يمرّ لبنان بظرف صعب على مختلف الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ويتفاعل معه، بطبيعة الحال، كل الجيران في الإقليم، لأغراض وبطرق، كثيرًا ما تتجاوز شرط “العلاقات الدولية” القائم على المصالح المشتركة، إلى الهيمنة وتصفية الحسابات.
ومن بين الجيران في الإقليم، ذلك الجار المفروض بقوة الأمر الواقع “إسرائيل”، الذي تقاطع التصعيد العسكري ضده مع الانفجار المروع في مرفأ بيروت، فكيف ينظر هذا الجار إلى تطور الأوضاع في لبنان؟
الأولوية للأهداف الإيرانية
وضعت دولة الاحتلال لنفسها هدفًا مرحليًا منذ بداية التدخل الإيراني في سوريا ميدانيًا، وهو، كما يترجم عن العبرية إلى العربية نصًا: “منع إيران من التموضع في سوريا”، إذ لا يبدو أن إيران، ورغم نجاحها، مع حلفاء آخرين، في تثبيت نظام الأسد، تنوي الخروج من سوريا.
بل على العكس من ذلك تمامًا، فقد نشأ تبويبٌ بحثي جديد يرصد ما يسمى “التنافس الروسي الإيراني” على الموارد السورية بعد الحرب، وهو جزء، بطبيعة الحال، من مخطط التوسع الإيراني (الطائفي) في المنطقة، الذي يشمل عددًا أكبر من العواصم العربية، لذلك فإن “إسرائيل”، في ضوء معادلتها الداخلية للأمن القومي، ترى أن ذلك التموضع، وهي مفردة دالة وموحية بالاستقرار، خطر إستراتيجي، يضاف إلى قائمة المخاطر الأخرى في المنطقة: تنامي النفوذ التركي واحتمالية تصنيع إيران القنبلة النووية وحماس وحزب الله والجماعات الإسلامية المتطرفة.
لعلك تسأل الآن، إذًا ما علاقة لبنان بهذه المعادلة؟ والإجابة، أنه، ورغم الادعاءات النظرية، فإنه يصعب الفصل “عضويًا” بين المليشيات اللبنانية التابعة لحزب الله في سوريا والمليشيات الإيرانية في نفس الدولة، ومن ثم، فإن الضربات الجوية الإسرائيلية قد تطال عناصر حزب الله هناك.
ورغم تدرب الجيش الإسرائيلي الدؤوب على حرب شاملة متزامنة على كل الجبهات وغير متماثلة، فإنه لا يفضل، كما سنفصل لاحقًا، الدخول في حرب مع حزب الله خلال الصدام مع الإيرانيين في سوريا، خوفًا من اندلاع هذه الحرب الحاسمة، خاصة بعد ما رآه من آثار استبسال عناصر الحزب خلال معركة يوليو/تموز 2006.
المساعي الإيرانية المكثفة للتموضع في سوريا، وعدم إمكانية الفصل بين المليشيات الإيرانية واللبنانية تعزز فرص اندلاع الحرب الشاملة
وفي نفس الوقت، فإن الإيرانيين الذين تكبدوا خسائر بشرية فادحة على يد الإسرائيليين في سوريا خلال الأعوام الأخيرة، ما زالوا يحاولون شرعنة تموضعهم في سوريا سياسيًا ومأسسته ورفع الحرج عن نظام الأسد الذي لا يستطيع مواجهة “إسرائيل” وحيدًا، ولا يرغب في ذلك، خاصة في ظل التنسيق بين موسكو وتل أبيب، وهو ما تجلى خلال زيارة الجنرال محمد باقري قائد أركان الجيش الإيراني، إلى سوريا مؤخرًا، التي أسفرت عن توقيع اتفاقية التعاون في مجال الدفاع الجوي.
المساعي الإيرانية المكثفة للتموضع في سوريا وعدم إمكانية الفصل بين المليشيات الإيرانية واللبنانية هناك، بالإضافة إلى عوامل أخرى، تعزز فرص اندلاع الحرب الشاملة، التي لا ترغب فيها كل الأطراف، وقد رأينا ذلك عندما قصفت “إسرائيل” إحدى منظومات الدفاع الجوي الإيرانية التي وصلت إلى مطار دمشق لتوها، منذ أسبوعين بالضبط، فقتلت عنصرًا لبنانيًا تابعًا لحزب الله، ما دفع الحزب للتوعد بالثأر من “إسرائيل”، بشكل حقيقي وليس صوريًا، كما حدث الصيف الماضي، وهو بذلك، يحاول أن يؤدي دوره أيضًا في الدفاع عن طهران التي تتكفل بميزانية الحزب، كما اعترف الأمين العام حسن نصر الله.
وفي خضم هذه المعادلة المعقدة، تعتبر “إسرائيل” ضرب النظام السوري نفسه من نافلة الفعل والنفوذ هناك، إذ تعتبر قصف أهداف نظام الأسد جزاءً وفاقًا له على تركه البلاد مرتعًا للمليشيات الشيعية، حتى إننا نجد، عقب إفشال كل محاولة شيعية، لبنانية أو إيرانية، للانتقام من “إسرائيل” عبر سوريا، قصفًا تاليًا لمواقع النظام السوري، رغم محاولة الأسد وجيشه النأي بنفسه عن هذه الصراعات، ولو بالبيانات، وهي نفس المعادلة التي تحاول “إسرائيل” فرضها على حماس في قطاع غزة أيضًا.
“حزب الله”
تحتفظ “إسرائيل” لنفسها بقوة نيرانية جوية مدمرة، تضمن لها تفوقًا حاسمًا على خصومها وتمضي في تطويرها يومًا بعد يوم، بإضافة مزيد من مقاتلات “إف 35” الأمريكية، التي حصلت منها على 4 طائرات جديدة هذا الأسبوع، لترفع عدد أسطولها من هذا الطراز إلى 25 مقاتلة، ضمن صفقة تصل إلى 50 مقاتلة، تخطط إلى رفعها لـ75 مقاتلة.
تضمن هذه الترسانة وغيرها لـ”إسرائيل” كفاءةً تدميريةً هائلةً، وهي بالفعل تخطط، كما تقول، لإعادة لبنان إلى العصور الوسطى في “حرب الشمال الكبرى” القادمة، ولكنها لا تضمن لها بالضرورة ردع الخصم الذي يجيد “الحرب غير المتماثلة”، عن تكبيدها خسائر فادحة، بشريًا وماديًا، كما لا ترغب “إسرائيل” في إشعال فتيل الحرب بوقت تعاني خلاله هي الأخرى من أزمات سياسية واقتصادية غير مسبوقة.
لذلك، فإن “إسرائيل” حاولتْ إرسال رسائل تهدئة متتالية بعد تورطها في مقتل العنصر اللبناني إلى حزب الله، كانت أولى هذه الرسائل عبر روسيا، وقالت خلالها، ما معناه، إنها التزمت منذ الصيف الماضي بالخط الأحمر الذي رسمه نصر الله، وحاولت مرارًا تجنب استهداف عناصر الحزب في سوريا خلال قصف الأهداف الإيرانية، فيما أرسلت الثانية عبر الأمم المتحدة، وقد حملت نبرة تخويفية من تبعات الحرب المحتملة حال أقدم حزب الله على الإيغال في دماء الإسرائيليين.
تستهدف أيضًا هذه الرسائل امتصاص غضب حزب الله وإنهاء حالة الاستنفار الأمني على جبهة الشمال، التي زارها كل قادة الجيش الإسرائيلي، بهدف تفقد التدابير الاحترازية ودعم الجنود نفسيًا، بعد أن أبدى عدد منهم تململًا واضحًا من حالة الاستنفار المفتوح والخوف من الانتقام اللبناني مجهول المعالم والسقف والتوقيت، في ظل ظروف مناخية صعبة أصلًا، كما قال روي بن يشاي.
ما هو غير مسموح، أن يتذرع الحزب بوجود عناصره مع العناصر الإيرانية، لحماية التموضع الإيراني في سوريا
وقد حاولت “إسرائيل”، كما يرجح يوسي هوشاع، من يديعوت أحرونوت، “فبركة” قصة عن محاولة عناصر من “حزب الله” عبور السياج الفاصل على الحدود، وتنفيذ عملية انتقامية نهارًا، بصواريخ مضادة للدبابات (كورنيت) أو عبوة ناسفة، تنتهي بفرارهم، للإيحاء بأن الحزب حاول الانتقام وفشل، لدفع نصر الله لطي صفحة هذا العنصر المقتول، على غرار التمثيلية التي حدثت لاحتواء تصعيد الصيف الماضي.
كل هذا مسموح بالنسبة لـ”إسرائيل”، أن تعتذر لـ”حزب الله” ضمنيًا عن قتل عناصره في سوريا أو أن تتفادى عناصر الحزب في سوريا، ما داموا لا يتمركزون في مواقع إستراتيجية أو يحاولون تهريب شحنات سلاح نوعية عبر الحدود، أو أن “تفبرك” قصصًا للحفاظ على ماء وجه نصر الله أو أن تتحفظ حتى عن ذكر قتلى الحزب المستهدفين في سياق قصف المواقع الإيرانية لعدم إحراج الحزب، ولكن ما هو غير مسموح، أن يتذرع الحزب بوجود عناصره مع العناصر الإيرانية، لحماية التموضع الإيراني في سوريا، حينئذ، يكون الأمر، هو ضرب اللبناني والإيراني معًا، بغض النظر عن العواقب، كما قالت القناة 12 العبرية.
وفق نظرية حسن نصر الله عن الخطوط الحمراء للحزب، فإنه نجح في إجبار الإسرائيلي على الوقوف على “رجل ونص” كما قال الصيف الماضي، وإرباك خطط الاحتلال الميدانية، لكنه، لم يرد بعد على مقتل عنصره بالقرب من مطار دمشق، وعلى قصف الاحتلال قرية الهوبارية داخل لبنان، وعلى معاودة طيران الاحتلال المسير اختراق سماء جنوب لبنان، وعلى مقتل 4 عناصر، يرجح أنهم على صلة بالحزب، حينما حاولوا اختراق الحدود الإسرائيلية من جهة الجولان، يوم الإثنين الماضي.
الولايات المتحدة
هناك اعتقادٌ سائد في “إسرائيل”، مفاده أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تقدم على تنفيذ عمليات نوعية ضد الأهداف الإيرانية في الشرق الأوسط وأذرعها في المنطقة، بما فيها حزب الله، تعويضًا وتخفيفًا لأضرار إستراتيجية انسحاب قواتها من الشرق الأوسط. كما تعتقد القيادة الإسرائيلية أن بمقدورها، وعليها، الاستفادة من آخر دقيقة في فترة حكم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ذي النوايا العدائية تجاه إيران، قبل مجيء رئيس آخر قد يحمل نزعات أقل عدائية نحو طهران، وهو ما قد ينسحب على حزب الله أيضًا.
عبرت واشنطن نفسها عن استعدادها للعب هذا الدور، عندما تحرشت بطائرة الركاب الإيرانية، المتجهة إلى بيروت، عقب حملة الهجمات الإلكترونية الإسرائيلية على إيران، واستهداف العناصر الإيرانية واللبنانية، في دمشق مباشرةً، وللمفارقة، فقد رجح التليفزيون الإيراني في بداية الأمر أن تكون الطائرتان المقتربتان من الطائرة المدنية تابعتين لسلاح الجو الإسرائيلي، لا الأمريكي.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، فقد أرسلت رئيس أركانها، سيئ السمعة، مارك ميلي، إلى “إسرائيل” غداة هذا التصعيد، حيث التقى هناك بطيف واسع من القادة السياسيين والعسكريين واللوجيستيين، وهو ما فهم أنه ضوء أخضر من واشنطن لتل أبيب في معركتها على الاتجاه الشمالي.
وقد تحدثت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عما أسمته “إنزال نصر الله” على الخط، كنايةً عن حصول تل أبيب على موافقة واشنطن على اغتيال نصر الله، كي يكتمل تفكيك “مثلث الرعب”: بهاء أبو العطا وقاسم سليماني وحسن نصر الله، قبل نهاية عام 2020، وذلك حال قرر “حزب الله” خوض المعركة، ورأت تقديرات الاحتلال أن عواقب التخلص من الأمين العام للحزب، وقائده التاريخي، ونشوب الحرب ستكون أخف وطأة، إذا ما قورنت بقيمة اغتياله.
غزة
بينما تعمل “إسرائيل” على إدارة توازناتها شمالًا، لتحقيق أكبر المكاسب والخروج بأقل الخسائر، فإنها تخشى من، أو تحرص على ديمومة الاستقرار الهش في جبهة غزة جنوبًا، تفاديًا لانفلات الأمور ومقابلة أسوأ هواجسها: أن تحارب الإسلاميْن السني والشيعي، بكل ما يملكان من رصيد شعبي وقوة عسكرية، في نفس الوقت.
في ذروة التصعيد، زار قائد أركان الجيش، أفيف كوخافي، الجبهة الجنوبية، برفقة قائد المنطقة الجنوبية هاليفي وقائد فرقة غزة تولدانو، لبحث أحد المشاريع الدفاعية التي تعتمد على استخدام التكنولوجيا متعددة الأبعاد والطبقات، لإدارة الحدود مع حماس ومراقبتها على مدار الساعة.
فوجئ المراقبون العسكريون بتنفيذ الولايات المتحدة الأمريكية وعدها لـ”إسرائيل” بشراء منظومات “القبة الحديدية” المصنوعة خصيصًا للتصدي لصواريخ غزة
كما أسقطت القبة الحديدية صاروخًا من غزة أدى إلى تفعيل صافرات الإنذار قبل أن يتسبب في أضرار بشرية أو مادية، على أي من مدن “غلاف غزة”، وردت بقصف “مهندس” على مقاس التهديد، والتفاهمات المرحلية مع حماس والجهاد، والسياق الإقليمي العام.
وقد فوجئ المراقبون العسكريون بتنفيذ الولايات المتحدة الأمريكية وعدها لـ”إسرائيل” بشراء منظومات “القبة الحديدية” المصنوعة خصيصًا للتصدي لصواريخ غزة، الأقل تطورًا من نظيرتها لدى “حزب الله”، حيث هبطت أكبر طائرة شحن في العالم بمطار “بن جوريون” لحمل المنظومة إلى واشنطن، في خطوةٍ ثنائية الدلالة عن: الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، ونجاعة الدعاية اليهودية للأداء الدفاعي جنوبًا، وعدم تأثره بما يجري في الشمال.
مرفأ بيروت
نفت “إسرائيل” بشكل شبه رسمي أن تكون على علاقة بالحادث المروع الذي أودى بحياة العشرات وأدى إلى إصابة المئات، بل وعرضت المساعدة الطبية، مستغلةً الفرصة للترويج لمستشفياتها “التي تعد من الأفضل عالميًا” كما قال أوفير جندلمان، المتحدث العربي باسم الحكومة العبرية.
لكن عددًا من الشواهد تقول خلاف تلك الرواية، ولا تستبعد ضلوع تل أبيب في هذه العملية، منها أنه، من البديهي، ألا تعترف “إسرائيل” بدورها في هكذا تفجير بميناء مدني، وأن نتنياهو سبق وحذر من نفوذ “حزب الله” في هذه المنطقة مستعينًا بالخرائط على عادته، وأن ترامب لمح إلى تعمد إحدى الجهات تفجير الميناء “عسكريًا”، بالإضافة إلى تشابه هذا التفجير مع التفجيرات التي أشرفت عليها “إسرائيل” في إيران والعراق، كما يؤكد فراس إلياس، فيما ذهب ريتشارد سلفرستاين، الصحفي “الإسرائيلي” إلى أن الاحتلال فجر مخزن “حزب الله” الملاصق للميناء، بعبوة ناسفة، دون التأكد من وجود “نترات الأمونيوم”، فصعق الجميع، بما فيهم قيادات “إسرائيل” من نتائج العملية، وآثروا الصمت.
وعلى مستويات سياسية أقل رسمية، فقد أبدى كثير من الإسرائيليين شماتةً واضحةً، وفرحًا عارمًا بما حدث في بيروت يوم الثلاثاء، مثل إيلان سموتريتش وزير النقل والمواصلات السابق وأحد أقطاب التشدد اليهودي، مبررين ذلك بالخصومة مع المجتمع اللبناني، ومهاجمين الحكومة على عرضها المساعدة، ومعتبرين أنه يوم مقدس، مثل “يوم الغفران”.
وبغض النظر عما إذا كانت “إسرائيل” ضالعةً في هذه الكارثة أم لا، فإن حالة الارتياح والنشوة المهيمنة على الرأي العام هناك تعود إلى تقليل درجة الاستنفار على الحدود نسبيًا، خاصة بعد أن أجل نصر الله كلمته المنتظرة، ومع استبعاد أن يواصل الحزب تصعيده، وتوريط لبنان المغدور في معركة كبرى، في ظل حالة الانقسام الداخلي.. فهل يصر الحزب على الانتقام أم يحترم حالة الحزن العامة كما ترجح دولة الاحتلال؟