أسهم المسلمون في مجالات الطب كافة ونبغوا في الجراحة، عالجوا العلل بالعمليات الجراحية التي ابتكروها وصنعوا الأدوات الجراحية التي تساعدهم في ذلك ولم يتركوا المريض عرضة للألم والمعاناة، بل استخدموا الأعشاب المخدرة التي تدخل المريض في نوم عميق قبل إجرائهم العملية.
عند قراءة ما قدمته الحضارة الإسلامية على يد الأطباء المسلمين في هذا المجال، لا يسعك إلا أن تشعر بعظيم ما أنجزوا، فقد جعلوا التشريح وفهم أجزاء الجسم الأساس للعمل الجراحي وأجروا عمليات البطن والمجاري البولية والولادة وفتح القصبة الهوائية وعمليات العيون وعمليات الأذن وعمليات التجميل، كما ابتكروا خيوطًا للعمليات من أمعاء الحيوانات وطوروا خياطة الجروح بوضع طرق جديدة للخياطة الداخلية دون أن تترك أثرًا، وابتكروا طرقًا لتعقيم الجروح والأدوات المستخدمة.
ولم يكتفوا بتطوير الأدوات المتعارفة آنذاك التي ورثوا بعضها من الحضارات التي سبقتهم، بل صنعوا أدواتهم الخاصة من مباضع مختلفة الأشكال منها لشق الجلد ورفع اللوزتين ومباضع شوكية لفصد البطن وسحب السوائل ومباضع للأذن والعين وأنواع عديدة غيرها، وأنابيب مصنوعة من مواد مختلفة كالنحاس والحديد والفضة والريش ولكل منها استخدامه الخاص، ومحاجم مختلفة الأنواع لإيقاف النزيف ومحاقن مختلفة وأدوات للولادة وصنارات خاصة لقلع الأسنان وجذورها، وابتكروا أدوات خاصة لرفع الأورام (مثل البريد والمدس)، ومشارط متعددة الأشكال والأحجام وأدوات خاصة لجراحة الكسور وأخرى لجراحة العيون.
بتلك الإسهامات العظيمة ساد المسلمون في مجال الطب لقرون، واليوم نتكلم عن امتداد تلك الحضارة بالحديث عن قصة عالم مسلم جليل وجراح عالمي مرموق، أضاف إلى مسيرة الطب الكثير من خلال ريادته في مجال جراحة القلب وزراعة الرئة، هو البروفيسور الليبي هاني شنيب الذي أدخل الروبوت حيز التداخل الجراحي وأغنى البشرية بعلمه وعمله.
هاني شنيب هو سليل عائلة شنيب الليبية العريقة المعروفة برجالاتها، فهو الابن الأكبر لأحمد فؤاد شنيب الأديب والسياسي ورجل الدولة الليبي رائد حركة التعليم في ليبيا، ووالدته السيدة ابتسام ابنة عمر شنيب أحد المجاهدين ضد الاحتلال الإيطالي الذي ساهم في استقلال ليبيا ورسم علم الاستقلال بنفسه وأصبح وزيرًا للدفاع ضمن أول حكومة وطنية بعد الاستقلال.
في خمسينيات القرن الماضي وُلد هاني في درنة – ليبيا وأثرت أسرته على نشأته كثيرًا، فوالده كان محبًا للعلم شغوفًا به، في طفولته المبكرة اضطر إلى التنقل لبلدان عديدة بسبب ظروف عمل والده، حيث انتقلت العائلة إلى فرنسا عندما كان والده يدرس في جامعة السوربون ثم إلى بلجيكا ليكمل والده الاختصاص في مجال علم وضع المناهج التربوية وعلم النفس التربوي، وبذلك أتقن هاني اللغة الفرنسية في عمر مبكر، ثم انتقلت عائلته مرة أخرى إلى أمريكا عندما تم تعيين والده ملحقًا ثقافيًا للسفارة الليبية فأتقن الإنجليزية.
كان لنمط الحياة في واشنطن وحضور العائلة للاجتماعات والمآدب لتلك الطبقة بحكم عمل والده أثر واضح في نمو الحس السياسي في شخصية هاني منذ الطفولة.
عام 1963 عادت العائلة إلى ليبيا وتم تعيين والده وزيرًا للمعارف، وبقي هاني في ليبيا إلى أواخر الستينيات عندما غادر إلى مصر ليدرس الطب، لكن ظروف الشأن الداخلي الليبي ألقت بظلالها على هاني، فبعد انقلاب القذافي وتوليه الحكم أصبح هاني الشاب الطموح معارضًا لنظام القذافي، ما أجبره على ترك مصر والسفر إلى لندن ليكمل دراسته فيها، لكن في لندن لم تكن الأمور بالنسبة للمعارضة الليبية أفضل، فنظام القذافي كان يلاحقهم ما اضطره للسفر كلاجئ إلى كندا.
في كندا التحق هاني شنيب بجامعة McGill ليكمل التخصص في الجراحة عام 1984 ومن ثم التخصص الدقيق في جراحة القلب والشرايين عام 1987 ويليها بزمالة من جامعة تورنتو بتخصص القلب والشرايين عام 1988.
كما حصل على شهادة البورد الأمريكي في الجراحة وجراحة الصدر ودرجة ماجستير العلوم في الجراحة التجريبية من جامعة McGill، وزمالة الكلية الملكية للأطباء والجراحين في كندا والكلية الأمريكية للجراحين.
بهذه الخلفية العلمية الرصينة تدرج البروفيسور هاني شنيب في السلك الأكاديمي كأستاذ في جامعة McGill مونتريال – كندا وأستاذ في قسم الجراحة جامعة أريزونا – كلية الطب في فينيكس.
بدأ البروفيسور هاني شنيب رحلة النبوغ والريادة في ثمانينيات القرن الماضي، بمساهمته بالبحوث والابتكارات في مجال جراحة القلب والصدر، وتبنيه لمفهومه الخاص في هذا المجال “باتباعه التقنيات المبتكرة ذات الحد الأدنى من التدخل الجراحي في عمليات القلب والأوعية الدموية والصدر”، واستطاع أن يترجم ذلك كحقيقة ماثلة بإجراء أول عملية للقلب في العالم بمساعدة الروبوت عام 2000 في مانهاتن.
في جراحات الصدر والقلب التقليدية، يتوجب على الجراح شق الصدر بجرح طوله نحو 30 سنتيمترًا وإبعاد الأضلاع وإيقاف القلب لإجراء التداخل المطلوب، الأمر الذي يستلزم فترة تعافي مطولة بعد العملية، لكن باستخدام الروبوت، فإن الجراح لا يحتاج إلا لثلاث فتحات صغيرة إحداها لدخول الكاميرا والأخرتان لإدخال أذرع الروبوت التي يحركها الجراح بدقة لإجراء العمليات ما يخفف مخاطر الجراحة ويقلل فترة التعافي التي قد يحتاجها المريض بعد العملية.
كما يعتبر البروفيسور هاني شنيب رائد عالمي في مجال زراعة الرئة، فقد أجرى عشرات العمليات في هذا المجال واتبعها ببحوث لكي يتسنى لمن يتبعه الاستفادة بما قام به.
للبروفيسور هاني شنيب أكثر من 200 بحث من الأبحاث الرصينة في مجال تخصصه (التداخلات الجراحية في علاج الشرايين والتقنيات المتبعة في ذلك وأبحاث متعددة عن عمليات زراعة الرئة)، كما له أكثر من 17 براءة اختراع عن الأدوات التي ابتكرها لتساعد الجراحين في إيقاف النزيف الدموي وعمليات تصليح صمامات القلب وأدوات أخرى لربط الأوعية الدموية وغيرها من الأدوات).
بهذه الإنجازات العظيمة والعبقرية التي يمتلكها، لا يزال البروفيسور هاني شنيب يساهم في إثراء تخصص جراحة القلب والشرايين من خلال وجوده الدائم والفعّال في العديد من اللجان والمجالس الاستشارية للشركات الرائدة في الابتكارات التكنولوجية وترؤسه العديد من الأبحاث المقامة في المعاهد القومية للصحة NIH عن سرطان الرئة.
عند النظر إلى الجمعيات التي يترأسها أو التي يساهم فيها بعضويته لا يسعك إلا أن تقف منبهرًا بشأن تلك المقدرة الجبارة على الاستمرار بالعطاء ومسابقته لعقارب الساعة بشكل يومي للعمل الدؤوب دون أي تراخٍ أو كسل، فالبروفيسور هاني شنيب هو ممثل أمريكا الشمالية وعضو في المجلس التنفيذي للجمعية العالمية لجراحة القلب والأوعية الدموية والصدر World Society of CardioVascular and Thoracic Surgery، فضلًا عن كونه عضوًا سابقًا في العديد من اللجان التابعة للجمعية الأمريكية لجراحي الصدر AATS وعضوًا في الجمعية الأوروبية لجراحة القلب والصدر وغيرها الكثير.
رغم نبوغه في الطب ووصوله للقمة واحتضان الغرب لكفاءته، لكن دم الأحرار الذي يجري بعروقه جعله يحمل هموم بلده أينما حل به المطاف، ساعيًا بكل ما يملك من خبرات وعقلية سياسية وعلاقات إلى الإسهام في إنقاذ ليبيا التي يحب ومحاولاته المستميتة بالارتقاء بأبناء بلده وتوعيتهم وإرشادهم إلى طريق العلم الذي به تزدهر الأمم وتبلغ الحضارات مرتقاها، حيث أسس المجلس الوطني للعلاقات الأمريكية الليبية The National Council on US-Libya Relations (الغاية من المجلس تعزيز المشاركة الأمريكية في ليبيا من أجل انتقال ديمقراطي ناجح وبناء دولة فعالة من خلال تزويد المؤسسات الأمريكية وصناع القرار بمعلومات دقيقة وفي الوقت المناسب عن الجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية ذات الصلة في ليبيا).
بهذه الحنكة ومستوى العلاقات الرفيع التي يمتلكها، استطاع البروفيسور هاني شنيب تسلم العديد من المناصب المرموقة مثل رئاسة المجلس الوطني للعلاقات العربية الكندية the National Council on Canada-Arab Relations (وهو منظمة وطنية خيرية هدفها تعزيز معرفة وفهم الكنديين للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي للعالم العربي) وعضوية بورد محافظي جامعة كونكورديا – مونتريال (وهو الهيئة الإدارية العليا للجامعة، المسؤولة عن وضع الإطار القانوني والإداري للجامعة).
الثقة التي يحظى بها البروفيسور هاني شنيب كمؤثر في الرأي العام، أهلته للإسهام بحل النزاعات العالمية كما حدث في أزمة الممرضات البلغاريات، بالإضافة إلى مشاركاته في الأندية الاقتصادية العالمية في الشرق الأوسط وتقديمه الاستشارات للدول التي تريد أن تطور القطاع الصحي مثل الاستشارات التي قدمها للإمارات والكويت وكازاخستان والبوسنة وليبيا.
وعلى الصعيد الشخصي البروفيسور هاني شنيب قارئ نهم، ورث حب الأدب عن والده ويمكن ملاحظة ذلك جليًا في كتاباته، فهو ينشر المقالات عن الشأن الليبي وانعكاسات الشأن العالمي على ليبيا (ملاحظات شخصية عن ثورة 23 يوليو وانحراف الذهن العربي، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتأثيره على المعضلة الليبية، نظرتي وتجربتي مع شيمون بيريز) كما يكتب تارة بسخرية لاذعة وتارة بأسلوب أدبي متمكن على صفحة الفيسبوك.