تولت شحنة الـ 2750 طن من نيترات الأمونيوم، المخزنة في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، قتل عشرات الأبرياء واصابة الآلاف وتهديم المنازل والمنشآت فضلًا عن ضرب الاقتصاد اللبناني في مقتل. هذا الاقتصاد الذي يعتمد بشكل كبير على بيروت ومرفئها المدمران اليوم بنسبة كبيرة. ناهيك عن السياحة التي لن تقوم لها قائمة قبل اعادة الاعمار واستعادة الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي.
هذا الانفجار الذي لم، وربما لن، تعرف ملابساته، قد مهد لانفجار سياسي لن تستفيق منه السياسة اللبنانية بسهولة.
فقد سارعت الدول العربية والأجنبية إلى مد يد العون للبنان، ولكن سارعت أخرى إلى استهداف الوتر الحساس وبلا مقدمات. فمباشرة وبعد ساعات على الانفجار توجه الرئيس الفرنسي إلى لبنان بزيارة سياسية كانت أشبه ما تكون بالانفجار.
تسلح الرئيس ماكرون بالتاريخ والدعم الأوروبي والسماح الأمريكي ليوجه رسائل قاسية ومذلة للطبقة السياسية اللبنانية إضافة إلى “devoir”، بمهام محددة مع مهلة زمنية قصيرة تنتهي في الأول من أيلول.
تعددت رسائل فرنسا، فقد أرادت القول في مئوية لبنان الكبير أنها من أعلن لبنان الكبير منذ 100 عام وأنها من ستعلن تجديده بعد 100 عام بالظبط. انطلق ماكرون من التحامه باللبنانيين وتهافتهم عليه، نقمة منهم على طبقتهم السياسية، سمع للناس وتفاعل معهم وطمأنهم أن المساعدات لن تصل لجيوب المسوؤلين بل مباشرة لجيوب الناس، مؤكدًا عدم ثقته بهذه الطبقة السياسية البالية.
جمع ماكرون الطبقة السياسة اللبنانية التي لم يستطع أن يجمعها أحد في السنوات الأخيرة ولا حتى كل المصائب التي توالت على لبنان. حدد لهم خارطة طريق عنوانها عقد سياسي جديد. فمن إصلاحات ملزمة إلى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني وتغيير حكومي وصولًا إلى انتخابات نيابية مبكرة تعيد إنتاج الطبقة السياسية من جديد.
التحدي القادم الذي سيواجهه “حزب الله” يتمثل بعدم خسارة مجلس النواب في المدى القريب عبر انتخابات نيابية مبكرة
انهيار الحكومة
على وقع الانفجارين السياسي والإنساني توالت الاستقالات النيابية والحكومية لينتفض حسان دياب رئيس الحكومة اللبنانية، وتحت الضغوط المذكورة ودون التشاور مع أحد، ويعلن عن عزمه طرح انتخابات نيابية مبكرة ما اعتبره رئيس مجلس النواب نبيه بري تعديًا على صلاحياته ومكانته، فكانت القاضية. دعى الرئيس بري سريعًا لجلسة نيابية ليطيح بالحكومة ولكن رئيس الحكومة الضعيف آثر الاستقالة عوضًا عن الإقالة فقدمها في اليوم العاشر من الشهر الجاري.
ترسيم الحدود وزيارة هيل
استكمالًا لمطالب فرنسا ومن خلفها أميركا شارف الرئيس بري على إنهاء فرضه بترسيم الحدود الذي سعت إليه أميركا منذ مدة، وتأكيدًا على أنه زمن الصفقات سترسل الإدارة الأمركية إلى لبنان مساعد وزير الخارجية الأميركي “ديفيد هيل” المعروف برجل المفاوضات عوضًا عن الموفد السابق “ديفيد شنكر” رجل المواجهة. هذه الزيارة التي ستضع اللمسات الأخيرة على موضوع ترسيم الحدود ومراجعة ومتابعة الإنجازات في الخطة المرسومة سلفًا من حكومة جديدة وانتخابات نيابية مبكرة والتفاوض في ملفات شائكة كصواريخ “حزب الله” الدقيقة وعمل قوات اليونفل.
ردة فعل “حزب الله” على الانفجارين
أما في ساحة الأحزاب اللبنانية وعلى الرغم من الضغط الهائل الذي يتعرض له “حزب الله” بتحميله مسؤولية التفجير، إن بإمساكه بمفاصل الدولة التي لعب فسادها و”اهتراؤها” دورًا أساسيًا بالانفجار أو باتهامه بمكلية الشحنة المفجرة أو بالتسبب في عدوان خارجي فجّر الشحنة… إضافة إلى إسقاط حكومة كان له ولحلفائه اليد الطولة فيها. قرأ “حزب الله” بالمبادرة الفرنسية فك للحصار عن منظومته وانفتاحًا عليه ليس فقط من فرنسا ولكن بتغطية أمريكية. ناهيك عن ما تسرب من اجتماع قصر الصنوبر الذي حاول فيه الرئيس الفرنسي الظهور بمظهر راعي جميع الأفرقاء بدون استثناء.
هذه الخلطة ستعيد الاعتبار لهذه القوى بخاصة اذا أحسنت خطب ود جمهورها في الانتخابات النيابية المقابلة كما فعلت ابان اغتيال الرئيس رفيق الحريري
إن التحدي القادم الذي سيواجهه “حزب الله” يتمثل بعدم خسارة مجلس النواب في المدى القريب عبر انتخابات نيابية مبكرة، هو وإن كان واثقًا من عدم تراجع عدد نوابه في أي انتخابات قادمة يخشى من انهيار متوقع لحليفه المسيحي الذي أمن له تغطية عابرة لطائفة “حزب الله” الشيعية. هذا الحليف المسيحي المتمثل بحزب رئيس الجمهورية ميشال عون تشير المؤشرات لكونه سيتعرض لانتكاسة كبيرة في أي انتخابات نيابية قادمة نظرًا إلى تهم الفساد والانفضال عن الواقع الذي يتهمه به أنصار الأمس، ما سيسمح بانكشاف “حزب الله” وخسارته قدر كبير من هذه التغطية.
ردة فعل 14 آذار على الانفجارين
في المقلب الآخر، وجد فريق المعارضة المشتت الفرصة سانحة لإسقاط الحكومة لاستعادة موطئ قدم في اللعبة السياسية الحكومية. وعلى صعيد انتخابات نيابية مبكرة فتتفاوت الحماسة بينهم في من يجد نفسه غير مستعد لها ومن يجد نفسه متحمسًا لوراثة بعض المقاعد النيابية. فيما أشارت المعطيات إلى أن الاجتماع بماكرون جاء دون التوقعات بالنسبة لفريق 14 اذار الذي سعى لتكون ضربة قاضية لـ”حزب الله”. هذه الضربة التي أتت دون آمال 14 آذار.
مع استقالة الحكومة بدأت الاتصالات لتشكيل حكومة وحدة وطنية كما أوعز ولي الأمر الفرنسي. هذه الحكومة التي ربما تأخذ وقت للتشكل والتي بدأ “الطباخون” يخطبون ود رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عله يرأسها لتضم مختلف القوى السياسية أو على أقل تقدير ليبارك الطبخة الجديدة.
هذه الخلطة ستعيد الاعتبار لهذه القوى بخاصة إذا أحسنت خطب ود جمهورها في الانتخابات النيابية المقابلة كما فعلت إبان اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
تفاعل الثوار
من جانبهم، انفجر الثوار بعد انفجار بيروت وساهم ضغطهم الشعبي في تسريع الأحداث وانهيار الحكومة ولكنهم حتى اليوم لم يستطيعوا أن يشكلوا أطرًا تلعب دورًا حقيقيًا في العقد السياسي الجديد الذي وضعه الرئيس الفرنسي حيز التنفيذ.
فهل سيكون للثوار رأي وبصمة في الانتخابات النيابية المقبلة؟ وما ستكون ردة فعلهم إذا ما شكلت حكومة وحدة وطنية تعيد تجديد الطبقة السياسية جمعاء؟