يُقال إن الجزائر بلد “ريعي” بامتياز، تتلقى الجزء الأكبر من دخلها من صادرات البترول، لكنها ليست كما يُعتقد بل تحوز ثروات معدنية مهمة، بقيت طي النسيان طيلة العقدين الماضيين من الزمن.
ودفعت الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر منذ 2014 بسبب تهاوي أسعار النفط في الأسواق العالمية، التي تفاقمت حدتها بشكل كبير بسبب تداعيات جائحة كورونا، بالسلطة الجديدة في الجزائر إلى استغلال ثروة المناجم لمواجهة الضغوطات المالية التي تواجهها الخزينة العمومية، في ظل تراجع احتياطي الجزائر من العملة الصعبة إلى 62 مليار دولار حسبما أعلن محافظ بنك الجزائر أيمن عبد الرحمن شهر فبراير/شباط الماضي.
الثروة المنجمية للنهوض بالاقتصاد المهدد بالانكماش
ومن بين ما أقره آخر اجتماع لمجلس الوزراء الجزائري المنعقد برئاسة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بتاريخ 26 من يوليو/تموز الماضي، اللجوء إلى الثروات المنجمية المنسية بهدف النهوض بالاقتصاد الجزائري المهدد بالانكماش بسبب انعكاسات وباء كورونا الذي اجتاح العالم بأسره، ويندرج هذا القرار في إطار ما يعرف بـ”خطة إنعاش اقتصاد الجزائر” التي تتضمن 37 بندًا في عدة قطاعات على غرار الطاقة والزراعة والمالية والصناعة، ومن أبرز البنود، الشروع في عمليات التنقيب واستكشاف للاحتياطات غير المستغلة من الطاقة (النفط والغاز)، عن طريق دراسات دقيقة وموثقة في اليابسة والبحر على حد سواء.
وكلَف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وزارة المناجم التي استحدثت في آخر تعديل حكومي أجري، بتسطير برنامج حكومي خاص، يستهدف استغلال الثروات المنجمية في البلاد، وعلى رأسها منجم غار جبيلات للحديد الواقع على بعد 130 كيلومترًا جنوب شرق محافظة تندوف أقصى جنوب غرب الجزائر، ويصنف كأحد أكبر احتياطات الحديد في العالم ويلقب من طرف أبناء المنطقة بـ”العملاق النائم”.
وبحسب تصريحات وزراء سابقين تعاقبوا على قطاع المناجم، فإن منجم غار جبيلات يحتوي على مجموع احتياطي منجمي بـ1.5 مليار طن، بنسبة حديد تصل إلى 56%، غير أن هذا المشروع بقي مجرد حبر على ورق رغم قدرته الكبيرة على تحرير البلاد من “سجن الريع” الذي بقيت حبيسته طيلة نصف قرن من الاستغلال.
وقدم وزير الصناعة والمناجم السابق عبد السلام بوشوارب الفار خارج البلاد منذ أكثر من عام بسبب تورطه في قضايا فساد، في إحدى ندواته الصحفية مع وسائل الإعلام، مشروع “غار جبيلات” على أنه حلم يراوده منذ الصغر، وبقي كذلك لأنه وإلى غاية إعلان السلطة الجديدة في الجزائر رغبتها في استغلال البلاد لمواردها الباطنية خارج قطاع النفط والغاز، ولم يحقق المشروع أي تقدم ملحوظ رغم إطلاق صيف 2016 استشارة دولية لإنجاز دراسة الجدوى القبلية للمشروع.
وهناك أيضًا منجم الزنك والرصاص بوادي آميزور بمحافظة بجاية (شمال شرق الجزائر) ومشروع الفوسفات بالعوينات بمحافظة تبسة الحدودية مع تونس، إضافة إلى مناجم الذهب في محافظة تمنراست الجنوبية الشاسعة عند حدود مالي والنيجر.
رهان الحكومة الجزائرية على استغلال الثروات المنجمية في البلاد لتوفير دخل جديد للخزينة العمومية وتعويض الخسائر الفادحة التي تكبدتها، ستواجهه جملة من التحديات
وحمّل وزير المناجم محمد عرقاب، عند نزوله ضيفًا على القناة الإذاعية الحكومية، يوليو/تموز الماضي، الحكومات المتعاقبة في عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة مسؤولية عدم استغلال الثروات المعدنية الباطنية والسطحية، وقال إن حكومة الجزائر الآن بصدد التوجه نحو تنويع الاقتصاد الجزائري المعتمد على عائدات المحروقات.
وذكر الوزير الجزائري أن باطن الجزائر يحوي 1000 مادة معدنية منها 70 مليون طن من الحديد موجودة بين الونزة وبوخضرة و3 ملايين طن في غار جبيلات، أما بالنسبة للفوسفات فيبلغ 2.5 طن موجود بين بئر العاتر وضواحيها إضافة إلى معادن أخرى نفيسة وغير نفيسة.
وكشف أن هناك ثلاثة مناجم تحظى بالأولوية في المرحلة الحاليّة بينها منجم “أميزور” الذي سيوفر المادة الأولية للصناعات الجزائرية والتصدير نحو الخارج، إضافة إلى منجم غار جبيلات الذي قال بخصوصه إنه يعتبر أحد المناجم الثلاث المهمة انتهت به الدراسات وسيدخل مرحلة الاستغلال بالتعاون مع شريك أجنبي في الثلاثي الأول من سنة 2021 ويعمل على توفير المادة الأولية للمصانع الجزائرية.
ويبدو أن رهان الحكومة الجزائرية على استغلال الثروات المنجمية في البلاد لتوفير دخل جديد للخزينة العمومية وتعويض الخسائر الفادحة التي تكبدتها، ستواجهه جملة من التحديات.
مجال واعد.. يواجهه 12 تحديًا
يذكر الخبير في مجال الطاقة مهماه بوزيان، في حوار خص به “نون بوست” 12 تحديًا يواجهون هذا المجال الواعد، يتمثل التحدي الأول في ضرورة بعث نشاط الاستكشاف بكثافة بهدف إعادة تحيين خرائط المكامن المنجمية على طول الإقليم الجغرافي الجزائري.
ويؤكد المتحدث أن الإقدام على هذه الخطوة يتطلب استثمارات ضخمة، لأن نشاط الاستكشاف المنجمي “عالي المخاطرة المالية”، ويقول المتحدث في هذا السياق إنه لا مفر من اللجوء إلى شراكات أجنبية كبيرة، تجلب الاستثمارات والتكنولوجيات والخبرات.
ويتمثل التحدي الثاني بحسب الخبير في مجال الطاقة مهماه بوزيان، في خفض كلفة إنتاج الطن الواحد من مواردنا المنجمية، مع وضع ميكانيزمات إجرائية بإمكانها تحقيق التوازن بين العوائد الاقتصادية والمتطلبات الاجتماعية وخلق مناصب الشغل خصوصًا.
أما التحدي الثالث الذي يراه مهام بوزيان في غاية الأهمية، فيتمثل في الذهاب سريعًا نحو تعديل وتحيين قانون المناجم الحاليّ والساري، وتضمينه رؤية واضحة وشفافة وإستراتيجية مستقرة لخلق جاذبية للاستثمارات الأجنبية مكافئة لجاذبية المجال الجيولوجي المنجمي الجزائري، إضافة إلى تحدي تحييّن القوانين والتشريعات والتنظيمات، لتعزيز إجراءات السلامة للعنصر البشري والحماية للعاملين، وكذلك لوضع سبل جديدة ومبتكرة تسهل إعادة إدماج الكفاءات المتسربة، لتثمين شعب الهندسة وتحسين الوضع المالي والمهني للمهندسين.
أصبح من الضروري وضع محطات للطاقة الشمسية خاصة الهجينة بمحاذاة الموقع المنجمي لضمان تزويد النشاط بالطاقة المستديمة
وهو ما كشفه وزير المناجم، محمد عرقاب، حيث قال إن تطوير القطاع المنجمي يرتكز على أربعة محاور أبرزها إعادة النظر في القانون المسير للنشاط المنجمي لجعله أكثر جاذبية للمستثمرين المحليين والأجانب، أما الثاني فيتمثل في إعادة النظر في الخريطة الوطنية المنجمية لجعلها تستجيب للمعايير العالمية من حيث الدقة.
ويشدد الخبير في مجال الطاقة على ضرورة حشد كميات معتبرة من المياه في عمليات الاستخراج والصقل، وخاصة في المناطق التي تعاني شحًّا في الموارد المائية، إضافة إلى الطاقة بحيث يقترح المتحدث ضرورة وضع محطات للطاقة الشمسية خاصة الهجينة بمحاذاة الموقع المنجمي لضمان تزويد النشاط بالطاقة المستديمة.
8 ثروات معدنية تزخر بها الجزائر
إلى ذلك يؤكد الخبير الطاقوي أن الجزائر تزخر بثروات معدنية مهمة أبرزها مادة السيليسيوم التي يشكل الطلب عليها لصناعة الألواح الكهروضوئية نسبة 18% من الطلب العالمي، بحجم قدره 400 ألف طن، إضافة إلى مادة الليثيوم، هذا المورد المعرض للاستنزاف عالميًا تبعًا لثورة السيارات الكهربائية، حيث تبلغ مجمل الاحتياطيات العالمية منه نحو 80 مليون طن، ومادة البيريليوم، التي تقدر الموارد العالمية منها بنحو 100 ألف طن، وما يقارب 60% من هذه الموارد موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية.
الجزائر تحوز ما يقارب الـ2% من الاحتياطي العالمي المؤكد من خام الحديد
ففي سنة 2019، تم استخدام نحو 21% من منتجات البريليوم في المكونات الصناعية، و20% منها في تطبيقات الفضاء والدفاع، و14% منها في إلكترونيات السيارات والبنى التحتية للاتصالات، و9% منها في تطبيقات الطاقة. وتشير التقديرات الأولية على حيازة الجزائر 2500 طن منها في حوض الهقار (في محافظة تمنراست الحدودية أقصى جنوب الجزائر).
ومن بين الثروات الأخرى التي يقول عنها الخبير في المجال الطاقوي إنها تشكل ثروة المستقبل “الفوسفات” باعتبارها تشكل مادة أساسية لكل من الزراعة والصناعة حيث يقدر الاحتياطي الجزائري من هذه المادة بأكثر من 2.2 مليار طن، وهو ثالث احتياطي عالمي، بعد كلّ من احتياطيي الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية والصين.
ويشير المتحدث إلى مادة الحديد أيضًا، فالجزائر على حد قوله تحوز ما يقارب الـ2% من الاحتياطي العالمي المؤكد من خام الحديد، إضافة إلى عنصر الهيليوم المهدد بالنضوب وثروات المغنسيوم والفحم.
ضرورة استحداث بنوك خاصة
ومن جهته يرى الخبير الاقتصادي، محمد حميدوش، أن قانون المناجم الحالي يعتبر من أبرز العقبات التي تحول دون تطوير هذا المجال، ويشدد المتحدث على ضرورة الإسراع في صياغة قانون جديد لتحديد حقوق وواجبات المستثمرين في هذا المجال سواء المحليين أم الأجانب، ويلح على ضرورة الفصل بين “الاستكشاف والاستغلال في القانون الجديد بهدف توفير حماية قانونية لحقوق الاستكشاف”.
تبون: من غير المعقول ألا تستغل الجزائر هذه الثروات
ومن عيوب القانون الحاليّ، يذكر محمد حميدوش أنه لم يمنح حق المبادرة للخواص، إضافة إلى عدم استحداثه بنوكًا خاصة ترافق عمليات الاستكشاف التي يطلقها الخواص وتحتاج إلى تمويل كبير بضمانات كبيرة للبنوك.
ويؤكد المتحدث ضرورة استحداث قانون جديد على المدى الطويل، لأن الاستثمارات في قطاع المناجم والاستكشاف في الثروات الطبيعية تكون طويلة المدى، ويرى أن استقرار القوانين من شأنه تحفيز المستثمرين الأجانب لاختراق هذا المجال واستكشافه.
وفي تصريح مقتضب أدلى به الرئيس تبون قبل شهرين، قال فيه: “بلادنا تزخر بثروات هائلة غير مستغلة مثل المعادن النادرة التي تحتل الجزائر فيها المرتبة الثالثة عالميًا”، وأضاف “أعطيت أمرًا لوزارة الصناعة للقيام بإحصاء دقيق لهذه الثروات، وإعداد دفتر أعباء مع بنوك أعمال قصد الشروع في استغلالها”.
واعتبر تبون أنه من غير المعقول ألا “تستغل الجزائر هذه الثروات..، وإذا تطلب الأمر التشارك مع دول صديقة في هذه المشاريع سنقوم بذلك”.