أثار الفيلم المصري “صاحب المقام” منذ الإعلان عن عرضه على منصة “شاهد” خلال أيام عيد الأضحى الماضي حالة من الجدل داخل الشارع الفني، ليس في مصر وحدها بل في بعض البلدان العربية كذلك، لما يتضمنه من رسائل فنية تعزف على وتر الصوفية وتقديس أضرحة الأولياء.
العمل الذي كتبه الصحفي المصري إبراهيم عيسى، المعروف عنه خصومته الشديد مع السلفيين وميوله الفكرية ذات التوجه الأقرب للتصوف، رغم أنه ليس الأول له إلا أنه الأكثر جدلا، ويعود ذلك بسبب مشاركة السعودية في عملية الإنتاج عبر مؤسسة “روتانا” هذا بخلاف اختيار منصة سعودية لعرضه الأولي.
“صاحب المقام” يمثل نقلة نوعية في المسار الفني والفكري للمملكة، والتي عرف عنها التشدد في تبني الأعمال التي تقترب من التصوف ومعتقدات الشيعة، الأمر الذي أثار الكثير من علامات الاستفهام حول هذا التغير الواضح في الخط العام، فهل تواصل السعودية مساعيها لغسل سمعتها الخارجية عبر المضي قدما في تفعيل استراتيجية التخلي عن مرتكزاتها الدينية والوطنية وعلى رأسها الوهابية من خلال مغازلة الصوفية والتعاون مع كاتب بشخص إبراهيم عيسى صاحب التاريخ الكبير في الهجوم على المملكة؟
فكر متصوف
تدور فكرة الفيلم حول رجل أعمال صغير السن، يعاني من التفكك وعدم الارتباط الأسري، رغم أنه متزوج، يمثل البيزنس لديه أول وأخر اهتماماته، وبينما يمارس بعض أعماله ضمن مشاريع بناء المجمعات السكنية الفخمة، إذ به يتورط في هدم زاوية صغيرة تحتوي على ضريح لأحد الأولياء..
يواجه الشاب الذي يجسد دوره في الفيلم “آسر ياسين” بعدها العديد من الأزمات في حياته، حيث تتعثر مشاريعه، ويخسر الكثير من أرصدته، لكنه لم يلق لمثل هذه المشكلات بالا، وفجأة تسقط زوجته نتيجة نزيف في المخ وتدخل في غيبوبة طويلة، وفي هذه الحالة يجلس مع نفسه ليعيد شريط الذاكرة مجددًا.. ما الذي ارتكبه حتى يتعرض لما تعرضه له.. وهنا كان التحول
استشعر رجل الأعمال المكلوم أن هدمه للضريح هو السبب، فيسعى لإصلاح ما أفسده، وعليه بدأ في زيارة أضرحة الأولياء، ليعثر خلال زيارته لمقام الإمام الشافعي بوسط القاهرة على مجموعة من الرسائل والخطابات كتبها مريدو الإمام وتركوها لعله يحقق لهم أحلامهم.
أخذها الشاب وقرر أن يحقق لكل واحد من أصحاب تلك الرسائل مطالبه لعله يدخل السرور عليهم ويكفر عن ذنبه الذي ارتكبه بهدم الضريح، وهو ما حدث بالفعل، لتدور أحداث العمل في هذا الإطار، حيث التبرك بالأولياء والإيمان بهم والحث على التقرب منهم.
“صاحب المقام” يشارك فيه عدد من الفنانيين على رأسهم آسر ياسين وبيومي فؤاد ويسرا وأمينة خليل، ومن إخراج محمد العدل، وقد حقق نجاحا كبيرًا في أيام عرضه الأولى ونسب مشاهدات عالية، وإن كان ذلك لا ينكر ردود الفعل المتباينة بعدما تم تسريبه ليشاهده القطاع الأكبر من المتابعين.
اتهامات بالسرقة
منذ اليوم الأول لعرض العمل قوبل بموجة انتقادات لاذعة، واتهامات بالسرقة، حيث أشار البعض إلى أن فكرة العمل المحورية مأخوذة عن الفيلم الإسرائيلي “مكتوب” المنتج عام 2017 والمتاح حاليًا على منصفة “نتفلكس”، والذي يعد أكبر نجاح سينمائي إسرائيلي منذ 1986.
وتدور فكرة الفيلم الإسرائيلي حول رجلان يعملان بالنصب والاحتيال، نجيا من حادث طيران مروع، الأمر الذي أشعرهم بأن نجاتهما رسالة من عند الله وعليهما أن يتوبا عما كان يقومان به من أعمال مخالفة، لكن التوبة وحدها لم تكن كافية بحسب أحدهما.
حيث اقترح الأخر عليه أن يذهبا لمكان مقدس، ويطلبا الغفران من رجل الدين الموجود هناك، وبينما هم يتجولان في المكان إذ بهما يعثران على مظروف بداخله بعض الرسائل التي تركها بعض الزوار وتحمل أمنيات لهم، لتبزغ في عقولهما فكرة تلبية تلك المطالب حتى يتوب الله عليهم، وتقريبًا هي نفس فكرة الفيلم المصري.
اتهام أخر بالسرقة وجه للعمل، كونه مستقى من كتاب “رسائل إلى الإمام الشافعي” للباحث سيد عويس، عالم الاجتماع المصري الشهير، والتي كتبه منذ خمسين عامًا، رصد خلالها من الناحية السوسيولوجية الرسائل التي كتبها مريدو الشافعي وتركوها له عند ضريحه.
الدراسة التي قدمها عويس تطرقت إلى أبرز المشكلات التي دونها المصريون للإمام، وعلى رأسها المشاكل المتعلقة بالزواج والرزق والظم والانتقام، ورغم تطابق تلك الرسائل مع ما وثقه مؤلف الفيلم في عمله إلا أنه لم يشر إلى صاحب الدراسة، وهو ما أخذه البعض عليه.
سينما المقالات
من الناحية الفنية يندرج العمل تحت مسمى “سينما المقالات” فهو أشبه بمقالات صحفية ومواد رأي كتبها المؤلف من وحي معتقداته وتم ترجمتها إلى مقاطع ومشاهد سينمائية، خاصة وأن هذه ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها عيسى لهذا التوجه بعدما أغلقت أمامه معظم نوافذ الإعلام.
ويعزف الكاتب اليساري على وتر المقولة الشهيرة للكاتب كارل ماركس «الدين أفيون الشعوب» والتي تنطبق بصورة كبيرة على الشعب المصري المعروف عنه التدين الشديد وحبه لأل البيت وأولياء الله الصالحين، وعليه تأتي معظم أعمال عيسى الثقافية والفنية لتدور في هذا الفلك.
فالحديث عن الرسائل الربانية وكرامات الأولياء ومعجزات الصالحين، حديث يطرب أذان المصريين ومداد يملأ قلوبهم شحنات عاطفية وروحية، قد لا يجدوها في عشرات الخطب الرنانية والكتب الفقهية والشرعية الموثقة، وهو الباب الذي طرقه كتاب كبار لتحقيق الجماهيرية والشهرة والمكسب المادي في آن واحد.
الناقد الفني محمد فتحي يرى أنها وبجانب أن فكرة العمل مقتبسة من فيلم إسرائيلي أو دراسة اجتماعية إلا أنه تعامل مع الفكر الصوفي بسطحية شديدة، واختزلته في زيارة أضرحة الأولياء، دون التطرق إلى أعماق الصوفية كما حدث في أعمال أخرى من بينها مسلسل “الخواجة عبد القادر”
فتحي في مقال له على صفحته على فيس بوك يعتبر أن أن ملف رسائل المصريين للشافعي قماشة عريضة من الممكن أن يوظفها المؤلفان والكتاب والمخرجون لتقديم أعمال فنية رائعة، وصورة أكثر تفصيلا وقربًا عن المجتمع المصري والتغيرات التي شهدها على مدار تاريخه.
وبعد استعراضه لأبرز الخيوط الفنية للعمل أختتم الناقد المصري مقاله بأن العمل في مجمله قدم رسالة خطيرة تتمحور حول تقديم المبنى وليس المعنى، في إشارة إلى أنه في نهاية الفيلم لجأ البطل إلى إعادة بناء المقام الذى تم هدمه فى بداية الفيلم رغم انه اكتشف بعد الهدم انه لا يوجد شيخ او ولى أو أى شئ مدفون فى المقام.
السعودية تغازل الصوفية
النقطة البارزة في “صاحب المقام” أنه رغم ما يروج له من فكر صوفي وتعميق علاقات المسلمين بالأضرحة، إلا أنه كان إنتاج مشترك بين شركة السبكي المصرية للإنتاج الفني وشركة روتانا السعودية، كما أنه عرض على منصة سعودية، وهو ما أثار التساؤل لدى الشارع الفني والثقافي.
الكاتب الصحفي جلال الغندور، المتخصص في الشأن الفني يرى في التعاون الإنتاجي السعودي نقلة كبيرة في توجه المملكة، مستشهدًا بما حدث قبل عامين حين رفضت السعودية عرض مسلسل “أرض النفاق” للفنان محمد هنيدي، بسبب أن عيسي، كاتب الفيلم الحالي، لعب دورًا بسيطا فيه، مما دفع الشركة المنتجة لإعادة تصوير كافة المشاهد التي شارك فيها الكاتب المصري الذي طالما هاجم المملكة ومنظومتها الدينية.
ورغم تغيير كافة المشاهد التي ظهر فيها عيسى وتم استبداله بالفنان سامي مغاوري، إلا أن القنوات السعودية رفضت عرض العمل على شاشاتها، معتبرة أن ما حدث خطأ لا يغتفر، كون الكاتب معروف عنه التوجه الشيعي والانتقاد المستمر للنظام السعودي.
وهنا يتساءل الغندور: هل هناك سبب خفي وراء التعاون الحالي مع عيسى؟ وهل أصبحت هذه النوعية من الأفلام والأفكار ذات الطابع الصوفي مناسبة للسعودية بدلا من السلفية التي تبنتها المملكة لعقود طويلة؟، أسئلة كثيرة ستجيب عنها الأيام.
يذكر أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في سبيل حلمه لخلافة والده على عرش المملكة، ضرب بمرتكزات بلاده الثابتة عرض الحائط، ساعيًا إلى تقديم نفسي للعالم الخارجي على أنه الأمير المصلح، ساعيًا لتبرئة السعودية من اتهامات التطرف بالانقلاب على قواعد الدين الثابتة وإحلالها بمزيد من الخطوات الانفتاحية التي أثارت الكثير من الجدل الداخلي والخارجي وقوضت من دور ومكانة السعودية الإقليمية.
وفي المجمل فإن مجرد المشاركة في إنتاج عمل يروج للصوفية وعرضه على منصة سعودية، والقبول بكاتب عُرف عنه الهجوم الدائم على الرياض، يعد نقلة وتحول فريد من نوعه في الخط الفكري للمملكة، يضاف إلى سلسلة الإجراءات التي اتخذها الأمير الشاب لتجميل وجهه وغسل سمعة بلاده المشوهة جرًاء سياساتها المتبعة.