي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، دعا مجلس الدفاع الأعلى في لبنان إلى تجهيز مرفأ مدينة طرابلس (شمالي البلاد) لضمان استمرار العمليات التجارية من استيراد وتصدير في إطار حزمة قرارات وتوصيات لمواجهة تداعيات الانفجار الضخم، وذلك بعد أن أعلن بيروت “مدينة منكوبة”.
وإلى جانب مرفأ بيروت وطرابلس، لدى لبنان مرافئ رسمية أخرى مثل صيدا وصور وطرابلس وجونية، إضافة إلى مرافئ متخصصة كمرفأي “شكا” و”الجيه” المتخصصة في تفريغ أنواع معينة من السلع كالوقود، لكن من المستبعد أن تستطيع هذه المرافئ سد الفراغ الذي تسبب به الانفجار لعدم جاهزيتها.
ووسط حالة الصدمة والذعر ذكر وزير الاقتصاد راؤول نعمة، أنه “لا يمكن استخدام القمح المخزّن في صوامع مرفأ بيروت لأنه بات ملوثًا جراء الانفجار”، الأمر الذي دفع العديد من الدول حول العالم إلى عرض مساعدتها الغذائية والطبية والإنسانية في محاولة لتخفيف أوجاع المدينة المنكوبة، وكانت من بين تلك البلدان الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتركيا وقطر وبريطانيا وإيران.