ربح الغنوشي مقامرته بمنصبه، فكشف خصومه ونزع عنهم لحاف ثوريتهم المدعاة، وجمع من جديد بين يديه أوراق التفاوض على الحكومة القادمة ويمكنه أن يقف بندية أمام الرئيس الذي يحاول تجاهله ويعمل جاهدًا على عزل البرلمان وفرض خياراته الرئاسية.
عصافير كثيرة بحجر واحد، لقد بدا واثقًا من نفسه وهو يقبل بعرض نفسه على جلسة منح الثقة أو سحبها وألقى جملة سياسية ستكتب في رصيده السياسي، فهو لم يأت على ظهر دبابة أي أنه لن يذهب أيضًا على ظهر دبابة، يقول أنصاره مزهويين ليلة عيد الأضحى: “ربح البيع”.
خارج الطقس الاحتفالي وزغاريد الانتصار أو النجاة نقرأ مآلات يوم التصويت على الثقة وفوزه بها.
تعرية الحزام الثوري من اللحاف الثوري
أفرزت انتخابات 2019 مشهدًا برلمانيًا تعدديًا غير متكافئ من حيث العدد والقوة، لكن برز من بين الكتل الحزبية حزبا التيار الديمقراطي وحركة الشعب بخطاب ثوري يستنكف عن العمل مع الأحزاب الفاسدة، ورفع الحزبان سقف النقاء الثوري إلى ذرى عالية وسلم لهم الكثير بالثورية فصارا عماد تشكيل الحكومات رغم حجمها الضئيل.
خطابهما الثوري وضع النهضة في صف الفاسدين، فمنعاها من فرض رئيس حكومة من صفها، فقبلت ولكنهما عجزا عن تكوين حكومة دونها، فعادا إليها صاغرين، ففرضت كثيرًا من شروطها في حكومة الفخفاخ لكن سقوط حكومة الفخفاخ بتهم فساد واستغلال الموقع والمعلومة الممتازة خرب الاتفاق بين النهضة وهذين الحزبين، فردا الفعل بالسعي إلى عزل رئيس البرلمان (رئيس الحزب) ولم يكن ذلك ضمن أجندتهما ولكنهما التحقا (أو استبقا) أجندة الحزب الفاشي واتفقا على عريضة سحب الثقة.
أدى الاتفاق مع الفاشية إلى تبرئة حزب النهضة المتهم بالتحالف مع الفساد، ويمكن الآن القول إن الجميع وضع يده في يد الفساد لكن بدرجات، ففساد حزب القروي (قلب تونس) يبدو فسادًا فرديًا غير معاد للديمقراطية (مسألة تهرب ضريبي لا تشمل نواب الحزب بل تقف عند رئيسه الذي لم يدخل البرلمان)، بينما انكشف تحالف الحزبين الثوريين مع حزب فاشٍ معاد للديمقراطية، وعشية سقوط اللائحة تبدو فضيحة الحزبين غير قابلة للقياس السياسي لأن آثارها تظهر في قادم الأيام ولن يمكن لكليهما الحديث عن ثورية تتحالف مع الفاشية ولن يمكنهما بالتبعية أن يتهما النهضة بالتحالف مع الفساد، فهما حليفا الفاشية وحليفا الفخفاخ الذي يبحث الآن عن مخارج من القضاء.
في الأثناء نظف الغنوشي حليفه الجديد، إذ وضعه في صف الدفاع عن الديمقراطية برفض التحالفات الفاشية رغم كونه سليل المنظومة القديمة، لقد فرز الغنوشي من المنظومة حليفًا متينًا يمكنه السير معه مسافات أخرى قادمة وضرورية منها فرض شروط تشكيل الحكومة القادمة أو إسقاطها في البرلمان.
الحكومة القادمة تمر بالقوة من مكتب الغنوشي
الذين رفضوا سحب الثقة يملكون وحدهم أن يمنحوا الثقة للحكومة القادمة، فهذا هو ميزان القوى الجديد الذي خرج من جلسة سحب/منح الثقة، لقد صلب عود جبهة برلمانية قادرة على التفاوض من موقع قوة، ويمكنها أن ترسل رسائل قوية إلى المكلف الجديد وإلى من كلفه.
نظريًا لن تمر حكومة لا يمنحها الغنوشي وفريقه المتآلف ثقته، ولن يمنحها إلا بشروطه وقد تكون شروطه أعلى من طلباته في حكومة الفخفاخ، وسيطوف المكلف طويلًا ببيت الغنوشي قبل أن يخضع أو يعلن تخليه، ليصار إلى حل البرلمان وهو الاحتمال الأسوأ لمن خسر.
قبل ذلك ما زال بإمكان الغنوشي أن يستبق (بعد العطلة البرلمانية شهري 8 و9) بتعديل القانون الانتخابي وفرض العتبة وإسقاط نظام أكبر البواقي الذي جاء بنواب إلى البرلمان لا سند شعبي لهم، وله أيضا لو أراد (أقول لو) أن يبني جبهة انتخابية مع حزب القروي والائتلاف ويدخل مكتسحًا لبرلمان جديد بلا فاشية وبلا ثوريين مزيفين.
نظريًا لن تمر حكومة لا يمنحها الغنوشي وفريقه المتآلف ثقته، ولن يمنحها إلا بشروطه وقد تكون شروطه أعلى من طلباته في حكومة الفخفاخ
حسابيًا أصبح المكلف تحت ضرس الغنوشي يمكنه أن يسقطه كما يمكنه أن يصادق على حكومته تحت يافطة المصلحة الوطنية، لكن حديث المصلحة الوطنية يقتضى تنازلات المكلف أيضًا وتنازلات من كلفه، وكل كبر سياسي لا يقرأ التوازنات الجديدة يدفع ثمنه على الحصيرة كما يقول المثل التونسي أي مباشرة وبلا تأجيل.
هل كان الغنوشي يملك كل هذه الرؤية أو الاستشراف وهو يقبل عرض نفسه على تصويت الثقة، يبدو أن أحاديث كثيرة وتفاهمات جرت خلف الكواليس وأن التحالف الذي تمتن اليوم كان يجهز بالتوازي مع الفرح الإعلامي الطفولي بإهانته مما أعطاه سبقًا سياسيًا غاليًا دفع خصومه وفي الحقيقة أعداءه الأزليين إلى زاروب ضيق نرجح أن سينتهي بتشتتهم، وستصلنا في قادم الأيام أنباء انفجار التحالفات مع الفاشية، وهذه مكاسب فوق البيعة للغنوشي.
وجه لوجه مع الرئيس
الغنوشي في مواجهة الرئيس بندية لا تفضل فيها من الرئيس على مرؤوس، يقول لسان اللحظة لقد استعدت مبادرة تشكيل الحكومة بمناورة دستورية ولكن لا يمكنك فرض حكومة من خارج البرلمان ومن خارج الأحزاب، ومختصر القول تعال نتفق على تسيير البلد بندية ولا فضل لك، فإن لم تفعل لن يكون على البرلمان وحده (وهو تحت سيطرتي) مسؤولية تحمل عبء الاضطرابات الاجتماعية القادمة بلا حكومة، سأحملك قسطك من كل اضطراب.
طبقة رأس المال تراقب الوضع وتحدد مواقع القوة لتنحاز إليها وتحمي مصالحها
هناك احتمال لا يزال بعيدًا، لكن تجديد البرلمان بانتخابات سابقة لأوانها يمكن أن يفرز كتلة نيابية قادرة على سحب الثقة من الرئيس بجرم مخالفة الدستور وأعتقد أن خبراء الدستور والرئيس أحدهم لا يجهلون ذلك.
سنسمع خطاب المصلحة الوطنية كثيرًا في الأيام القادمة، لكن إذا ارتفعت نبرة الوطنية سنعرف أنها غطاء تفاوضي يغطي التنازلات ويخفي الكبر السياسي، وقد يمنح الغنوشي من موقع قوي غطاءً سياسيًا للرئيس ليتصرف كرأس وحيد للسلطة ولكنه يعطي أكثر مما يأخذ ليبقى في مكانه.
ننتظر اللقاء الأول بين رئيس برلمان عائد بقوة ورئيس لا يملك من أمره إلا القليل، وسيدفع بدوره ثمن سكوته على عربدة الفاشية وحلفائها قبل أن ينحازوا إليها جهرة فيسكت عليهم جميعًا وينتظر جني عربدتهم.
في الأثناء فإن طبقة رأس المال تراقب الوضع وتحدد مواقع القوة لتنحاز إليها وتحمي مصالحها وسنتجه إلى مصالحات تاريخية لم نكن نراها لما اعتقدنا أن خطاب الثوريين حقيقة واقعية.
نختصر في جملة أخيرة: لقد منح أعداء الغنوشي للغنوشي حياة سياسية جديدة، ولعله الآن يكتب في أجندته الصغيرة “لا عزاء للأغبياء”.