اهتمام تركيا بالقارة الإفريقية ليس وليد اليوم، فمنذ تراجع آفاق الالتحاق بالسوق الأوروبية في بداية الألفية الثانية، قررت تركيا البحث عن أسواق جديدة كفيلة باستيعاب ديناميكية شركاتها المصدرة، وابتداء من سنة 2005، أصبحت تركيا منافسًا جديدًا للصين وكذا فرنسا، ذات الإرث الاستعماري بالقارة.
صحيح أن الحضور التركي لم يصل بعد إلى مستوى الاستثمارات الفرنسية والصينية بإفريقيا، التي تبلغ مجتمعة 100 مليار دولار حسب إحصاءات منظمة UNCTAD، لكن المؤشرات الاقتصادية والسياسية تؤكد صعود تركيا بشكل حثيث ومطرد على خريطة التموقع الجيوإستراتيجي بالقارة.
الديناميكية الدبلوماسية والاقتصادية التركية بإفريقيا تزعج بشكل جدي فرنسا على اعتبار أن هذه القارة كانت إلى وقت قريب فضاءً إستراتيجيًا خالصًا لها بناءً على مخلفات إرث المرحلة الاستعمارية.
منذ أكثر من 20 سنة تزايد الحضور التركي بالدول الإفريقية بقوة، فإستراتيجية تركيا للتموقع بالقارة تعتمد على أربع آليات: الاقتصاد وتزايد الحضور الدبلوماسي المباشر بمختلف العواصم الإفريقية والقوة الناعمة عبر التعاون الإنساني والديني والطبي وأخيرًا الحضور العسكري المباشر.
كل هذه المعطيات تفسر أن الطموح التركي للوصول إلى مستوى مبادلات تجارية مع دول القارة الإفريقية يتجاوز 50 مليار بحلول 2023 مقابل 24 مليار سنة 2019 من قبيل الممكن.
بلغ التبادل التجاري بين تركيا ونيجيريا 2.3 مليار دولار سنة 2019، في حين تضاعف التبادل التجاري مع السنغال ثلاث مرات ما بين 2008- 2020 ليصل إلى مستوى مليار دولار
الاقتصاد: حصان طروادة التغلغل التركي بإفريقيا
انتعاش التبادل التجاري بين دول القارة الإفريقية وتركيا معطى تؤكده الأرقام وليس فقط تصريحات السياسيين، فقد أنجزت الشركات التركية أكثر من 1150 مشروعًا طول السنوات الـ15 الأخيرة، بقيمة إجمالية فاقت 65 مليار دولار، وتضاعف كذلك حجم المبادلات التجارية بين تركيا وإفريقيا، ست مرات خلال الفترة الزمنية 2005-2020، ليصل إلى ما يفوق 20.6 مليار دولار.
على سبيل المثال، أصبحت الجزائر الشريك التجاري الثاني لتركيا منذ 2018، حيث تجاوز مستوى التبادل التجاري بينهما 2.2 مليار دولار، في حين بلغ مستوى الاستثمارات التركية المباشرة بالجزائر 3.5 مليار دولار.
نفس الاتجاه يلاحظ فيما يخص السوق المغربية، فتجاوزت الصادرات التركية للمغرب 2.3 مليار دولار بنمو يفوق 16% سنة 2019، وذلك رغم تزايد المطالب من جهة الشركات المغربية بإعادة مراجعة اتفاقية التبادل الحر الموقعة بين البلدين سنة 2004 التي دخلت حيز التنفيذ سنة 2006، بسبب اختلال ميزان التبادل التجاري لصالح الشركات التركية المصدرة.
نفس الديناميكية تلاحظ بالنسبة للتبادل التجاري مع دول إفريقيا جنوب الصحراء، فعلى سبيل المثال، بلغ التبادل التجاري بين تركيا ونيجيريا 2.3 مليار دولار سنة 2019، في حين، تضاعف التبادل التجاري مع السنغال ثلاث مرات ما بين 2008- 2020 ليصل إلى مليار دولار، إضافة إلى نجاح العديد من الشركات التركية في الحصول على صفقات كبرى كمشروع المدينة الجديدة قرب دكار، وبناء خط قطار جديد إضافة إلى الحصول على عقد تسيير مطار العاصمة السنغالية الذي افتتح سنة 2017.
بدأت تركيا بتدشين سياسة قرب دبلوماسي نشط مع إفريقيا، وبعد 15 سنة، تمتلك الآن حكومة أنقرة 42 سفارة مقابل 15 سفارة سنة 2005
الخطوط التركية تربط 59 مدينة إفريقية بإسطنبول
سرعة تزايد الحضور التركي السياسي والاقتصادي يعتمد أساسًا على الدعم اللوجيستيكي لشركة الخطوط الجوية التركية، بشكل مطرد، تمكنت الشركة من توفير أكثر من 59 مسارًا جويًا يربط مدنًا وعواصم إفريقية بإسطنبول، وذلك مقابل فقط 4 عواصم سنة 2008.
مؤشر الارتفاع الكبير والمتسارع للربط الجوي مع القارة الإفريقية دليل على مدى نضج الحضور الاقتصادي للقطاع الخاص التركي في مختلف القطاعات وتزايد حركة رجال الأعمال والكفاءات التركية العاملة على مشاريع البنى التحتية والاستشارية والإنسانية.
لوجستيًا، عبر شركة الخطوط الجوية التركية، تمكنت تركيا من تقوية ديناميكية نقل البضائع والركاب بحيث أصبح مطار إسطنبول الجديد حاليًّا نقطة مركزية لربط الدول الإفريقية بباقي مناطق العالم.
دبلوماسية القرب: 42 سفارة بإفريقيا و35 بعثة دبلوماسية بأنقرة
بشكل مبكر ومنذ 15 سنة، بدأت تركيا بتدشين سياسة قرب دبلوماسي نشط مع إفريقيا، وبعد 15 سنة، تمتلك الآن حكومة أنقرة 42 سفارة مقابل 15 سفارة سنة 2005، وآخر هذه البعثات تم افتتاحها شهر يوليو/تموز 2020 بعاصمة غينيا الاستوائية.
بالتوازي مع هذا الحضور الوازن مباشرة بمختلف العواصم الإفريقية، شجعت تركيا حركة افتتاح السفارات والقنصليات الإفريقية بأنقرة وإسطنبول ليصل عدد هذه البعثات الإفريقية إلى 35 تمثيلية دبلوماسية.
خصوصية الحضور الدبلوماسي التركي بإفريقيا يتميز بالدعم القوي لعمل الشركات التركية وتوفير معلومات الذكاء الاقتصادي لها فيما يخص الفرص الاستثمارية بمختلف بلدان القارة عن طريق المسؤول الاقتصادي والتجاري العامل بكل سفارة.
فقط للتذكير، زار الرئيس التركي 30 دولة إفريقية، وهو الرقم الذي يجعله الزعيم الأكثر زيارة للقارة ودولها.
تمنح سنويًا الجامعات التركية عشرات آلاف المنح الدراسية للطلبة الإفريقيين
القوة الناعمة: التعاون الإنساني والطبي والتعليمي
الاقتصاد أولًا، لكن هذا لا يمنع تطوير مسار القوة الناعمة عبر التعاون الثقافي والديني والطبي، فالنشاط الدبلوماسي للحكومات المتعاقبة بأنقرة رافقته سياسة تقوية نشاط وكالة التنمية والتعاون والتنسيق TIKA والهيئة الخيرية İHH، كما أن فيروس كورونا شكل فرصة لإظهار مدى قوة الدبلوماسية الصحية لتركيا عبر العالم وخاصة إفريقيا، بدليل عدد الرحلات الجوية المحملة بالمستلزمات الطبية الموجهة لوزارات الصحة الإفريقية والمستشفيات للمساهمة في مجهودات مواجهة تحديات انتشار كورونا بدول القارة.
مجهودات TIKA وIHH عبر العالم وخاصة إفريقيا، جعلت من تركيا منذ 2017 أول متبرع للتعاون الإنساني عبر العالم حيث يخصص أكثر من 0.75% من الناتج المحلي للعمليات الإنسانية عبر العالم.
في إطار حرب أردوغان على مخلفات الشبكة التعليمية لمدارس كولن عبر العالم وكذا بالدول الإفريقية، استطاعت مؤسسة وقف المعارف التركية تقوية شبكة مدارسها بالقارة، إذ تتوافر على أكبر عدد من المدارس بإفريقيا، نحو 23 مدرسة من أصل 43 عبر العالم.
على المستوى الجامعي، تمنح سنويًا الجامعات التركية عشرات آلاف المنح الدراسية للطلبة الإفريقيين، لضمان تكوين نخب إفريقية قادرة على تسريع وتيرة التقارب السياسي والاقتصادي بين أنقرة وباقي دول القارة.
حضور عسكري مباشر بليبيا والصومال والسودان
شكلت سنة 2020 منعطفًا عسكريًا للحضور التركي بإفريقيا بسبب الدعم العسكري المباشر المقدم من طرف حكومة أردوغان لحكومة الوفاق الليبية لصد هجمات الجنرال حفتر على العاصمة طرابلس، المدعوم من مصر وروسيا والإمارات وفرنسا والسعودية.
مع توالي النجاحات العسكرية والدبلوماسية لحكومة الوفاق الليبية المعترف بها من الأمم المتحدة، تزداد أهمية تركيا كفاعل مؤثر فيما يخص مستقبل السلام بين فرقاء النزاع الليبي.
تطور حل الملف الليبي سيكون، بكل تأكيد، دعامة للديناميكية التصديرية للشركات التركية
من جهة أخرى، أصبح ملف استغلال الموارد الطبيعية بالمتوسط أكثر تعقيدًا وحساسيةً بعد توقيع تركيا لمعاهدة التعاون الأمني وترسيم المناطق البحرية مع حكومة الوفاق الليبية، لدرجة أن فرنسا وقبرص اليونانية ومصر واليونان اعتبروا هذا الاتفاق باطلًا وغير معترف به.
الدور المحوري لتركيا في ليبيا سواء العسكري أم الاقتصادي عبر اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، أصبح مصدر انزعاج كبير لفرنسا إلى درجة التلاسن القوي بين الرئيسين ماكرون وأردوغان، حيث بلغ تصاعد لهجة الخلاف بين البلدين إلى تصريح ماكرون بأن تركيا تتحمل مسؤولية تاريخية وإجرامية في النزاع الليبي.
للتذكير، قبل التدخل العسكري بليبيا، تركيا كانت حاضرة عسكريًا بإفريقيا عبر قاعدة بالصومال لتدريب الجيش الصومالي وبالسودان عبر إبرام عقد تسيير ميناء جزيرة سواكن لمدة 99 سنة.
أفق تطور الحضور التركي بإفريقيا سيزداد قوةً لا محالة، نظرًا لحركية دبلوماسية أنقرة دوليًا خاصة فيما يتعلق بالنزاع الليبي، حركية تستند إلى حضور عسكري داعم لحكومة الوفاق المعترف بها من الأمم المتحدة.
تطور حل الملف الليبي سيكون، بكل تأكيد، دعامة للديناميكية التصديرية للشركات التركية التي لا تترك أي فرصة طلبات عروض لتوسيع حضورها بالأسواق الإفريقية الواعدة خاصة ما بعد مرحلة جائحة كورونا.