ترجمة وتحرير: نون بوست
يوم الثلاثاء وتحديدا حوالي الساعة 6 مساء، اندلع حريق في مستودع صغير بالقرب من صوامع الحبوب في مرفأ بيروت وبدأت شرارات اللهب بالتصاعد. أدت النيران إلى انفجار هائل خلف سحابة على شكل فقاعة من المياه والحطام وأعمدة دخان برتقالية وحمراء وسوداء تتصاعد من المستودع.
تسببت الموجة الصدمية في تدمير المستودعات المجاورة والمجمعات السكنية القريبة، فتحطمت الأبواب والنوافذ على بعد عدة أميال. وحتى زمن كتابة هذا التقرير، تم الإبلاغ عن مقتل 154 شخصًا وأكثر من 5000 جريح وتشريد 300 ألف شخص بينما لا يزال عشرات الأشخاص في عداد المفقودين.
في حين انصب الاهتمام والغضب على عدم كفاءة وعجز الحكومة والسلطات اللبنانية، فإن جذور الكارثة تمتد إلى ما هو أعمق وأبعد وأوسع نطاقا وتحديدا إلى شبكة من رأس المال البحري والمراوغات القانونية المصممة لحماية الشركات بأي ثمن.
مهما كان سبب اندلاع الحريق الأولي، فإن الانفجار الثانوي الذي دمر المرفأ وجزءًا كبيرًا من المدينة نتج عن 2750 طنًا من نترات الأمونيوم المخزنة في مستودع بالمرفأ، وهي مادة كيميائية تستخدم في كل من الزراعة والبناء. ترتبط نترات الأمونيوم بتفجير بيشوبسغيت سنة 1993 في لندن وتفجير أوكلاهوما سنة 1995. كما كانت سبب الانفجارات الضخمة في جالفستون بتكساس سنة 1947 وميناء تيانجين في الصين سنة 2015، وكلاهما قتل العشرات. فكيف انتهى المطاف بمثل هذه المادة الخطيرة في مستودع قريب جدًا من المناطق السكنية في بيروت؟
في أيلول/ سبتمبر 2013، أبحرت سفينة الشحن “إم في روسوس” – المملوكة من قبل رجل أعمال روسي ومسجلة لدى شركة في بلغاريا وتحمل علم مولدوفا – من باتومي في جورجيا متجهة إلى موزمبيق حاملة شحنة من نترات الأمونيوم اشترتها شركة “فابريكا دي إكسبلوسيفوس دي موزمبيق“، وهي شركة تصنع متفجرات تجارية. كان يعمل على متن السفينة ثمانية أوكرانيين واثنان من أفراد الطاقم الروسي الذين لم يعرفوا أن الطاقم السابق غادر السفينة احتجاجا على عدم دفع أجورهم.
عندما أجبرت السفينة روسوس من قبل مالكها على التوقف في بيروت لنقل المزيد من الحمولة، صادر المسؤولون اللبنانيون السفينة لخرقها معايير المنظمة البحرية الدولية وعدم دفع الرسوم، بما في ذلك رسوم الرسو في المرفأ. ومن الممكن “احتجاز” السفن إذا لم يكن لديها الأوراق اللازمة، أو إذا اعتبرت غير آمنة أو خطرة بيئيا، أو إذا كان عليها ديون مستحقة، من بين أسباب أخرى.
على الرغم من أن معظم اللبنانيين غاضبون بشدة من عدم كفاءة السلطات اللبنانية، فإن اللوم يقع أيضًا على الصفقات المهلكة للعاصمة البحرية الدولية
كان مالك السفينة إيغور غريتشوشكين قد سجل سفينته في مولدوفا، حيث يعتبر تسجيل السفن هناك أكثر تساهلاً من أي مكان آخر من حيث تطبيق لوائح العمل والصحة والسلامة والبيئة. تعتبر السجلات المفتوحة بمثابة “أعلام الملاءمة”، حيث ترفع السفينة علم بلد مختلف عن علم مالكها الأصلي.
ابتكر المحامون الأمريكيون رايات السفن لأول مرة في الدول العميلة مثل بنما وليبيريا وهندوراس. وحتى في الوقت الراهن، يتم تحويل أعظم قدر من أرباح بعض أكبر السجلات المفتوحة إلى شركات خاصة في الولايات المتحدة. ووفقًا للكاتب الأمريكي جون ماكفي، فإن “الملاءمة” في “أعلام الملاءمة” تتلخّص في حقيقة “أنها تسمح بتجنب الضرائب، والتغاضي عن التأمين إلى حد كبير، كما يمكن دفع الأجور المغرية، مثل التي تُدفع لأصحاب السفن، للبحارة التجار الذين تم اختيارهم من أي جزء من العالم”.
عندما أدرك غريتشوشكين ما قد يكلفه حجز سفينة روسوس، شرع في إجراءات الإفلاس وتخلى فعليًا عن السفينة وطاقمها. كما تخلى المرسلون من الموزمبيق عن شحنة نترات الأمونيوم. وفي الواقع، يتم التخلي عن السفن من قبل أصحابها بانتظام بشكل يثير الجزع، وذلك غالبا لتجنب دفع أجور الطاقم المستحقة عليهم. وفي كثير من الأحيان، تحتفظ منظمة العمل الدولية بقاعدة بيانات للبحارة المتروكين. كما يتم بيع شحنة السفينة المهجورة بالمزاد العلني لتسديد أجور الدائنين، أو أجور الطاقم غير المدفوعة أو تكاليف التنظيف والتخلص من النفايات.
ولكن في لبنان، لم تبع الشحنة، ورفضت السلطات السماح لأربعة من البحارة بمغادرة السفينة دون وجود طاقم بديل. وقد تُرك القبطان وأعضاء الطاقم المتبقون على متن السفينة، التي بقيت محملة بشحنتها المتفجرة، لمدة سنة تقريبًا دون أجور ولا حتى إمكانية إجراء اتصالات إلكترونية، ناهيك عن تناقص الإمدادات الغذائية والوقود.
كان طاقم سفينة روسوس رهائن في المفاوضات بين سلطات الموانئ اللبنانية – التي لم ترغب في تحمل مسؤولية الحمولة الخطرة للسفينة – وصاحب السفينة. وفي آب/ أغسطس 2014، أمر قاضٍ لبناني بالإفراج عن البحارة، ونُقلت بعد ذلك الحمولة البالغة 2750 طنًا من نترات الأمونيوم من السفينة إلى مستودع في مرفأ بيروت.
على الرغم من أن معظم اللبنانيين غاضبون بشدة من عدم كفاءة السلطات اللبنانية، فإن اللوم يقع أيضًا على الصفقات المهلكة للعاصمة البحرية الدولية. في الحقيقة، لا تنتمي كل بلدان العالم إلى قائمة الدول الموقعة على المعاهدات البحرية الدولية التي تنظم ظروف العمل ومرور البضائع الخطرة. وحتى لو كانت كذلك، فإن هذه الدول لا تتمتع بموارد كافية لملاحقة الدعاوى المرفوعة ضد شركات الشحن عديمة الضمير. علاوة على ذلك، نادرًا ما يتم البت في النزاعات الدولية بين الحكومات والمستثمرين الأجانب لصالح الحكومات.
تسمح أعلام المواءمة، التي تعدّ في الأساس أداة توريد إلى الخارج تهدف إلى حماية رأس المال، للسفن غير الآمنة بالإبحار مع أطقمها المعرضة للانتهاك من قبل أرباب العمل عديمي الضمير. وحتى أغنى شركات الشحن في العالم، التي تقع في أوروبا وشرق آسيا، ترفع أعلاما غير أعلام دولها لتوفير الأجور والضرائب والتأمين.
عموما، إن إزالة أحكام النقل إلى الخارج هذه وإزالة أعلام الملاءمة وإصلاح آليات التحكيم التي غالبًا ما تضر بالبحارة والدول الأقل قوة ليست سوى الخطوات الأولى نحو معالجة المخالفات التي أدت إلى المأساة التي وقعت يوم الثلاثاء. ومع استقرار الوضع في بيروت، هناك الكثير من العمل الذي يجب القيام به.
المصدر: الغارديان