تحتل الآثار عند المصريين أهمية كبرى في حياتهم، كونها شهادةً موثقةً على حضارة بلادهم وجذورها الضاربة في عمق التاريخ، هذا بجانب الارتكان إليها كمرجعية عالية المصداقية لإثبات مدى تقدمهم وريادتهم للعالم في وقت كان الجهل والتخلف يخيم على أرجاء الأرض.
يعتبر المصريون المعالم الأثرية لا سيما التماثيل منها ترمومترًا حساسًا لقياس وتقييم قوة الدولة المصرية في الوقت الذي بنيت فيه تلك المعالم، حيث تعطي رمزية تاريخية ودلالة جغرافية على الصفات التي كان يتمتع بها الشعب والقيادة على حد سواء.
ولم تكن موجات السخرية والتهكم التي تعرض لها مؤخرًا تمثال “مصر تنهض” للنحات أحمد عبد الكريم، الأستاذ بكلية التربية النوعية بحلوان، إلا حلقة واحدة من هذا المسلسل دائم العرض على شاشات التاريخ المصري، الذي خضع على مدار مراحله المختلفة لكثير من التقييم والنقد.
التمثال الذي أراد مصممه أن يعكس من خلاله واقع مصر في هذا التوقيت، وصفه البعض بـ”الفضيحة” وذلك رغم كونه في مرحلة الإعداد بعد ولم يتم الانتهاء منه، غير أن الإرهاصات الأولى للعمل دفعت الكثير، نقاد وعامة، إلى توجيه سيل جارف من الانتقادات والتوبيخ للعمل وصاحبه معًا.
الانتفاضة المصرية ضد التمثال غير المكتمل تتماشى بشكل كبير مع السوسيولوجية التاريخية للمصريين، إيمانًا منهم بأن هذه النوعية من الأعمال تعد مرآة عاكسة للمنظومة الثقافية والفكرية بل والسياسية للدولة، وعليه يكون الهجوم على أي عمل يفتقد للإبداع والرقي، بل على العكس من ذلك فكثيرًا ما يهرب المصريون إلى تماثيلهم القديمة لاستدعاء تاريخهم المجيد، الذي يعانون من فقدانه هذه الأيام.
تهكم وسخرية
لم يكن “مصر تنهض” التمثال الوحيد الذي أثار سخرية الشارع المصري، إذ شهدت الساحة العديد من النماذج لمثل تلك الأعمال التي كانت مثار تهكم المهتمين بفن النحت من الخبراء والأساتذة، وزخرت بها منصات السوشيال ميديا ما بين النقد الفني والتندر على ما وصلت إليه مصر.
ويأتي على رأس تلك الأعمال، تمثال الخديو إسماعيل (1830-1895)، الحاكم الخامس لمصر الحديثة من أسرة محمد علي، الموجود بمدخل طريق البلاجات السياحي بمحافظة الإسماعيلية (شرق)، حيث تغير لونه من الأخضر المطلي بالذهبي إلى الأسود الداكن، الأمر الذي أثار غضب سكان المدينة فضلًا عن رواد السوشيال ميديا.
كذلك تمثال عباس العقاد بمدينة أسوان (جنوب) الذي أحدث ضجة كبيرة لما ينتابه من تشوه وفقدان لأدنى معايير الإبداع، ما دفع البعض إلى المطالبة بمحاكمة مصمم التمثال وتوقيع العقاب عليه، بتهمة تشويه الرموز المصرية والإساءة لمدن الصعيد.
وفي قلب مدينة المنيا، عروس صعيد مصر، كان هناك تمثال “نفرتيتي” المثير للسخرية والتهكم، فالعمل الذي لُقب بـ”عفريتة نفرتيتي” تسبب في غضب الشارع المنياوي الذي ضغط على المحافظ لإزالته فورًا حفاظًا على مكانة المدينة، وهو ما استجاب له سريعًا.
ومن الصعيد إلى قلب القاهرة، حيث حي الزمالك، تحوّل تمثال كوكب الشرق (أم كلثوم) إلى نوع من المسخ الفني بعد طلائه بالدوكو، وهو ما تسبب في تشويه أحد أبرز الرموز الفنية في مصر والعالم العربي، الأمر ذاته تكرر مع تمثال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بمنطقة باب الشعرية بوسط العاصمة.
هذا بخلاف العديد من الأعمال النحتية الأخرى التي أثارت الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، منها “تمثال الفلاحة المصرية” الذي يعود إلى الفنان الراحل فتحي محمود بمدخل مدينة الحوامدية، الذي أظهر الفلاحة كأنها جالسة على الطريق بركبة “عارية”، بخلاف تمثال “فلاحة العمرانية” بمحافظة الجيزة الذي يعد النسخة الثانية من تمثال الفلاحة، ما دفع وزيرة الثقافة المصرية للتدخل لإعادة النظر في الألوان المستخدمة وفنيات النحت المعمول بها التمثال.
عصر النهضة
جولة واحدة داخل القاهرة الخيديوية تأخذك إلى عالم آخر من السحر والجمال، حيث التماثيل المفعمة بالإبداع والرقي التي رغم العقود الطويلة على إنشائها، ما زالت عالقة في أذهان المصريين، حيث يرون فيها دليلًا على العصر الذهبي للدولة المصرية.
ويأتي على رأس تلك الأعمال تمثال “نهضة مصر” للفنان الراحل محمود مختار، أحد أعلام النحت في مصر خلال القرن العشرين، التمثال يجسد فتاة مصرية تقف شامخة بجانب تمثال لأبي الهول وتضع يدها اليمنى على رأسه فيما تضع كف يدها اليسرى على جبينها وكأنها تستشرف المستقبل.
تعبر هذه اللوحة الفنية الخالدة عن آمال وتطلعات الشعب المصري عقب ثورة 1919، حيث اندلعت العديد من التظاهرات بقيادة حزب الوفد الذي كان يتزعمه السياسي سعد زغلول، فجاء التمثال ليجسد ثورة الشعب في صورة فلاحة مصرية وكأنه ينتفض بهذا التمثال على توجهات الأسرة الملكية التي اكتفت ببناء تماثيل تمجد أبناءها وأصحاب الطبقة المخملية، بحسب آراء بعض المؤرخين.
وتزخر محافظتا القاهرة والجيزة بالعديد من التماثيل لكبار الشخصيات في التاريخ المصري في شتى المجالات، سياسية وثقافية وفنية، وغيرها مما أسهمت في إثراء الحركة الوطنية الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي خلدت أسماءها في ذاكرة المصريين حتى اليوم.
وفي القاهرة الكبرى وحدها هناك ما يزيد على 40 تمثال مختلف الأشكال، أقدمها بحسب المؤرخين تمثال “إبراهيم باشا” – أحد الشخصيات البارزة في بناء مصر الحديثة وكان قائدًا للجيش – وهو يمتطي حصانه، الذي أنشئ عام 1872 في ميدان الأوبرا “الأزبكية سابقًا” في عهد الخديوي إسماعيل.
ومن التماثيل الشهيرة أيضًا في قلب العاصمة، تمثال “لاظوغلي باشا” الذي كان وزيرًا للمالية المصرية، وهو مصنوع من البرونز للنحات الفرنسي جاك مار، كذلك تمثال “سعد زغلول” بالإسكندرية والقاهرة، أحد إبداعات النحات العالمي محمود مختار، وهو مصنوع من البرونز وموضوع على قاعدة من الجرانيت الصلب.
وفي منطقة وسط البلد بالقاهرة هناك العديد من التماثيل التي تتميز بحضور قوي وجماهيرية كبيرة منها تمثال السياسي الشهير مصطفى كامل الموجود في المنطقة بين العتبة وميدان التحرير، الذي لا يبعد كثيرًا عن تمثال رائد الاقتصاد المصري طلعت حرب الموجود في الميدان الذي يحمل نفس الاسم.
انعكاس لقوة الدولة المصرية
علماء الاجتماع التاريخي يرون أن للتماثيل الموجودة في شوارع وميادين مصر رمزيةً تاريخيةً مهمةً، تعكس قوة وجسارة الشخصية الوطنية المصرية، حيث جاءت تلك الأعمال التي صاغها المبدعون الكبار لتشير إلى أن الدولة في هذا الوقت كانت دولة عفية.
الكثير من الأعمال المنحوتة وثقت لصفحات منيرة من التاريخ، منها ما هو عسكري كتمثال الشهيد عبد المنعم رياض بوسط القاهرة، والشخصية التحررية الوطنية ضد الاستعمار كما في تمثال نهضة مصر، هذا بخلاف تقدير الدولة المصرية لجهود الحركات الوطنية في العالم كما هو مع تمثال سيمون بوليفار، بالتحرير، وهو أحد أبطال حركة التحرير في أمريكا اللاتينية وهناك تمثال آخر لجوزيه سان مارتن أحد أبطال الأرجنتين الذين ساهموا في حركة استقلالها الوطني.
وظلت تلك الأعمال قبلة للمصريين الساعين لاستدعاء أمجاد وتاريخ أجدادهم في وقت يعانون فيه من التدني على المستويات كافة، ما عمق حبهم وشغفهم لتلك التماثيل التي تمثل بالنسبة لهم ثروةً كبيرةً وكنزًا يتفاخر به الشعب المصري أمام القاصي والداني.
وبعقد مقارنة سريعة بين تمثالي “نهضة مصر” و”مصر تنهض” يستطيع أي مصري، ليس شرطًا أن يكون ناقدًا أو مؤرخًا، أن يكتشف الفارق الكبير بين ما كانت عليه الدولة المصرية قديمًا من بلورة لشخصيتها التحررية المستقلة المتقدمة، وما آلت إليه من تراجع كبير في قيمة البلاد وقامتها.
الثورة على تمثال “مصر تنهض” هي ثورة سياسية ثقافية تاريخية أكثر منها ثورة فنية، فردود الفعل في معظمها جاء في صورة عقد مقارنة بين ما كان وما أصبح، وكيف انحدرت الدولة فانحدر معها كل شيء، بما فيه الفن والإبداع، وما الأخير إلا انعكاس لواقع المجتمع ومستوى تطوره النهضوي.
وهكذا وفق علماء الاجتماع التاريخي والسياسي معًا فإن التماثيل المنتشرة في ربوع مصر تعد مرآة صادقة وكاشفة لأبرز محطات القوة والضعف في تاريخ المحروسة، وعليه فليس هناك من عجب حين نرى العلاقة القوية التي تربط المصريين بتماثيلهم القديمة، إذ يرون فيها ما يفتقدونه اليوم، لذا فهم يتذكرون منها ما مر عليه عقود طويلة في الوقت الذي يعانون فيه من ذاكرة سمكية حيال كل عمل جديد.