منذ أن وجد أول إنسان على هذه الأرض كان الزمن بالنسبة له هاجسًا شعوريًا عامًا وذلك لارتباطه الوثيق بتساؤلاته ودهشته الأولى والأزلية، وفي الفكر الفلسفي يعتبر الزمن ذا طبيعة متحركة غير ثابتة وهذه الطبيعة المتحركة هي التي جعلته يتحد بالوجود والعدم، الحضور والفناء، فالزمان هو الذي ينبئ الإنسان بعبثية كل وجوده وفي نفس الوقت يحمل له أمله في الحياة.
المتتبع للشعر العربي منذ بداية تاريخه في العصر الجاهلي يتأكد أن الشاعر العربي توقف كثيرًا عند الزمن وانشغل به ثقافيًا وفكريًا وأفرد له مساحات واسعة من إنتاجه الأدبي، إذ لا تجد قصيدة واحدة للشعراء الأقدمين إلا وتتحدث عن الدهر والزمن، وعلى غرار الفلسفة والشعر يجسد الزمن أحد أهم أركان عملية السرد الرئيسية، فأي عمل قصصي أو روائي يجب أن يرتكز على عنصرين مهمين هما الزمان والمكان.
لكن كيف يتم توظيف الزمن في العمل الروائي، خاصة إذا كان عنوان الرواية نفسه يحمل طابعًا زمنيًا، وكما نعلم فالعنوان عتبة النص، إذ يساهم بشكل كبير في استكشاف معانيه تفسيرًا وفهمًا، كما أنه يساهم كذلك في توضيح دلالات العمل الأدبي وسبر أغواره والتعمق في معانيه، فكيف وظفت الكاتبة التركية الشهيرة إليف شفق عنصر الزمن في روايتها الأخيرة “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”؟
وظائف الزمن ودلالاته في الروايات الأدبية
يرى المفكر اليساري محمود أمين العالم أن النص الروائي تاريخ متخيل يحمل زمنًا مميزًا داخل التاريخ الموضوعي، وقد أدرك كتاب الرواية أهمية الزمن في أعمالهم، إذ يعد من أهم التقنيات التي تؤثر على عملية السرد، فهو بمثابة الروح للجسد.
تعد الرواية أكثر العناصر الأدبية التصاقًا بالزمن، لكن تقديمه يختلف بين بنية سردية إلى أخرى، فعلى سبيل المثال ينطلق الزمن في الرواية الكلاسيكية من عملية قص متتابع للماضي بكل أمانة، حيث تتوالى الأحداث بطريقة خطية ويأخذ الزمن حينها منحى تصاعديًا من بداية الرواية وحتى نهايتها، وفي هذه الحالة يرتب الروائي أحداثه ترتيبًا منطقيًا، فلا مجال هنا لتداخل الأزمنة، وقد تجسدت هذه الرؤية في رواية “زينب” للكاتب المصري محمد حسين هيكل التي صدرت خلال عام 1914، وتدور أحداثها حول الفتاة الريفية “زينب” التي كانت تحب عاملًا فقيرًا يُسمى إبراهيم لكن أهلها أجبروها على الزواج من حسن لأنه ميسور الحال، وقتذاك كتب هيكل روايته محافظًا بشدة على السياق التاريخي دون تأخير أو تقديم.
في الكثير من الأحيان قد يختفي دور الزمن تمامًا وترتكز الرواية فقط على المونولوج الداخلي العميق
بعد ذلك تطور مفهوم الزمن الروائي مع تطور الرواية الحديثة وأضحى الزمن منفصلًا عن زمنيته بمعنى تكسر مسار زمن الحكي في الرواية الحديثة وتم توزيعه على عدة أزمنة تتداخل مع بقية عناصر الرواية وهنا اختفى الترتيب الزمني التصاعدي البسيط والمألوف وظهر مكانه زمن يتسم بالتعقيد والعمق، حيث تفاجئنا الروايات الحديثة بانتقالها من زمن لآخر يستطيع من خلالها الكاتب التأثير على الحركة السردية الخطية فيجعله متكسرًا وهذا تحديدًا ما فعله الكاتب الجزائري رشيد بوجدرة في روايته “ألف وعام من الحنين“، ففي هذا العمل الأدبي يختفي الزمان والمكان ويصبح الواقع حلمًا والحلم واقعًا، وتدور أحداث الرواية حول البطل محمد الذي يبحث عن المكان الذي كتب فيه ابن خلدون مقدمته الشهيرة، ويربط بوجدرة ببراعة شديدة في روايته بين الماضي والحاضر ليذكرنا بمجد الحضارة الإسلامية.
التلاعب بالزمن قد لا يتجسد فقط في تكسيره والتنقل من زمن لآخر، ففي الكثير من الأحيان قد يختفي دور الزمن تمامًا وترتكز الرواية فقط على المونولوج الداخلي العميق وذلك مثل روايات تيار الوعي مثل رواية “السيدة دالاوي” للكاتبة البريطانية الشهيرة فيرجينيا وولف، وتدور جميع أحداث رواية السيدة دالاوي خلال يوم واحد فقط تعيشه بطلة الرواية وهي تحضر لحفل تقيمه في منزلها ويغلب على طابع الرواية تقنية المونولوج الداخلي.
رواية “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”
“ثمَّة أشياء كثيرة كانت ترغب في معرفتها. لذا لبثتْ تفكِّر في اللَّحظات الأخيرة من حياتها، وتطرح على نفسها سؤالًا عن الخطأ الذي حدث، وكان هذا التَّفكيرُ تمرينًا عبثيًّا ما دام يَصْعب فكُّ ألغاز الزمن، وكأنَّه كرة من الغَزْل”.
تبدأ أحداث رواية “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب” للكتابة التركية الشهيرة إليف شفق بحادثة مقتل بطلة الرواية ليلى التكيلا ورميها بشكل وحشي في أحد مكبات القمامة، لكن ما حدث هو أن ليلى لم تمت فور قتلها، فقد ظل عقلها يعمل بعد الوفاة لمدة 10 دقائق و38 ثانية وخلال هذه المدة القصيرة استرجعت ليلى تاريخ حياتها مثل شريط أفلام السينما.
في الجزء الأول من الرواية الذي أسمته شفق “العقل” ندخل ببطئ إلى عالم ليلى وحياتها وهنا تضعنا شفق على الحافة فنحن ندرك كقراء أن ليلى ماتت وأنها لا تملك الوقت الكافي للحكي، لذلك نستمع إليها وفي الخلفية يأتينا دومًا صوت يشبه صوت الساعة التي تذكرنا باقتراب توقف العقل بعد أن توقف القلب عن الخفقان.
ثانية بثانية نبدأ العد التنازلي من الدقيقة الأولى، وهنا تفاجئنا إليف بأن ذاكرة ليلى حسية بمعنى أنها تتذكر حياتها من خلال الأطعمة والروائح، تبدأ دقيقتها الأولى بطعم الملح ثم يأتي الليمون والسكر ومن بعده طعم القهوة ورائحة التوابل، ومع كل رائحة وكل دقيقة تخبرنا شفق الكثير عن مدينة إسطنبول، فعلى غرار نجيب محفوظ الشغوف بمدينة القاهرة وحواريها وأزقتها الضيقة تحب شفق إسطنبول وتستنطقها كثيرًا حتى إنها تفرد لها مساحةً واسعةً من الحكي أكثر من الأبطال أنفسهم.
يتعيّن على المرء أن يكون أرق مع الأحياء من الأموات لأن الأحياء هم الذين يكافحون من أجل فهم العالم وإيجاد معنى له
بعد أن تنتهي الدقائق العشرة ومعها حكايا ليلى عن حياتها في مدينة فان التركية ثم انتقالها إلى مدينة إسطنبول التي سحقتها سحقًا، يأتي الجزء الثاني من الرواية وهو جزء “الجسد” وهنا يأتي دور أصدقاء ليلى الخمس الذين يخوضون معركة كبرى حتى لا تُدفن ليلى في مقابر الغرباء، وبالفعل يتمكنون من سرقة جثتها ويلقون بها من فوق جسر البسفور تمامًا كما أردات ليلى، إذ لم تكن ترغب في قبر تحت التراب ولكنها كانت تريد التحول لسمكة.
ومن خلال جزء الجسد نتعرف عن كثب على أصدقاء ليلى: نولان المتحولة جنسيًا عن ذكر اسمه عثمان التي عانت كثيرًا مع أهلها وزملائها في المدرسة والعمل، وهناك سنان صديق ليلى من المدرسة وجميلة الصومالية الأصل التي ولدت لأب مسلم وأم مسيحية وجاءت إلى إسطنبول من أجل العمل وابتلعتها الحياة حتى تلقتها ليلى وعاملتها بلطف، ثم هناك أيضًا زينب اللبنانية القادمة من شمال البلاد بحثًا عن مستقبل أفضل في إسطنبول وحميراء التركية التي كانت تتمنى أن تصبح راهبة غير أن والدها أجبرها على الزواج من رجل كان يضربها ويعنفها حتى هربت إلى إسطنبول.
وعلى قدر اتساع الرواية وتنقلها بكثرة عبر المكان والزمان ومستويات السرد وعلى الرغم من اهتمام شفق الزائد بالتفاصيل، فإنها نجحت بقوة في مسك الخيوط السردية للرواية ولم تنفلت منها إلا في بعض المرات القليلة، ولم تكتف شفق بتقنية تكسير الزمن لكنها أيضًا انتقلت بالسرد من داخلي في الجزء الأول من الرواية إلى خارجي في الجزء الثاني، فعلى سبيل المثال في الجزء الأول وحين كنا جميعًا داخل عقل ليلى وذكرياتها الحسية المتمثلة في الأطعمة والروائح كنا نتنقل بخفة بين البلاد والحقب التاريخية المختلفة لتركيا، أما في الجزء الثاني فقد تحول السرد إلى خارجي وعشنا مع أصدقاء ليلى يومًا محمومًا شعرنا فيه بشدة الحر وازدحام حركة السير داخل مدينة إسطنبول وخاصة في أوقات الذروة.
جملة القول إن رواية “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب” قد تجعلنا نشعر في البداية بأن ثمة خطب وعدم تناسب في السرد، إذ كيف تحكي ليلى الجزء الأكبر من الرواية في 10 دقائق وبعض الثواني فقط في حين يأتي الجزء الثاني من الرواية الذي تدور أحداثه في نحو 24 ساعة في مساحة أصغر، هنا نتذكر أن الزمن يختلف حسب تقدير الكاتب الفني ولا يخضع للمنطق، كما أن ليلى كانت ميتة بالفعل وعقلها يعمل بشكل أسرع، فماذا لو أنها قد تكون صدقًا تذكرت كل ذلك في تلك اللحظات القليلة إذ كما قلنا كان الأمر أشبه بفيلم سينمائي مسرع، وربما بالفعل يعمل عقل الإنسان بشكل أكثر قوة في لحظاته الأخيرة.
على الرغم من إمساك شفق المبدع بجميع خيوط الرواية وهو ما تمخض عنه نص أدبي بديع وثري ومتماسك، فإن الحظ لم يكن حليفها مع الأفكار التي تناسب الشخصيات، فعلى سبيل المثال وحين كان سنان صديق ليلى لا يزال طفلًا في السادسة من عمره تحدث قائلًا: “يتعيّن على المرء أن يكون أرق مع الأحياء من الأموات لأن الأحياء هم الذين يكافحون من أجل فهم العالم وإيجاد معنى له”، وهنا نسبت الكاتبة إلى الشخصية ما يفوق عمرها العقلي والزمني وسقطت في عدم التلاؤم بين الشخصية وذلك السلوك الناجم عنها، فتكسر الزمن في النهاية لا علاقة له بالتلاؤم بين عمر الأبطال وسلوكهم ولكنه يتعلق بطريقة الحكي.
لكن يجب أن نقول في النهاية إن إليف صنعت نصًا جميلًا، إذ قل أن تجد كاتبًا يتنقل بالقراء بكل براعة من صندوق القمامة إلى المدن وروائح الأطعمة، فلا يوجد كاتب يمكنه بطريقة سلسلة أن يكسر الحواجز وأن يضع ليلى بكل احترافية في قلوب القراء هي وأصدقائها الخمس”غير المرغوب فيهم اجتماعيًا”، فهنا صنعت إليف لكل هؤلاء عالمًا جميلًا وجعلتهم محبوبين حتى بعد أن سحقتهم المدينة سحقًا.