شهدت مرحلة مابعد عام 2003، وضع الأسس الحقيقية لمرتكزات الدولة الموازية في العراق، وساهمت ظروف سياسية داخلية وخارجية عدة في بناء هذه الحقيقة، وكانت التراكمات السياسية في مرحلة ماقبل هذا التاريخ، هي الدافع الرئيس لتوجه قوى الإسلام السياسي الشيعي نحو هذا المنحى، لعدم ثقتهم بمنظومة الدولة، وحفاظاً على المكتسبات السياسية التي حققوها في مرحلة مابعد 2003، وكانت أولى هذه المرتكزات هي التأسيس لظاهرة الفصائل المسلحة التي أصبحت توازي قوة الدولة الأمنية والعسكرية، من حيث التأثير والقوة والفاعلية، لتنطلق هذه الظاهرة وتؤسس لظواهر أقتصادية وإعلامية، لتكمل مشروع الدولة الموازية في العراق
وهناك من يختلط عليه توصيف هذه الظاهرة في العراق، وهل نحن فعلاً أمام دولة موازية أم دولة عميقة؟، وللإجابة على هذا التساؤل لابد من القول، بأن الدولة الموازية تستغل قدرات الدولة الرسمية، وتوظفها في خدمة أهداف تتعارض مع أهداف الدولة الرسمية، أما الدولة العميقة فإنها تستغل ذات القدرات، ولكنها توائم أهدافها مع أهداف الدولة الرسمية، وتٌفعل في حالة عجز أجهزة الدولة الرسمية عن تحقيق أهدافها، ولهذا فإن الواقع العراقي يتطابق مع ظاهرة الدولة الموازية أكثر من كونها دولة عميقة.
ركائز الدولة الموازية في العراق
المتتبع لظاهرة الدولة الموازية في العراق، يجد بأنها تطرح نفسها في أكثر من مجال، فهي أصبحت اليوم دولة مترامية الأطراف، سياسياً وأمنياً وإعلامياً وإقتصادياً….. ألخ، كما إنها بنت خطاً تفاعلياً بعيداً عن مسار الدولة العراقية على صعيد البيئة الخارجية، والإقليمية تحديداً، وإذا ما أردنا أن نتناول هذه الظاهرة بشيء من التفصيل، فيمكن القول بأن ركائز الدولة الموازية في العراق تتمثل بالآتي:
الأحزاب المليشياوية: ونجد في هذا المجال العديد من الأحزاب الممثلة في مجلس النواب العراقي، وهي بذات الوقت تمتلك أذرع عسكرية حجمت من سيادة الدولة، وربط نفسها بمشاريع إقليمية، تتعارض مع توجهات الدولة العراقية الرسمية، والحديث هنا عن تحالف الفتح على سبيل المثال؛ الذي يمتلك 48 مقعداً في مجلس النواب العراقي، والذي يعد الممثل السياسي عن العديد من الفصائل المسلحة كعصائب أهل الحق وبدر وسيد الشهداء وغيرها، وهي جميعها فصائل مشمولة بالعقوبات الأمريكية، وتحدت سلطة الدولة العراقية في أكثر من مناسبة.
تشكل الفصائل المسلحة الركيزة الأساسية للدولة الموازية في العراق، وتوجد في العراق اليوم عدة فصائل مسلحة غير متجانسة
الإقتصاد غير المشروع: إذ تسيطر أذرع الدولة الموازية في العراق، وتحديداً الفصائل المسلحة على العديد من المنافذ الحدودية والموانئ والشركات والمؤسسات، فضلاً عن إفتتاحها للعديد من المصارف الأهلية والمكاتب الإقتصادية، وسيطرتها على أسواق الجملة والعملة الصعبة، وتمكنت من بناء إقتصاد موازي للإقتصاد العراقي، وعلى الرغم من شمول إقتصاد الدولة الموازية بالعقوبات الأمريكية، إلا إنه حتى اللحظة لم يتأثر هذا الإقتصاد بالعقوبات، كونه يستغل التشريعات العراقية بالإطار الذي يخدم منافعه الإقتصادية،
الإعلام الموازي: تعمل في العراق اليوم مايقرب من 83 قناة تلفزيونية تابعة لإتحاد إذاعة التلفزيونات الإسلامية في بغداد، وعلى الرغم من إن جميع هذه القنوات التلفزيونية يتم تمويلها من قبل الحكومة العراقية، إلا إنها تتبنى خطاباً إعلامياً معارض لها، لتشكل بدورها إحدى أكثر الأدوات الفاعلة للدولة الموازية في العراق، خصوصاً وإنها تدار من قبل برمجيين ومدراء إيرانيين.
القوة الأمنية: تشكل الفصائل المسلحة الركيزة الأساسية للدولة الموازية في العراق، وتوجد في العراق اليوم عدة فصائل مسلحة غير متجانسة، وموزعة على عدة ولاءات وإنتماءات قومية ومذهبية، حيث تتكون من 164 ألف مقاتل ( 110 ألف شيعي – 45 ألف سني – 9 ألاف للأقليات)، يتوزوعون على عدة فصائل ، 67 فصيلاً شيعياً (44 يقلدون المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، 17 يقلدون السيد علي السيستاني)، 43 فصيلاً سنياً، 9 فصائل للأقليات، ويشكل الحشد الولائي حوالي 70 ألف مقاتل، مقابل 40 ألف مقاتل يتبع حشد العتبات، بما فيها سرايا السلام التي تتبع السيد مقتدى الصدر.
الكاظمي وإحتواء الدولة الموازية
لايخفى على أحد بأن إحدى أبرز التحديات التي تقف في وجه نجاح رئيس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي، هي في كيفية التعامل مع الدولة الموازية في العراق، وعلى الرغم من تبنيه خطوات أولية في هذا الإطار، من قبل إعادة السيطرة على بعض المنافذ الحدودية، والدعوة لإغلاق المكاتب الإقتصادية، إلى جانب تغييرات إدارية شهدتها شبكة الإعلام العراقي مؤخراً، بالإضافة إلى تغييرات أمنية على مستوى جهاز الأمن الوطني ومستشاريته، إلا إنها حتى اللحظة لم تفرز نتائج عملية على أرض الواقع.
مسارات الصدام بين الكاظمي والدولة الموازية مرشحة للتصاعد مستقبلاً، خصوصاً مع دعوته الأخيرة لإجراء الإنتخابات المبكرة في حزيران القادم
فالسيد الكاظمي يدرك جيداً إن إصلاح قطاع الأمن في العراق، والمتمثل بإعادة النظر في وضع الحشد الشعبي في هيكل النظام السياسي في العراق، قد تشكل البداية العملية لهدم أسوار الدولة الموازية، وهو ماتنبهت له الفصائل المسلحة، وخصوصاً تلك القريبة من إيران، لما لهذه الخطوة من تداعيات سلبية على مستقبل وجودها في العراق، في ضوء الظروف الصعبة التي تعيشها إيران اليوم، سياسياً وإقتصادياً وأمنياً.
إذ تتصرف الفصائل الولائية الممثلة للحشد الشعبي كدولة موازية، فهي تدير نظاماً قضائياً موازياً وسجوناً سرية، وإقتصاد موازي غير شرعي، وجهداً حربياً موازياً يقوض وحدة القيادة عبر المؤسسة العسكرية العراقية. وهو وضع أشر بدوره لطبيعة التعقيد التي أنتجه وجود هذه الفصائل في المشهد الأمني العراقي، وهو أمر جعل السيد الكاظمي، يفكر ملياً في كيفية إعادة تطبيع وضع الحشد الشعبي.
إذ جاءت رغبة السيد الكاظمي لإعادة تعريف الحشد الشعبي ودوره عبر مبادرات عدة، وكان قد أعلن عن أولى هذه المبادرات في زيارته لمقر هيئة الحشد الشعبي في 16 يونيو الماضي، عندما أكد على إن الحشد الشعبي هو حشد المرجع الشيعي السيد السيستاني، وإن القانون رقم 40 لسنة 2016، سيكون الأساس لأي تعامل حكومي مستقبلي مع وضع الحشد الشعبي، وهو توجه قد يغير وضع الحشد الشعبي إذا ماتم، كونه سيخفف من سطوة الفصائل الولائية المهيمنة على الحشد الشعبي، والتي ترفض بشدة تطبيق هذا القانون.
وعلى هذا الأساس؛ يمكن القول بأن مسارات الصدام بين السيد الكاظمي والدولة الموازية مرشحة للتصاعد مستقبلاً، خصوصاً مع دعوته الأخيرة لإجراء الإنتخابات المبكرة في حزيران القادم، وهي دعوة رفضتها أغلب الفصائل المسلحة، كونها تدرك حجم التحدي الكبير الذي أفرزت عنه خطوة الكاظمي الأخيرة، إلى جانب قيام أغلب الفصائل الولائية بتحشيد قواتها داخل بغداد في الأيام القليلة الماضية، مايوحى برغبة هذه الفصائل بتحدي أي توجه حكومي لكبح جماحها، في تكرار لسيناريو حادثة الدورة، وهو مايضع بدوره العديد من السيناريوهات المعقدة في طريقة تعاطي السيد الكاظمي مع أدوات الدولة الموازية في العراق,