يبدو أن ولي العهد والحاكم الفعلي للسعودية محمد بن سلمان تخطى كل الحدود الأخلاقية والمشروعية السياسية، باعتماده على التخويف والبطش في إدارة شؤون المملكة وتثبيت أركان حكمه بإقصاء أمراء آل سعود على قاعدة أن السلطة لا تتسع للجميع وأن صراع الأجنحة داخل العائلة لم يعد مقبولًا، إضافة إلى محاولاته المتكررة لتصفية خصومه ومعارضيه إما بالقتل أو بتغييبهم في سجونه السرية والعلنية وتعذيبهم.
بعد حملته الشهيرة (فندق ريتز) التي طالت رجال أعمال ومسؤولين وأسماءً بارزةً كانت في الحكم والاعتقالات التي طالت الدعاة ورجال الدين وفضيحة قتل وتقطيع جثة الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول، عادت الأضواء لتسطع مجددًا على شخصية محمد بن سلمان من خلال دعوى قضائية أقامها ضابط المخابرات السعودي السابق سعد الجبري يُطالب فيها ولي العهد بتعويضات على خلفية محاولات الأخير تصفيته، الأمر الذي يكشف بشكل جلي أن آلة القمع التي يملكها الأمير الطامح في الحكم لم تهدأ يومًا.
سعد الجبري لا يُعرف عنه في السابق معارضته لولي العهد محمد بن سلمان، لكن مسؤولين في أجهزة استخبارات غربية يعتقدون أن علاقته بولي العهد السابق محمد بن نايف باعتباره يده اليمنى، جعلته هدفًا في مرمى أجهزة ابن سلمان التي ترى فيه تهديدًا لشرعية الأمير مدفوعة بمخاوف من إمكانية امتلاكه لوثائق حساسة وخطيرة تهم الحكام الجدد وأسرة آل سعود بأكملها.
الدعوى القضائية
جاء في الدعوى التي تضم 106 من الأوراق والمقدمة في محكمة بالعاصمة الأمريكية واشنطن، أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يقف وراء محاولة اغتيال الجبري بهدف إسكاته وذلك بعد أسبوعين من اغتيال الكاتب جمال خاشقجي وذلك بعد حصوله على فتوى، كما تضمنت الوثائق التي نشرتها صحيفة “كاثارينز ستاندرد” الكندية أن فرقة خاصة “النمر” (50 عضوًا) التي كانت مكلفة باغتيال الجبري حاولت دخول كندا بتأشيرات سياحية حصلت عليها في مايو/أيار 2018، ومن ضمنها اختصاصي الطب الشرعي مشعل فهد السيد، يحمل حقيبة أدوات تساعد على طمس الجرائم، وأعضاء آخرين شاركوا في عملية اغتيال خاشقجي بالقنصلية السعودية بإسطنبول عام 2018.
عاجل: سعد الجبري اتهم محمد بن سلمان بمواصلة محاولة اغتياله بما في ذلك حصوله على فتوى دينية تسمح بقتل الجبري.
— ZaidBenjamin زيد بنيامين (@ZaidBenjamin5) August 6, 2020
وبينت مستندات الدعوى، أن السلطات الكندية اشتبهت في أعضاء الفريق الذين حاولوا التمويه بادعاء عدم معرفة بعضهم البعض، ولم تسمح إلا لأحدهم بالدخول لأنه يحمل جوازًا دبلوماسيًا، ومن بين الأسماء التي ورد ذكرها في الدعوى، بدر العساكر الذي لعب دورًا مهمًا في دعم اغتيال خاشقجي، وسعود القحطاني وأحمد عسيري الذين استخدما موظفين في جمعية “مسك” الخيرية وهم يوسف الراجحي ومحمد الحمد وليلى أبو الجدايل لتحديد مكان الجبري بهدف إرسال مجموعة النمر لاغتياله وذلك في أثناء مشاركتهم ببرنامج صنع قيادات في بوسطن ماساشوستس.
ومن بين الأسماء الأخرى، طبيبة الأسنان ليلى أبو الجدايل التي اتهمها الجبري بالمشاركة في جهود تحديد مكان إقامته وإقامة زوجته وزوجة ابنه خالد في بوسطن لمصلحة بدر كما عملت كمديرة اتصال في مؤسسة النخبة التي يديرها محمد الحمد.
فوكس نيوز تقول ان الدعوى القضائية التي رفعها #سعد_الجبري و تتهم بن سلمان بإرسال فرقة لقتله من 50 شخصا اكتوبر 2018، تشير الى أنه يخطط حاليا يخطط لإرسال عملاء لدخول #كندا برا عبر الولايات المتحدة للقضاء على الجبري “نهائيا وإلى الأبد”. https://t.co/Z2XPF2Vubw
— Wajd Waqfi وجد وقفي (@WajdWaqfi) August 6, 2020
من جهة أخرى، تضمنت الدعوى القضائية نص رسالة من ولي العهد السعودي يطلب فيها من الجبري العودة خلال 24 ساعة وإلا سيقتل، وورد فيها أيضًا أن ابن سلمان يعتقد أن الجبري وراء خلاصة توصلت إليها وكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” (CIA) بضلوع ولي العهد في اغتيال خاشقجي، وأنه أخبر الأمريكيين بأن بدر العساكر، وهو أحد المقربين من ابن سلمان، أدار عملية تصفية الصحفي الراحل بإسطنبول.
الوثائق التي قدمها ضابط الاستخبارات السعودي السابق، كشفت أن الجبري كان على اطلاع على معلومات “شديدة الحساسية” تشمل مزاعم بالفساد والإشراف على فريق من المرتزقة الشخصيين تحت مسمى “فريق النمور” لتصفية المعارضين، وهذه المعلومات “المخزية والمشينة” تدين المتهم ابن سلمان بقدر أكبر مما يعيه ذهن وذاكرة الدكتور سعد، توجد في أماكن محفوظة في شكل تسجيلات أجراها الضابط تحسبًا لقتله.
على صعيد آخر، ورغم رفض وزير في الحكومة الكندية التعليق على ادعاءات الجبري بالتحديد، بسبب الإجراءات القانونية، فإنه قال إن الحكومة الكندية على علم بمحاولة أفراد أجانب مراقبة وتهديد أشخاص في كندا، وهي إشارة موجهة إلى الرياض في انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد حكم القضاء.
This is a very Canadian statement – not totally clear, to say the least. But as far as I can tell (though I may be wrong), it is the first time that a Minister indirectly confirms that Saad al-Jabri has been targetted by MbS since his arrival in Canada. That’s quite significant. https://t.co/gagLFl0F3d
— Thomas Juneau (@thomasjuneau) August 7, 2020
من هو الجبري؟
سعد الجبري، الحائز على شهادة دكتوراه في هندسة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي من جامعة أدنبرة بإسكتلندا، عمل في وزارة الداخلية السعودية نحو أربعة عقود حتى حصوله على رتبة لواء، وطيلة نحو 20 عاما، اشتغل تحت إمرة ولي العهد السابق محمد بن نايف، حيث ساعد في إصلاح جهاز الاستخبارات وكان أحد أهم ضباطه، كما ساهم كثيرًا في جهود المملكة لمكافحة تنظيم القاعدة وفي عملية التنسيق الأمني والاستخباراتي مع الولايات المتحدة.
وبحسب تصريح سابق لمسؤول استخبارات غربي نشرته “بي بي سي“، فإن الجبري كان المسؤول الأول عن تطوير جهود مكافحة الإرهاب في المملكة، بتحويلها من نظام عملياتي تقليدي يعتمد على طريقة انتزاع الاعتراف بالعنف، إلى نظام حديث يعتمد على تقنيات الكمبيوتر لجمع البيانات وفحصها، كما لعب أدوارًا رئيسية في العديد من الملفات الأمنية الحساسة، أهمها الحرب ضد تنظيم القاعدة وملفات خارجية كحرب العراق واليمن.
وفي السياق ذاته كشف نائب رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن، جيرالد مايكل فيرستين، الذي تعامل مع الجبري في أثناء عمله سفيرًا للولايات المتحدة في اليمن، أن ضابط الاستخبارات السابق “كان مطلعًا على العديد من القضايا الحساسة، حتى إنه يكاد يعرف المكان الذي دفنت فيه الجثث”.
الجبري عُين أيضًا في منصب وزير دولة، عندما تولى الملك سلمان العرش في يناير 2015، وأصبح الأمير بن نايف وليًا للعهد في أبريل 2015، قبل أن تتم إزاحة الأول من منصبه، في أغسطس من ذلك العام، لكنه ظل مستشارًا شخصيًا للأمير حتى تم إعفاء الأخير من ولاية العهد ووزارة الداخلية في يونيو 2017.
بعد الإطاحة بولي العهد السابق الأمير نايف ووضعه رهن الإقامة الجبرية عام 2017 خشي الجبري أن يلقى نفس المصير ففضل البقاء في الخارج ولم يعد إلى السعودية، ونقلت منظمة هيومان رايتس ووتش في بيان لها في 24 من مايو/أيار 2020 عن مصدر مطلع قوله: “سعد الجبري غادر المملكة في 2017، قبل عزل محمد بن نايف وتنصيب محمد بن سلمان وليًا للعهد مكانه في 21 من يونيو/حزيران 2017”.
صيد ثمين
يرى مراقبون أن الضابط السابق ضحية للصراع بين ولي العهد السابق الأمير محمد بن نايف ومحمد بن سلمان على الحكم، حيث يسعى ولي العهد لتقليم أظافر خصومه وتهيئة الأرضية لبسط سلطانه على المملكة دون أي معارضة، لذلك يعمل على كتم الأصوات التي تعمل ضد مشروعه، معتمدًا على آلته القمعية المتمثلة في فرق الموت كالتي اغتالت الكاتب جمال الخاشقجي رغم أن الأخير لم يُعرف عنه وقوفه ضد ولي العهد أو والده الملك سلمان.
أما فيما يخص الجبري فإن الأمر يختلف كثيرًا، فالأخير يمتلك ما يقض به مضجع الأمير من معلومات حساسة وسرية قادرة أن تفضح النظام الجديد وتُخرج حقائق إلى النور طالما عمل ابن سلمان على طمسها ودفنها، فشخص مثل الضابط السابق لديه مفاتيح جميع الملفات الحارقة والشفرات غير المفككة لبنية عمل أجهزة ولي العهد وطريقة إدارته للمملكة.
في غضون ذلك، فإن ولي العهد لا يملك إلا إجبار الجبري على العودة للمملكة لأنه يخشى ترك شخص مثله لديه الكثير من المعلومات السرية في الخارج أو تصفيته على الطريقة “الخاشقجية”، الأمر الذي أكده المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بروس ريدل بالقول: “امتلاك وزارة الداخلية السعودية جهاز ضخم للرقابة الأمنية جعلها مستودع الأسرار في السعودية بما في ذلك أسرار أفراد الأسرة المالكة والفساد والجريمة، ملفاتها تحتوي على معلومات عن كل التصرفات غير اللائقة، ابتداءً بالأعمال الإجرامية وانتهاءً بأعمال في غاية الإحراج”.
محاولات الاستدراج
بتاريخ 24 من يوليو/تموز، كشفت صحيفة نيويورك تايمز أنها حصلت على وثائق تثبت أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حاول جلب سعد الجبري مستشار ولي العهد السعودي السابق الأمير محمد بن نايف عبر عدة وسائل، بينها الإنتربول، وبالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى، مشيرةً إلى أن إحدى الرسائل قال فيها ولي العهد السعودي للجبري “لا توجد دولة في العالم سترفض تسليمك”.
الصحيفة ذاتها أشارت إلى رسائل هاتفية طالب فيها الجبري ولي العهد السعودي بالسماح لولديه الممنوعين من السفر والموجودين في السعودية بمغادرة البلاد، إلا أن ابن سلمان أجابه بأنه يريد حل مشكلة أبنائه لكنه يتعامل مع ملف حساس، في إشارة إلى ملف الأمير محمد بن نايف، وأنه سيشرح له الأمر حين يلتقيه، فيما كشفت صحيفة وول ستريت جورنال أن الرياض حاولت إغراء سعد الجبري عبر شريكه بالسفر إلى تركيا كي يكون أقرب إلى عائلته.
بدروها أشارت منظمة هيومان رايتس ووتش، إلى أنه وقت خلع محمد بن نايف، كان اثنان فقط من أبناء الجبري، عمر وسارة، عمرهما 18 و17 عامًا آنذاك، في البلاد وحاول كلاهما الفرار، لكن أوقفهما المسؤولون في المطار وأخبروهما بأنهما ممنوعان من السفر إلى الخارج، كما تم تجميد حساباتهما المصرفية وتم استدعاؤهما من الأجهزة الأمنية التي طلبت منهما أن يطلبا من والدهما العودة إلى البلاد، وذلك حسب ما نقلت نيويورك تايمز عن شقيقهما خالد الذي صرح قائلًا: “إنهما رهينتان والفدية المطلوبة عودة والدي إلى السعودية، إن محمد بن سلمان يسعى لفرض سيطرته المطلقة ويرى أن وجود والدي خارج سيطرته أكبر عائق لذلك”.
بالمحصلة، يُمكن القول إن محاولة اغتيال ضابط الاستخبارات السابق سعد الجبري على طريقة قتل خاشقجي والوقائع التي تُحيط بالعمليتين تظهر بشكل جلي أن ولي العهد السعودي لا يتوانى عن ارتكاب أبشع الجرائم في سبيل إسكات منتقديه وإزاحة معارضيه، وهي إشارة أيضًا بأن المملكة سائرة في عهد ابن سلمان من حكم العائلة إلى حكم الفرد وتقوم على إقصاء الجميع والتنكيل بهم من خلال حملات الاعتقال التعسفية التي طالت الدعاة ورجال الدين والإعدامات، إلا أنها في المقابل ضربة جديدة لعلاقة أمريكا مع حكام الرياض لا سيما أن اغتيال خاشقجي كان له تأثير كبير في زعزعة صورة الأمير “الضاحك” للغرب و”العابس” في المملكة.