انطلق ماراثون انتخابات مجلس الشيوخ المصري المقرر إجراؤها اليوم وغدًا في الخارج و11 و12 من أغسطس الحاليّ في الداخل، وسط حالة من الصمت المخيم على أرجاء الشارع المصري الذي ينظر للغرفة الثانية من البرلمان على أنها لا تعدو كونها مجلسًا للترضيات السياسية لا أكثر.
تأتي الانتخابات في وقت يضع المصريون الكثير من علامات الاستفهام أمام أداء الغرفة التشريعية الأولى، مجلس النواب، الذي أوشك على إنهاء دورته البرلمانية الحاليّة، في ظل حالة الانبطاح التام أمام المشروعات الحكومية التي لم يرفض منها البرلمان مشروعًا واحدًا رغم تعارض كثير منها مع مصلحة المواطنين.
النتيجة تبدو محسومة سلفًا.. هذا هو العنوان الأبرز للانتخابات المزمع انعقادها هذه الأيام، حيث غياب تام للمنافسة في ظل سيطرة “القائمة الوطنية” المدعومة من النظام على المشهد، كونها القائمة الوحيدة في الانتخابات، ما يعني أن فوزها لم يعد مجالًا للشك، هذا بخلاف سيطرة حزب “مستقبل وطن” خليفة “الحزب الوطني المنحل” على البقية المتبقية من القوائم الفردية، لتزداد مؤشرات خروج مجلس جديد ذي صبغة واحدة.
ورغم تعبيد الساحة تمامًا لإخراج المشهد كما هو مرسوم له، فإن ذلك لم يمنع من العديد من الشروخات الدستورية التي اعتادتها الأحزاب المدعومة من الدولة، على رأسها الرشا الانتخابية والمال السياسي، ففي السابق كان حزب مبارك الوطني واليوم مستقبل وطن، وبين هذا وذاك وطن يئن وشعب يتضور جوعًا.
هندسة المجلس
قبل الولوج في مناطق الاشتباك الدستوري بشأن شروخات الانتخابات وحسم المقاعد مبكرًا، حتى قبل انطلاق الماراثون، كان التساؤل عن كيفية هندسة الغرفة البرلمانية الثانية التي عادت للأضواء بعد غياب دام 6 سنوات كونها بابًا خلفيًا للفساد والمحسوبية، أمر غاية في الأهمية، كونه كاشفًا للكثير من الطلاسم المتعلقة بقراءة المشهد بصورة واضحة.
التصريحات الصادرة عن بعض مرشحي انتخابات الشيوخ تجيب عن الكثير من التساؤلات التي تدور بذهن المتابعين للشأن السياسي المصري، ورغم أنها ليست بالجديدة لكنها أكدت ما كان محل شك وتقييم لدى قطاع كبير من الخبراء، وهذا ربما كان السبب المحوري في فقدان الثقة بتلك الانتخابات.
القائمة الوطنية المشكلة من 11 حزبًا، بين مؤيد ومعارض خجول، بزعامة مستقبل وطن، تفتقد منذ تدشينها وإعلانها لأي برنامج انتخابي، وهو اللبنة الأولى للمشاركة في أي انتخابات يكون المواطن فيها صاحب الكلمة، أو هكذا المفترض، وعلى العكس تمامًا عزفت القائمة على أوجاع المصريين بشيء من السخرية.
الرمز الانتخابي الذي تم الاستقرار عليه لتلك القائمة كان “كليوباترا”، وهو الرمز المرتبط في الثقافة الشعبية المصرية بنوعية السجائر الأقل سعرًا والأكثر استهلاكًا، وذلك بعيدًا عن الرموز التقليدية المعتادة كالجمل والنجمة والهلال، ولذلك رسالة ودلالة يغازل بها المرشحون ناخبيهم، على حد تصريحات عضو بأحد الأحزاب المشاركة في الانتخابات لموقع “مدى مصر“.
ومن نافلة القول نزيد أن هذا الرمز المختار “كليوباتر” هو اسم مصنع السيراميك المملوك لرجل الأعمال محمد أبو العينين، العضو البارز في لجنة السياسات بالحزب الوطني المنحل والمتهم سابقًا باستيراد مواد مخدرة، فهو أحد أكبر ممولي العملية الانتخابية هذا العام، الذي فرض نفسه على المشهد السياسي قبل عدة سنوات مستغلًا قناته “صدى البلد” الداعمة ليل نهار لنظام الرئيس السيسي.
وبالعودة إلى الوراء قليلًا، وتحديدًا بدايات خريف 2019، حين بدأت أول اجتماعات التخطيط لهندسة مجلس الشيوخ بعدما تم الاستقرار على عودته حتى قبل مناقشته داخل البرلمان، حيث التقى مستشار الرئيس للشؤون الأمنية أحمد جمال الدين، بناءً على تكليف مباشر من رئيس الجمهورية، بعدد من القيادات في الأجهزة التنفيذية والسيادية والرقابية وكان السؤال الأول الذي طرح خلال الاجتماع: من اللاعبون الذين سيتم استدعاؤهم لصياغة مشهد انتخابات الشيوخ؟
كان الاختيار هنا بين الدفع بمستقبل وطن كخليفة للحزب الوطني المنحل أم الاستعانة بحزب آخر غير معروف تجنبًا لأي رد فعل سلبي، لكن بعد نقاشات استمرت لعدة أشهر استقر الحال على الدفع بالحزب الوليد الذي أنشاه رئيس اتحاد طلاب مصر، محمد بدران، في نوفمبر 2014، ونجح في أول استحقاق انتخابي شارك فيه في الحصول على 53 مقعدًا من إجمالي مقاعد المجلس الـ596، متصدرًا المركز الأول بين الأحزاب الممثلة في البرلمان.
وهكذا استقر الحال على هندسة الشيوخ كالتالي: سيطرة مطلقة لحزب مستقبل وطن، يليه حزب “الشعب الجمهوري” على أن يقود المشهد عدد من رجال الأعمال أبرزهم: أحمد أبو هشيمة والمنتج محمد حلاوة وطارق رسلان وخالد الأسيوطي ومحمود أبو سديرة، وهؤلاء مكلفون بتمويل العملية الانتخابية في مقابل الحصول على النفوذ ورضا النظام.
وفي النهاية تم إعلان القائمة الوطنية بقيادة الحزب الوليد الذي سيطر على 90% من الترشيحات، بمشاركة 11 حزبًا من الأحزاب المغمورة الأخرى ليضم التحالف: الشعب الجمهوري (الوصيف)، حماة وطن، مصر الحديثة، الوفد، التجمع، المصري الديمقراطي الاجتماعي، الإصلاح والتنمية، الحركة الوطنية، المؤتمر، الحرية، المصري.
المال السياسي
تعود ظاهرة المال السياسي لأول انتخابات تشريعية جرت في مصر عام 1866 حيث عزف الأغنياء على أوتار فقر وعوز المصريين، غير أن تلك الظاهرة كان يحدها الكثير من الخطوط الحمراء، إلا أنها خلال العقود الأخيرة زادت بصورة غير مسبوقة حتى باتت الظاهرة الأبرز حضورًا مع كل ماراثون انتخابي، بحسب أستاذ العلوم السياسية، بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، حسن سلامة.
وتطورت مراحل توظيف المال السياسي في العملية الانتخابية على مدار السنوات الماضية بدءًا من الوعود والتعهدات بتقديم خدمات بعينها وصولًا إلى تقديم الرشا المادية للناخبين نظير مشاركتهم في الانتخابات والتصويت لصالح شخص أو قائمة بعينها، وما بين التطورين سلسلة ممتدة من إستراتيجيات الترهيب والترغيب.
سيطرة رجال الأعمال على انتخابات الشيوخ الحاليّة عزز من منسوب الرشا المقدمة للمواطنين لأجل دعم مرشحي القائمة والمنتسبين لهم على مقاعد الفردي، البداية كانت الحشد لحضور المؤتمرات، فالأعداد الكبيرة التي تملأ سرادقات الدعاية لم تكن حبًا في المرشح أو إيمانًا ببرنامجه غير الموجود أساسًا.
هذا الحضور الكثيف يقف خلفه مبالغ مالية ووعود خدمية وتعهدات مستقبلية، حيث يتم استقطاب أعيان العائلات ومشايخهم لحشد أهليهم وذويهم لحضور تلك الفعاليات التي تعطي صورة ذهنية إيجابية عن شعبية المرشح، وكثيرًا ما يتم تقييم المرشحين بناءً على أعداد الحضور والحشد خلال تلك المؤتمرات بحسب مصادر خاصة.
علاوة على ذلك رصدت بعض منصات السوشيال ميديا سيارات تابعة لحزب مستقبل وطن محملة بالكراتين يتم توزيعها على الفقراء، على أن يكون ذلك مقابل الحصول على وعد بالمشاركة في العملية الانتخابية واختيار القائمة ومرشحي الحزب.
وتشير التقديرات إلى أن الصوت الانتخابي وصل إلى 200 جنيه (الدولار يساوي 16 جنيهًا) يختلف صعودًا وهبوطًا تبعًا للمنطقة التابع لها الدائرة الانتخابية، فقد يصل في بعض المناطق لأكثر من 500 جنيه، خاصة إن كان المرشح من أصحاب البيزنس الباحثين عن الوجاهة والنفوذ.
ويزيد ثمن الصوت أيام الانتخابات، حيث يتولى شخص ما كل شارع أو منطقة على حدة، ويحشد الناس للتوجه لصناديق الاقتراع، حيث يجهز لهم وسائل النقل المطلوبة، مع تقديم وجبات جاهزة للناخبين، ولم تكن تلك الظاهرة بجديدة فتعود إلى عصر مبارك.
عزوف جماهيري
المتابع للمشهد المصري يجد حالة من التجاهل التام لحالة الزخم المفترضة لمثل هذه الاستحقاقات الانتخابية، فلا أحد يتحدث عن تلك الانتخابات، هذا بجانب نظرات السخرية والتهكم التي ترسم على وجوه كل من يواجهون بأسئلة تتعلق بمدى مشاركتهم في هذا الماراثون.
حالة من العزوف الجماهيري الواضحة، تكاد تخلو الشوارع المصرية إلا من اللافتات الخاصة بالمرشحين وميكروفونات الحشد والتحذير من الغرامات للممتنعين عن المشاركة، هذا في الوقت الذي ينظر فيه الجزء الأكبر من المصريين للمجلس الجديد نظرة استخفاف تفتقد للجدية.
الكثيرون تساءلوا عن أسباب عودة مجلس الشيوخ مرة أخرى بعد إلغائه، خاصة أن الإلغاء كان بسبب اتهامات هذه الغرفة الثانية بالفساد والمحسوبية، هذا في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من أزمات اقتصادية طاحنة بجانب حالة من الخواء الديمقراطي بعدما تم تجريف الحياة السياسية برمتها.
بات الجميع على يقين أن مجلس الشيوخ القادم في حقيقته منصة للترضيات السياسية لأكبر عدد من الأشخاص الموالين للسلطة الحاكمة، لا سيما بعد تهميش صلاحيات البرلمان الحاليّ الذي فقد وظيفته الأساسية، خدمة الشعب، لصالح وظيفة أضمن له وأبقى، هي خدمة الحكومة.
وأمام تلك الوضعية من مقاطعة شبه شعبية لانتخابات مجلس الشيوخ، وعودة المال السياسي بمستوى من القوة أكبر مما كان عليه في السابق في ظل تصدر رجال الأعمال للمشهد، بجانب فقدان المنافسة الحقيقية وتعبيد الطريق أمام الحزب المدعوم، باتت النتائج شبه محسومة، فقط الجميع في انتظار الإعلان الرسمي لتبادل التهاني والتبريكات.