كشفت وثائق سرية عن اهتمام بريطانيا لوضع مصر المائي قبل ثلاثين عاما.
وحسب الوثائق التي نشرتها هيئة لاإذاعة البريطانية “بي بي سي”، فقد تنبأت بريطانيا بأزمة سد النهضة، وتوقعت ألا تقبل مصر أن تكون “رهينة لسلاح المياه الاستراتيجي”.
وتكشف الوثائق عن أن التقدير البريطاني لأزمات المياه المستمرة بين مصر وإثيوبيا والسودان توصل، في عام 1990، إلى أن ثَنْي إثيوبيا عن تنفيذ مشروعات قد تضر بالمصالح المصرية، هدفٌ على مصر أن تدرك أن تحقيقه غير واقعي.
كيف بدأ الاهتمام
خلال عقد الثمانينيات (1980- 1990) من القرن الماضي، واجهت مصر مشكلة كبيرة بسبب الجفاف في حوض النيل الذي أدى إلى قلة المياه في بحيرة ناصر، التي تتجمع فيها المياه خلف السد العالي.
غير أنه في عامي 1988 و1989 حدثت فيضانات بمعدل كبير، أنقذت البلاد من أزمة كانت أكبر من قدرة مصر على مواجهتها.
وفي هذه الأثناء، نبه الخبراء البريطانيون إلى حقائق مثيرة للقلق منها أن الاحتمال الأرجح هو أن تزيد التقلبات في مستوى الفيضانات ولا تقل، وأنه من المرجح أن يقل متوسط تدفق المياه في النيل الأزرق، المصدر الرئيسي لمياه نهر النيل.
في سنوات الجفاف يمكن أن يكون بيد إثيوبيا سلاح استراتيجي محتمل
وتوقع البريطانيون أن “الحكومة المصرية لا يمكنها تقبل الوضع (مواجهة أزمات مياه متكررة)”، وأنه “ليس هناك ضمانة بأن تحدث فيضانات بهذا القدر (الذي وقع بين عامي 1988 و1989) في المستقبل”. لذلك وضعت بريطانيا مشكلات مياه النيل ضمن قائمة اهتمامات سياستها الخارجية. وطلب وزير الخارجية دراسة لتقدير الموقف بشأن العلاقة بين دول حوض النيل، التسع وهي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا وزائير وروندا وبوروندي والسودان ومصر.
وبالفعل تم إعداد دراسة بعنوان “نهر النيل”، ضُمت إلى وثائق السياسة الخارجية البريطانية.
توقعات الدراسة
انطلقت الدراسة من حقيقتين ثابتتين مهمتين، أولاهما هي أن 86 في المئة من مياه النيل تأتي من المرتفعات الإثيوبية، وثانيتهما هي أن مصر تعتمد بشكل كامل تقريبا على مياه النيل.
وحسب الدراسة البريطانية، فإنه “في سنوات الجفاف، يمكن أن يكون بيد إثيوبيا سلاح استراتيجي محتمل، أي إنها ستكون في موقف يتيح لها حبس المياه عن مصر والسودان. وهذا سوف يحقق المخاوف المصرية من الوقوع رهينة من جانب دولة منبع”.
وتوقع البريطانيون أنه “من غير المرجح أن تشعر أي حكومة مصرية بأنها قادرة على قبول موقف كهذا”.
ورغم دعوته إلى ضرورة إبرام اتفاق دولي عام يضع إطارا للتعامل مع مياه النيل بين الدول المعنية، فإن تقدير الموقف البريطاني استبعد تحقق هذا الهدف على أرض الواقع.
وقال إن “التهديد بالاستخدام الاستراتيجي للخزانات الإثيوبية خلال أوقات الجفاف يُعقّد بدرجة هائلة المفاوضات اللازمة لإبرام اتفاق دولي بشأن التنمية المستقبلية لحوض أعالي النيل”.
ماذا بوسع مصر أن تفعل؟
رأت الدراسة البريطانية أن الحكومة المصرية “بحاجة إلى مواصلة مساعيها الدبلوماسية لضمان ألا تفعل دول المنبع أي شيء يحرم مصر من المياه التي تحتاجها”.
غير أنها أبدت تشاؤما إزاء إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل يحل مشكلة استخدام مياه النيل حلا جذريا.
البريطانيين رأوا أن الظروف السائدة آنذاك تؤجل تفاقم أزمة مصر المائية إلى نهاية القرن العشرين.
وقالت إن “اتفاقا شاملا بين كل دول حوض النيل التسع يمكن أن يتيح المزيد من المياه لهم جميعا، غير أن هذا (الاتفاق) يظل هدفا مثاليا خياليا”.
وأرجعت هذا التشاؤم إلى أسباب منها أن “حكومات دول المنبع لديها مشكلات أكثر إلحاحا لا بد من التعامل معها، إضافة إلى أن المنافع التي تعود عليها من تلبية مطالب مصر بشأن مياه النيل قليلة”.
كما أن الخلافات السياسية بين الدول التسع “تقف أيضا حجر عثرة في طريق التوصل إلى اتفاق شامل”.
لكن البريطانيين رأوا أن الظروف السائدة آنذاك تؤجل تفاقم أزمة مصر المائية إلى نهاية القرن العشرين.
وأوضحت دراستهم أنه “بينما من الرشد أن تهتم الدبلوماسية المصرية بهذه المسألة الآن، فإن حالة التخلف عن التنمية في دول المنبع الواقعة على ضفتي النيل تجعل من غير المحتمل أنها سوف تسبب أي ضرر جدي لمصالح مصر في مياه النيل قبل نهاية هذا القرن”.
وتنبأ البريطانيون في عام 1990 بالخلاف الحالي، الذي تفاقم مع بدء إثيوبيا ملء الخزان وراء سد النهضة.
في حينه، قالت الدراسة البريطانية إن استخدام دول المنبع لكميات أكبر من المياه” سيمثل مشكلة لمصر” على المدى الأبعد.
وقالت إن “من غير المرجح أن يشكل هذا تهديدا لإمدادات المياه لمصر حتى القرن القادم (الحادي والعشرين الذي مر منه 20 عاما)، فقط بسبب طبيعة هذه الدول (دول المنبع) المتخلفة عن التنمية”.
وأضافت أن “عدم الاستقرار السياسي والقيود على المعونات الخارجية سوف يبقي بالتأكيد على هذا الوضع على المديين القصير والمتوسط على الأقل”.
لم تغفل الدراسة البريطانية، في حينها، رأي “بعض الخبراء الذين يعتقدون بأن ما يمكن أن تفعله إثيوبيا على النيل الأزرق وروافده لن يحرم مصر والسودان من قدر كبير من المياه”.
لم يحدد البريطانيون مدى صحة هذا الرأي. غير أن دراستهم قالت: “سواء كان هذا (الرأي) صحيحا أم لا، فإنه من الحكمة أن تحاول مصر الانخراط مع الإثيوبيين في حوار يمكن أن يؤدي إلى نوع ما من اتفاق دولي يجعل كل الدول الثلاث (إثيوبيا والسودان ومصر) التي تستخدم مياه النيل الأزرق تستفيد بدلا من أن تعاني”.
ورغم المساعي المصرية آنذاك لتحقيق هذا الهدف، فقد انتهت الدراسة إلى أن “الإثيوبيين من ناحيتهم أظهروا ممانعة للانجرار إلى حوار بشأن موضوع النيل”.
وبدأت إثيوبيا في العقد الأول من القرن الحالي ببناء السد وتسارعت وتيرة العمل فيه أثناء الاضطراب السياسي في مصر بعد ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011.
وفي عام 2015 وقعت مصر وإثيوبيا والسودان اتفاق مبادئ، اعتبره معارضون، ضوءا أخضر مصريا لإثيوبيا لبناء السد. وفي شهر تموز/ يوليو الماضي بدأت إثيبويا بملء خزان السد، رغم اعتراضات الجانب المصري والسوداني.
لا حلول
وكشف خبير بملف نهر النيل أن الحديث عن حلول لأزمة مفاوضات سد النهضة الإثيوبي بات غير مجد، في ظل فشل الجولة تلو الأخرى من المفاوضات بين أطراف الأزمة (مصر، السودان، إثيوبيا)، وأن الأقرب للواقع هو الحديث عن نتائج وآثار أزمة نقص المياه.
وقلل محمد محيي الدين، عضو اللجنة الوطنية المصرية لدراسة آثار سد النهضة الإثيوبي سابقا، ومستشار البرنامج الإنمائي للأمم بشأن مياه النيل، في حوار لـ”عربي21″، من فرص التوصل لاتفاق؛ بسبب ما أسماه “الخلاف الكبير في النقاط الفنية بشأن السد الإثيوبي”.
وأكد أن ما يتم طرحه من حلول، مثل اللجوء إلى مجلس الأمن، أو المحكمة الدولية، والانسحاب من اتفاق المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا، لن يغير من موقف الحكومة الإثيوبية، وسوف تستكمل عملية البناء والملء وجميع الأمور الفنية بشكل منفرد، وسيكون الرد الدولي حينها متأخرا.