هواجس الطفولة وأحلامها ربما ما زالت ترافقنا، بعضنا يجاهد منذ الصبا ليصل إلى أحلام طفولته، لكن ماذا لو كان حلم الطفولة مصحوبًا بغصة الفقدان؟ ماذا لو كنت طفلًا في العاشرة، وبين ليلة وضحاها تكبر لتصبح “رجل البيت” وتمضي العمر كله في معركة لمحاربة السبب وراء حرمانك الطفولة؟
بطل حكاية اليوم هو العالم المصري البروفيسور عادل عبد الفتاح محمود، مبتكر ومطور اللقاحات التي أنقذت ملايين الأطفال والنساء وحسن صحة الناس حول العالم من خلال ريادته في مجال الأمراض الوبائية لا سيما العدوى الطفيلية منها، الذي جمع في شخصه خصالًا يصعب جمعها، فهو القيادي المحبوب والأكاديمي الطموح والسياسي الفذ الذي عرفه العالم وجهله بلده.
أصل الحكاية
في مطلع أربعينيات القرن الماضي وُلد للمهندس الزراعي عبد الفتاح محمود وزوجته فتحية عثمان مولودهما البكر عادل لينشأ مع أخويه محمود وألفت في القاهرة.
شاءت الأقدار أن يفقد بطل حكايتنا والده في طفولته المبكرة، عندما أصيب بالتهاب ذات الرئة وأرسلوا عادل الطفل ذي الأعوام العشر إلى الصيدلية ليحضر العلاج لوالده وعند عودته وجد أن الموت حمل والده بعيدًا ليصبح الأب لإخوانه الصغار في هذا العمر المبكر، فهذه الحادثة حفرت عميقًا في وجدان عادل وجعلته مصممًا على أن يصبح طبيبًا ينقذ الأرواح ويحارب المرض الذي حرمه والده وطفولته معًا.
هذه الحادثة بكل ما تحمله من ألم ومعاناة، صقلت روح القائد فيه وجعلته الإداري الناجح الذي يستطيع اتخاذ أنجح القرارات في أصعب الظروف، تقول زوجته الدكتورة سالي هودير: “كثيرًا ما كنت أتساءل عما إذا كانت قوته كقائد ورؤيته الواضحة نشأت من الإجبار على القيام بهذه الأدوار في سن مبكرة”.
التحق عادل محمود بكلية الطب جامعة القاهرة، وكان له دور بالمعترك السياسي آنذاك بانضمامه إلى الحركة الشبابية المؤيدة للرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، وأصبح رئيسًا لهذه الحركة، لكن مناخ الحريات والذبذبة السياسية لمصر حينها جعلته يبتعد عن العمل السياسي ويندمج في دراسته فقط.
تخرج في كلية الطب وأكمل الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1963 ليهاجر بعدها إلى بريطانيا ليشبع طموحه وشغفه بالعلم ويحصل على الدكتوراه (عن أبحاثه بشأن دور نوع معين من كريات الدم البيضاء في دفاع الجسم ضد الإصابة بالديدان) من كلية لندن للصحة والطب الاستوائي عام 1971.
لقاحات
عام 1973 هاجر الدكتور عادل محمود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتحتضن أمريكا طموحاته في البحث العلمي، فالتحق الدكتور عادل محمود بجامعة Case Western Reserve University كباحث فيها وتدرج بالمناصب من رئيس قسم الطب الجغرافي إلى أن شغل منصب رئاسة قسم الطب للأعوام بين 1987-1998.
بهذا التدرج الأكاديمي، فرض البروفيسور عادل محمود نفسه على الأوساط العلمية العالمية كباحث أكاديمي يُشار إليه بالبنان.
ريادة عادل محمود كانت خلال رحلته مع شركة Merck (أضخم الشركات الدوائية عالميًا وسابع أضخم شركة دوائية من حيث رأس المال) عندما طلبت الشركة من البروفيسور ترؤس قسم اللقاحات بها.
كان التحدي كبيرًا أمام البروفيسور عادل محمود ليس فقط في اكتشاف وتطوير اللقاحات، وإنما بتسويق اللقاح الذي لاقى بعض الاعتراضات من الأوساط العلمية
كان ذلك بالضبط ما يحاكي أحلام طفولة عادل محمود بابتكار وتطوير اللقاحات التي تنقذ البشر من تهديد المرض الذي قد يغيب من نحب كما حرم عادل من والده.
ابتدأ البروفيسور محمود رئاسة قسم اللقاحات عام 1998 واستطاع أن يسخر هذا المنصب ليساعد البشرية جمعاء لمحاربة عدد من الأمراض التي تصيب الأطفال والنساء، حيث طور 4 لقاحات ساهمت بتغيير الواقع الصحي في العالم أجمع، اللقاح الأول ضد فيروس الروتا الذي يصيب الأطفال ويظهر بشكل التهاب شديد بالمعدة والأمعاء ويقتل نحو نصف مليون طفل سنويًا، ثم تلاه الإسهام العظيم للبروفيسور عادل محمود بتطوير لقاح Gardasil الذي أنقذ ملايين النساء من خطر الموت جراء الإصابة بسرطان عنق الرحم (99% من حالات الإصابة بسرطان عنق الرحم تعود إلى الإصابة بفيروس الورم الحليمي البشري HPV)، حيث تشير الإحصاءات إلى معدل إصابة سنوية تتخطى النصف مليون امرأة أكثر من 60% منهم يمتن بعد صراعهن مع سرطان عنق الرحم، بهذا اللقاح استطاع البروفيسور عادل محمود إنقاذ ملايين النساء.
كان التحدي كبيرًا أمام البروفيسور عادل محمود ليس فقط في اكتشاف وتطوير اللقاحات، وإنما بتسويق اللقاح الذي لاقى بعض الاعتراضات من الأوساط العلمية عن مدى فاعلية اللقاح والجانب الأخلاقي للقاح الـHPV (اللقاح يعطى في سن مبكرة للفتيات لوقايتهن من عدوى الفيروس الذي ينتقل جنسيًا، الأمر الذي أثار الجدل في المجتمعات الغربية بشأن احتمالية تشجيعها للفتيات لممارسة الجنس في سن مبكرة).
يقول كين فرايزر، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة ميرك: “لقد ترك إرثًا دائمًا لحماية صحة الرضع والمراهقين والبالغين حول العالم. قلة من الأطباء والعلماء كان لديهم الأثر العالمي على الصحة العامة الذي كان لعادل محمود”.
خلال مسيرته المشرقة في شركة ميرك لم يكتف بتطوير وتسويق لقاح الروتا والـHPV بل استطاع تطوير اللقاح الرباعي الخاص بالأطفال (لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية والجدري المائي) كما طور لقاح القوباء المنطقية، وبحسب شركة ميرك فقد تم توزيع أكثر من 500 مليون جرعة من اللقاحات الأربع التي طورها البروفيسور عادل محمود حتى العام 2017.
عام 2006 تقاعد البروفيسور عادل محمود من شركة ميرك، لكن شغفه بالعلم والإسهام في رفد البشرية بما وصل إليه حملاه للعودة إلى جذوره الأكاديمية للعمل مع جامعة برينستون الفترة بين 2007-2011 كمحلل سياسات في كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية، وأستاذ في قسم البيولوجيا الجزيئية في كلية وودرو ويلسون.
“كان عادل معلمًا ومرشدًا وزميلًا محبوبًا، توافد طلابنا عليه لأنه جعل تعلم العلوم وثيق الصلة بإنقاذ الأرواح. كان مخلصًا لمساعدة العلماء الناشئين على الاعتقاد بأنهم قادرون على إحداث فرق. بصفتي زميلًا ، كان فكرًا رائدًا مرغوبًا فيه يقرن التفكير العميق بموقف مرح يمكن القيام به، ويلهمنا جميعًا للقيام بالمزيد. سنفتقده بشكل رهيب.” بوني باسلر (أستاذة في علم الأحياء الجزيئية ورئيس قسم البيولوجيا الجزيئية في برينستون).
عرف عن البروفيسور عادل محمود محبته ودعمه الكبير للطلاب والعلماء والباحثين الشباب، ويتضح ذلك جليًا في عام 2013، عند تفشي سلالة غير عادية من التهاب السحايا بين طلاب الجامعات الأمريكية (وهو مرض غير شائع في أمريكا ولم يكن هناك لقاح له في الولايات المتحدة) استخدم البروفيسور عادل محمود جهوده وعلاقاته في عالم الأدوية لغرض توفير اللقاح الأوروبي والحصول على إذن الحكومة الأمريكية لإدخاله للبلاد وتوفيره للطلاب.
كان موضوع محاربة الأمراض وإنقاذ البشر من العدوى الشغل الشاغل لعادل محمود، فكان يحارب في هذا المجال بكل قوة محاولًا توفير اللقاحات للبلدان الفقيرة وجعل دول العالم الغربي والمنظمات العالمية ملزمة بتوفير التطعيم واللقاحات لبلدان العالم الثالث، “لا يمكننا ترك الأعباء المالية تقف في طريق حل الأزمات الصحية العالمية المميتة” هذا ما قاله البروفيسور عادل محمود بعد تفشي أزمة إيبولا في إفريقيا عام 2014.
عام 2015 شارك البروفيسور عادل محمود في تأليف ورقة في مجلة نيو إنجلاند الطبية، بعنوان “إنشاء صندوق عالمي لتطوير اللقاحات” مع جيريمي فارار، وقاد التحالف العالمي للقاحات والتحصين GAVI (وهي مؤسسة تضع شراكة بين القطاعين العام والخاص تهدف إلى توفير اللقاحات لبلدان العالم الفقيرة).
خلال مسيرته شغل البروفيسور محمود العديد من المناصب الرفيعة وكان إداريًا ناجحًا وشخصيةً محببةً للجميع، وانتخب لترؤس العديد من المؤسسات مثل الجمعية الدولية للأمراض المعدية والأكاديمية الوطنية للطب، وعرف عنه سداد الرأي وتقديمه الحلول الخلاقة والاستشارات، تقول الدكتورة باميلا عميدة كلية الطب في جامعة كيس ويسترن ريزيرف “ذكاء عادل وعبقريته كانا أسطوريين في حل المشكلات” حيث قدم الكثير من الاستشارات منظمات عالمية مثل منظمة الصحة العالمية WHO ومعاهد الصحة الوطنية NIH ومراكز السيطرة على الأمراض ومؤسسة روكفلر وغيرها من المؤسسات والمراكز البحثية والجامعات.
“لقد كان له القدرة على رؤية الصورة الكاملة، وكأنه رجل بطول 40 قدمًا، له قدرة على فهم العلوم والأبحاث خارج نطاق اختصاصه”، بهذه الكلمات وصف الدكتور أنتوني فوسي مدير المعهد الوطني للتحسس والأمراض الانتقالية البروفيسور عادل محمود.
Earlier this month, the world lost one of the greatest vaccine creators of our time. Dr. Adel Mahmoud saved the lives of countless children. https://t.co/FQFpS0U9Pb
— Bill Gates (@BillGates) June 21, 2018
في يوليو/تموز 2018 غادر البروفيسور عادل محمود الحياة بعد تعرضه لنزيف في الدماغ وتوفي في مستشفى جبل سيناء بنيويورك ونعته الأوساط العلمية وكبار الشخصيات العالمية وأعلن الحداد على موقع جامعة برينستون لرحيل قطب من أقطاب العلم وأصبح نور العلم أقل سطوعًا بعد وفاته كما وصفه زملاؤه.
رحلة عادل محمود العظيمة كانت ترجمة لحلم طفل صغير، حمله الألم إلى مساعدة الإنسان أينما كان بغض عن النظر عن المسميات وبات اسمه عملاقًا في مجال اللقاح والتطعيم.