رغم مرور الساعات، فإن أصداء الفاجعة لم تغادر الأجواء وصدمة المشهد لم تفارق الوجوه، ولا تزال بيروت المنكوبة تبحث عن ناجين تحت ركام مرفأها أو ما بقي منه، وعن أجوبة مبهمة لأسئلة كثيرة غامضة ما زالت معلقة، كيف ولماذا وقع ما وقع؟ ومن يتحمل مسؤولية وفاة 137 شخصًا على الأقل وإصابة 5 آلاف آخرين وتشرد مئات الآلاف؟
تفسيرات هنا وآراء هناك، اجتهادات تغلف الحقيقة بملصقات الغموض، وسواء تعلق الأمر بحادث عرضي نتيجة إهمال وفساد وفق الشواهد المتاحة، أم بهجوم خارجي كما تروج له بعض الأصوات، فقد ضربت هذه الكارثة غير المسبوقة بلدًا كان يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة، فقدت خلالها عملتها الوطنية أكثر من 80% من قيمتها وازدادت معدلات الفقر بصورة غير مسبوقة.
ثم جاء فيروس كورونا المستجد، ليعمق الجراح، التي زادها التوتر الأمني السائد على الحدود مع “إسرائيل” خطورة، لتسيطر بذلك أجواء انعدام الثقة بين اللبنانيين والسلطات السياسية المتهمة بسوء الإدارة وبالتساهل مع الفساد، وفي خضم هذه الأجواء ووسط ارتفاع أصوات مشككة مسبقة بقرارات السلطات اللبنانية سارعت الحكومة لاحتواء الأمر بسلسلة من الإجراءات العاجلة لإدارة كارثة المرفأ، فتحت تحقيقًا وتعهدت بإعلان نتائجه في غضون خمسة أيام.
وأمام هذه المعطيات الصعبة انبرت العديد من الدول لتقديم يد العون والمساعدة للبنانيين، عرب وأجانب، الكل سارع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، للخروج من هذه الأزمة التي أحدثت شرخًا كبيرًا في جدار الإنسانية، ليجد لبنان نفسه ودون سابق إنذار قبلة دعم عالمي لم يشهده منذ فترات طويلة.
وبينما كان العالم يغض الطرف عما يدور في الداخل اللبناني من أزمات وصراعات على المستويات كافة طيلة السنوات الأخيرة، إذ به اليوم ينهض لدعم الشعب الذي كُتب عليه الأنين، واقعًا بين مطرقة الفساد وسندان الكوارث، وهو التحرك الذي يضع الدبلوماسية اللبنانية في موقف حرج للغاية، على الأقل أمام شعبها الذي دفع غاليًا ثمن فشل تلك الدبلوماسية التي أوقعت البلاد في عزلة شبه تامة.
دعم عربي
سارعت العديد من الدول العربية لتقديم حزمة من المساعدات اللوجستية والاقتصادية للبنان، البداية كانت من العراق الذي تعهد بإرسال طائرة محملة بمساعدات طبية عاجلة، فيما أكد رئيس الحكومة استعداد بلاده لتزويد بيروت بالمواد النفطية اللازمة خلال الفترة المقبلة.
كما أرسلت الدوحة أول طائرة عسكرية على متنها مساعدات طبية عاجلة، وذلك أمس الأربعاء، بعد ساعات قليلة من وقوع الانفجار، ومن المقرر أن يعقبها 3 طائرات أخرى محملة بأجهزة طبية ومستلزمات لبناء مستشفيين ميدانيين، طاقة كل منهما 500 سرير، بحسب وكالة الأنباء القطرية.
وعلى الجانب المصري، أعلن وزير الإعلام أسامة هيكل، إعداد طائرتين تحملان العديد من المساعدات بناء على تعليمات الرئيس عبد الفتاح السيسي، بجانب إقامة مستشفى ميداني طبي مجهز في العاصمة اللبنانية للمشاركة في علاج المصابين، ويذكر أن هناك مصريين ضمن ضحايا التفجيرات فيما لم يستدل بعد على مواطن مصري ثالث في عداد المفقودين حتى كتابة هذه السطور.
الكويت وتونس وبعض الدول العربية الأخرى قدمت العديد من المساعدات الطبية والأغذية الضرورية لتعويض الخسائر الناجمة عن التفجيرات التي أطاحت بأكبر مخزن صوامع للحبوب في البلاد، الأمر الذي ينذر بأزمة غذائية في غضون أقل من شهر حسب تصريحات الحكومة اللبنانية.
تنفيذا لتوجيهات سمو أمير البلاد المفدى بإرسال مساعدات طبية عاجلة إلى لبنان، وصلت طائرات تابعة للقوات الجوية الأميرية القطرية إلى مطار رفيق الحريري الدولي، تحمل على متنها مساعدات وإمدادات طبية عاجلة، ومستشفيين ميدانيين مجهزين بالكامل لعلاج المصابين جراء انفجار مرفأ بيروت.#قنا pic.twitter.com/XGQa2RRLwt
— وكالة الأنباء القطرية (@QatarNewsAgency) August 5, 2020
مساعدات دولية
وعلى المستوى الدولي، أعلنت عدد من عواصم دول العالم دعمها للشعب اللبناني في مصابه، على رأسها فرنسا التي من المقرر أن يتوجه رئيسها، إيمانويل ماكرون، اليوم، لزيارة بيروت، لمناقشة سبل الدعم المقترحة لعبور تلك المرحلة، من بينها إرسال 55 رجل أمن و6 أطنان من المستلزمات الطبية، فيما توجه رئيس الحكومة حسان دياب بالشكر للحكومة الفرنسية على وقوفها إلى جانب بلاده في تلك الأزمة، على حد قوله.
كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداد بلاده لتقديم المساعدات في كل المجالات وفي مقدمتها الصحة، وذلك على ضوء اتصال هاتفي أجراه مع نظيره اللبناني عقب وقوع الانفجار، بالإضافة إلى إرسال طائرة عسكرية تركية محملة بالعديد من المساعدات.
وفي السياق ذاته تساعد أنقرة عن طريق هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات في عمليات البحث عن ناجين، وسط الأنقاض والحطام، هذا بخلاف العمل على تقديم الطعام للمحتاجين والمتضررين من اللبنانين بحسب مصطفى أوزبك، المسؤول بالمؤسسة التي مقرها إسطنبول.
حزمة أخرى من المساعدات بقيمة 5 ملايين جنيه إسترليني (6.6 مليون دولار)، قدمتها بريطانيا، تشمل مساعدات في عمليات البحث والإنقاذ ودعمًا طبيًا، فيما أرسلت قبرص طائرتين هليكوبتر و10 رجال إنقاذ وثمانية كلاب للإنقاذ، بجانب تعهد التشيك إرسال فريق يضم 36 فردًا.
وتعهدت الدنمارك كذلك بحزمة مساعدات بقيمة 12 مليون كرونة دنماركية (1.91 مليون دولار) لأعمال الإغاثة، بينما أكدت ألمانيا أنها سترسل فريق إنقاذ من 47 فردًا، كما ستقدم مليون يورو مساعدات فورية عبر الصليب الأحمر الألماني، إضافة إلى مليون يورو مساعدات مقدمة من المجر.
أما إيران فقد تعهدت بإرسال 9 أطنان من الأغذية، فضلًا عن أدوية ومعدات طبية وأطقم طبية ومستشفى ميداني، ونفس الحزمة تقريبًا تعهدت بها إيطاليا، بينما أعلنت هولندا إرسالها فريق بحث وإنقاذ يضم 67 طبيبًا وممرضًا ورجل إطفاء وضابط شرطة.
وتتواصل المساعدات الدولية الممنوحة للبنان، فها هي النرويج تعهدت بإرسال 40 طنًا من المستلزمات الطبية و25 مليون كرونة نرويجية (2.79 مليون دولار) مساعدات مالية، فيما كشفت بولندا عن إرسالها 39 فردًا من فرق الإنقاذ لديها، للمساعدة في التنقيب عن الناجين والمصابين والضحايا تحت أطلال المرفأ.
التحالفات الدولية كان لها دور هي الأخرى في حزمة الدعم المقدمة، حيث تعهد الاتحاد الأوروبي بإرسال العشرات من رجال الإطفاء المدربين، وذلك ضمن تفعيل آلية الحماية المدنية بالاتحاد الأوروبي، التي تهدف للمساعدة بعد الكوارث الطبيعية، بناء على طلب من لبنان للحصول على المساعدة والدعم.
كذلك البنك الدولي أعلن استعداده للعمل مع شركاء لبنان لحشد التمويل من القطاعين العام والخاص لإعادة الإعمار، كاشفًا استعداده برمجة الموارد الحاليّة والعمل بجدية لاستكشاف مصادر تمويل إضافية بهدف تعويض المتضررين من تلك الكارثة.
مساعدات مصريه للبنان والمركز الطبي المصري هناك مفتوح لاستقبال الحالات ربنا معاكم ??❤?? pic.twitter.com/UDNimjXoJY
— Ahmed (w bas) (@A_MOS2011) August 5, 2020
فشل الدبلوماسية اللبنانية
على مدار السنوات الماضية تعرض لبنان لأمواج متلاطمة من الهزات السياسية والأمنية العنيفة نتيجة التناحر السياسي الطائفي بين مختلف التيارات السياسية هناك، انعكس ذلك بالتبعية على الوضع الاقتصادي الذي كان على مشارف الانهيار قبيل الانفجار.
وكان ينظر للدولة اللبنانية لعقود طويلة على أنها مختبر مصغر لأوضاع منطقة الشرق الأوسط بكل تحولاتها وتقلباتها، ومرآة تعكس مستوى ترمومتر حرارة الإقليم برمته، الذي يبدو أنه بات على المحك بينما يقترب المختبر اللبناني نفسه من الانفجار.
الفشل الذي منيت به بيروت طيلة العقود الماضية، بسبب تفشي الفساد بشتى صوره، وكان من إفرازاته غياب الدبلوماسية اللبنانية وتراجعها عن أداء مهامها بالشكل الذي يعمل لصالح الدولة والشعب، دفع بالبلاد إلى أتون العزلة ومستنقع الانعزال عن العالم.
استقالة وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتى أول أمس، قبل الحادث ب 24 ساعة فقط، كأنه كان يقرأ من الغيب. بيان استقالته يصلح كمانيفستو لإصلاح لبنان والله pic.twitter.com/RglCXhsVv5
— Ibrahim J. Negm (@IbrahimNegm) August 5, 2020
وعليه فإن القارئ المتابع لتطورات المشهد اللبناني في الآونة الأخيرة ورغم ما يتعرض له من درجات مرتفعة من السخونة وصلت بعضها لحد الاحتراق، التزم العالم – أو بالأحرى الغالبية العظمى -، الصمت، حيال حالة الفوران التي يشهدها الشارع السياسي هناك.
أستاذة العلوم السياسية والإدارية اللبنانية، لور أبي خليل، الباحثة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد، تعتبر أن تفشي الفساد في لبنان يعود إلى فقدان الثقة في النظام اللبناني وعدم التمكّن من بسط سلطة القانون، منوهة أنه ووفق منظمة الشفافية العالمية باتت شرعية الدولة مهددة.
آبي خليل في مقال لها كشفت بعض أوجه الفساد التي أودت بالبلاد إلى تلك المرحلة الحرجة، منها أن تقاسم السلطات بين التيارات الطائفية المختلفة (المحاصصة) يروج للعمل لصالح أجندات أخرى غير مصلحة الدولة اللبنانية، وهو ما انعكس بالضرورة على الاستثمارات الأجنبية في ظل عدم وجود سياسات اقتصادية وطنية جيدة.
وأشارت الخبيرة في مكافحة الفساد أن النظام السياسي في لبنان يخضع لما أسمته “حالة انتشار الفساد السياسي” وهو ما أدى في النهاية إلى إضعاف فاعلية الدولة وكفاءة أجهزتها في التصدي لهذه الظاهرة، ومن ثم عانت أركان الدولة من هشاشة مطلقة لا تقوى على مواجهة أي أزمات، داخلية كانت أو خارجية.
ومن ثم فإن الزخم العربي والدولي تعاطفًا ودعمًا مع الشعب اللبناني جراء كارثة المرفأ يكشف وبشكل واضح أوجه القصور في الدبلوماسية اللبنانية التي فشلت في استجلاب دعم العالم في أحلك الظروف التي تمر بها البلاد، بينما نجحت الكارثة في تحقيق هذا الهدف المنشود.
هذه الرؤية عبرت عنها وبشكل واضح استقالة وزير الخارجية اللبناني، ناصيف حتى، التي تعكس بحسب مصادر دبلوماسية، فشل دبلوماسية الدولة في معالجة الأخطاء التي وقعت فيها وتسببت في تعميق الهوة مع العديد من الدول العربية والأجنبية، ما أوقع لبنان في عزلة كبيرة.
وفي الوقت الذي تعول فيه السلطات اللبنانية على موجة التضامن الدولي التي أثارتها الفاجعة، إلا أن اليوم التالي في بيروت سيبقى مفتوحًا على كل الفرضيات، فكلها قاتمة، فاللبنانيون الذين اختبروا المصائب والحروب في السابق يؤكدون أنهم لم يشعروا من قبل بهذا الكم من القنوط.