مطلع هذا الأسبوع، كانت أنظار اللبنانيين موجهة نحو ليدشندام إحدى ضواحي مدينة لاهاي بهولندا، لمعرفة قرار محكمة لبنان الخاصة التي تنظر في جريمة اغتيال رئيس وزراءهم السابق رفيق الحريري و21 شخصا أخر سنة 2004.
كان الجميع ينتظر قرار المحكمة الذي يتوقع أن يدين حزب الله ويحمله مسؤولية الاغتيال الذي غير شكل البلاد، لكن تفجير مرفأ بيروت حوّل الأنظار من المحكمة إلى المستشفيات التي عجزت عن استقبال جرحى وقتلى التفجير، كأن قدر اللبنانيين العيش تحت الصدمات المتواصلة.
تفجير ضخم أعاد مسألة الفساد وغياب الدولة وانعدام المسؤولية إلى الواجهة مجددا، كما أعاد أيضا الحديث عن مسؤولية حزب الله فيما وصلت له البلاد من دمار وتشضي، فما علاقة الحزب بمادة “نترات الأمونيوم” التي دمرت بيروت وأطفأت أنواره.
من جورجيا إلى موزمبيق
الانفجار الذي هز بيروت الثلاثاء وقُتل فيه 113 شخصا وجُرح أكثر من 4000 آخرين، تقول السلطات اللبنانية إنه وقع في مخزن بميناء بيروت كان به مخزون كبير من مادة نترات الأمونيوم، فيما قال الرئيس ميشال عون إن 2750 طنا من نترات الأمونيوم كانت مخزنة بطريقة غير آمنة في مستودع لنحو ست سنوات.
هذه المادة الكيميائية، كانت موجودة في حاوية سبق مصادرتها وخزنها في مخزن في المرفأ منذ سنوات، بأمر قضائي بناء على دعوى خاصة إثر خلاف بين المستورد والشركة الناقلة، وفق مدير الأمن العام اللبناني، اللواء عباس إبراهيم.
لم توجّه أصابع الاتهام إلى أي جهة بعد، لكن التحقيقات الأولية تشير إلى أن سنوات من التراخي والإهمال هي السبب الأبرز وراء هذا التفجير الضخم
تقارير إعلامية، رجحت أن الحاوية المحجوزة جاءت في سفينة أم في روسوس (MV Rhosus) التي كانت مملوكة لحظة احتجازها لرجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين، من مدينة خاباروفسك في سيبريا ويعيش في قبرص، وقد كانت تنقل شحنة من نترات الأمونيوم من جورجيا إلى موزمبيق.
وسبق أن قال موقع شيب أريستيد. كوم (شبكة تتعامل مع الدعاوى القانونية في قطاع الشحن)، في تقرير له إن سفينة روسوس، التي تبحر رافعة علم مولدوفا، رست في بيروت في سبتمبر/أيلول 2013 عندما تعرضت لمشكلات فنية أثناء الإبحار من جورجيا إلى موزمبيق وهي تحمل 2750 طنا من نترات الأمونيوم.
وقال إنه بعد التفتيش مُنعت السفينة من الإبحار، ثم تخلى عنها مالكوها بعد وقت قصير، مما دفع دائنين مختلفين للتقدم بدعاوى قانونية. وأضاف “بسبب المخاطر المتصلة بإبقاء نترات الأمونيوم على متن السفينة، قامت سلطات الميناء بنقل الشحنة إلى مستودعات الميناء”.
تعد نيترات الأمونيوم من مكونات الأسمدة التي تسمى الأمونترات، والتي يستعملها المزارعون في حقولهم، وهي منتجات غير قابلة للاشتعال ولكنها مؤكسدات، أي أنها تسمح باحتراق مادة أخرى مشتعلة، كما أنه من الصعب أن تنفجر لوحدها.
تتم صناعة هذه المادة بتكلفة قليلة عن طريق مزج الأمونيا وحمض النتريك، وهو مادة كيميائية صناعية تعد متوسطة الانفجار، وهي أقوى من البارود بأربعة أضعاف، بينما تتفوق عليها مادة “تي إن تي” في قوة الانفجار.
من المسيطر على المرفأ؟
لم توجّه أصابع الاتهام إلى أي جهة بعد، لكن التحقيقات الأولية تشير إلى أن سنوات من التراخي والإهمال هي السبب الأبرز وراء هذا التفجير الضخم، خاصة وأنه من غير المعقول تخزين مادة شديدة الانفجار في ميناء بيروت.
وسائل إعلام لبنانية، تداولت عقب التفجير رسالة يعود تاريخها إلى ديسمبر/كانون الأول 2017 موجهة من المدير العام للجمارك إلى قاضي الأمور المستعجلة في لبنان، في الرسالة طلب تحديد مصير كميات من “نترات الأمونيوم” موجودة في المخزن رقم 12 داخل مرفأ بيروت (مبنى رمادي كبير يواجه الطريق السريع الرئيسي بين الشمال والجنوب في المدخل الرئيسي للعاصمة) بعد مصادرتها من باخرة تحمل اسم “روسوس” عام 2014.
وحذرت الرسالة من الخطورة الناجمة عن بقاء هذه المواد في المكان الموجودة فيه وعلى العاملين هناك، كما تظهر الرسالة أرقاما وتواريخ لكتب سابقة قدمت منذ 2014 تتعلق بالشأن ذاته. ونقل تلفزيون “أو تي في” المحلي عن المدير العام لميناء بيروت حسن قريطم، قوله إن الجمارك وأمن الدولة طلبا من السلطات تصدير هذه المواد أو إزالتها، لكن “لم يحدث شيء”.
يتبين من هنا، وجود تقصير كبير وإهمال أكبر في مسألة التعامل مع الحاوية، لكن السؤال المطروح من المسيطر على مرفأ بيروت حتى نعلم المسؤول عن التقصير؟ الإجابة تحيلنا مباشرة إلى “حزب الله” فهو المهيمن على الحكم في بيروت والمسيطر الأبرز على الميناء وزاد نفوذه هناك في السنوات الأخيرة في إطار تعزيز هيمنة الحزب على كل مفاصل الحياة في لبنان.
ومن المعلوم للقاصي والداني أن تشكيل الحكومة اللبنانية لا يكتمل إلا بعد مخاض مرير قد يدوم سنوات، بسبب تعطيلات من كتل “حزب الله” وحلفائه، رغم أن الحزب عادة ما يفوز بوزارات غير سيادية مثل الصحة العامة ووزارة الشباب والرياضة ووزارة الصناعة، ربما حتى يبقى بعيدًا عن الاحتكاكات الشعبية المحتملة، إلا أن سطوته على البلد وقرارها ليست محل نقاش تقريبًا.
لـ”حزب الله” تاريخ في استخدام نترات الأمونيوم
التفجير، نتج عن انفجار كمية هائلة من مادة نترات الأمونيوم، هذا المؤكد إلى حدّ الآن، والمؤكد أيضا أن لـ”حزب الله” تاريخ كبير مع هذه المادة الخطرة، فقد خبر عناصر هذه الجماعة الشيعية المرتبطة ارتباطا عضويا مع إيران، جيدا استخدامات مادة نترات الأمونيوم في أكثر من واقعة.
فقبل أربع سنوات هدد الأمين العام للحزب حسن نصر الله في خطاب له بتفجير مخزون نترات الأمونيوم في حيفا، إذ قال حينها “سيكون مثل قنبلة نووية بالضبط.. أي صاروخ سيضرب الخزانات، يمكن له خلق تأثير مماثل للقنبلة النووية”.
علاقة حزب الله بنترات الأمونيوم لا تتوقف هنا، فقد سبق أن زوّد جهاز الموساد الإسرائيلي السلطات الألمانية بمعلومات تفيد باحتفاظ عناصر مرتبطين بحزب الله بمئات الكيلوغرامات من نترات الأمونيوم في مخزن في جنوبي ألمانيا، ما أدى لمداهمة قوات الأمن الألمانية للعناصر وضبطها.
عقب ذلك، أعلنت ألمانيا بشكل رسمي حظرها لأنشطة حزب الله على أراضيها، وشنت حملة أمنية في عدد من المدن ضد أنشطة الحزب ومنظمات ومساجد يعتقد أن لها صلات بالحزب. وقال وزير الداخلية الألماني، هورست سيهوفر، آنذاك، إن أنشطة حزب الله “تخرق القانون الجنائي وتعارض المنظمة مفهوم التفاهم الدولي”.
فضلا عن ذلك، سبق أن داهمت قوات الأمن البريطانية أربعة مواقع مرتبطة بحزب الله، وقامت باعتقال شخص، بعد الكشف عن عناصر تابعين للحزب يقومون بتخزين أطنان من نترات الأمونيوم في مصنع سري للقنابل في ضواحي العاصمة لندن.
أما في الكويت، فقد ضبطت السلطات هناك في أب/ أغسطس 2015، ثلاثة أشخاص على ارتباط بحزب الله، قاموا بتخزين 42 ألف رطل من نترات الأمونيوم، وأكثر من 300 رطل من المتفجرات، و68 قطعة سلاح، و204 قنابل يدوية، كبنية تحتية لهجوم باستخدامها.
في قبرص أيضا، ضبطت الأجهزة الأمنية، هناك، في شهر مايو/ أيار 2015، كمية تقدر بـ 420 صندوقا من نترات الأمونيوم تعود لعناصر من حزب الله وقامت بتفكيك البنية التحتية للهجوم المحتمل آنذاك. كما ضبطت السلطات التايلندية، في يناير 2012، 290 لترا من نترات الأمونيوم واعتقلت أشخاص منخرطين بالأمر على ارتباط بحزب الله.
سهوله الوصول إليها واستخدامها في صناعة القنابل، وقدرتها الكبيرة على التدمير فضلًا عن كونها مادة رخيصة مقارنة مع المواد شديدة الانفجار الأخرى، والأهم القدرة على شرائها من غير لفت الانتباه كونها مادة تستخدم لأغراض غير عسكرية، جعل “حزب الله” اللبناني ينتبه إلى هذه المادة مبكرًا ويستخدمها في أعماله المسلحة.
لا يمكن – قبل صدور نتائج التحقيقات – حسم من هي أكثر الجهات تورطًا بسفك دم بيروت، وهذا الاستعراض لا يهدف إلى اتهام تنظيم “حزب الله”، لكنها مساهمة في محاولة فهم من هم الفاعلون المؤثرون في الكارثة، والحزب هو سلطة نافذة ومسيطرة في لبنان، وهو بوصفه جزء أساسي من الحكومة، وأكثر جهة عسكرية -ربما أكثر حتى من الجيش اللبناني نفسه- معرفة بمخاطر هذه المادة ومآلات تركها بلا احتياطات أمنية في منطقة إستراتيجية بخطورة مرفأ بيروت، كما عبّر زعيم الحزب نفسه عن ذلك بصورة لا تقبل الشك، عندما وصف ما يحدث عند تفجير نترات الأمونيوم!