على مدار العصور، مرت على البشرية العديد من الأوبئة التي حصدت أرواح الآلاف، واجتهدت الشعوب في اختيار طرق وأساليب مواجهة هذا الخطر الذي يهدد وجودها.
وبالعودة للتاريخ الإسلامي نرى العديد من المؤرخين أمثال المقريزي وابن كثير وابن بطوطة وابن عذارى المراكشي وغيرهم من الذين عاصروا تلك الأوبئة وكتبوا عن كيفية مواجهتها وتأثيرها على المجتمعات من النواحي الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية.
اتبع المسلمون مبدأ الحجر أو العزل المتبع اليوم في مواجهة وباء كورونا، وكانت مواجهة الأوبئة ضمن إطار قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منها”، فالحديث النبوي يختصر مفهوم الـLock Down المعمول به اليوم عالميًا لمواجهة تفشي كوفيد 19، والأمثلة التاريخية عن ذلك كثيرة، مثل موقف الخليفة عمر بن الخطاب من طاعون عمواس عندما رجع إلى المدينة دون الدخول إلى الشام بعد تفشي الطاعون به.
بالإضافة إلى اتباع المسلمين لنظام الحجر خلال فترات الأوبئة، بنوا بيمارستانات (المستشفيات المعروفة حاليًّا وكان يطلق عليها بيمارستان) خُصصت لعزل المصابين وأنشأوا حوانيت ومغاسل الموتى لتغسيل ودفن الموتى بأسرع وقت لمنع بقاء الجثث وتلوث المدن، بتلك الاجتهادات تغلبوا على الأوبئة التي مرت عليهم.
اليوم جائحة كورونا التي هزت العالم أجمع، بعد إصابة 21 مليون إنسان وموت قرابة 765.000 إنسان، خلقت تحديًا كبيرًا لمواجهة هذا الوباء، وبالتالي كان لا بد من اتخاذ خطوات لمحاربته والقضاء عليه، ولعل أهم وأول خطوة تتركز عليها المعركة هي الكشف المبكر عن الإصابة بالعدوى وهذا بالضبط ما نجحت به بطلة حكايتنا لهذا اليوم.
بابتسامة خجولة ونظارات لا تستطيع أن تخفي الملامح العربية، شابة مرتدية ملابس المختبر وتجاورها زميلتها الأمريكية في أحد مختبرات جامعة جونز هوبكنز، بهذه الصورة اجتاحت هبة مصطفى عناوين المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، متحدثين عن “فخر العرب” و”مصر اللي فيها حاجة حلوة” البروفيسورة المساعدة المصرية التي طورت فحص للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا بطريقة مبتكرة.
هبة مصطفى منحدرة من أسرة شغوف بالطب، فوالدتها الدكتورة حفصة زيتون اختصاصية في أمراض النساء وملهمها الأول والدها الدكتور حمدي مبروك اختصاصي في طب المجتمع، فكان محبًا للعلم والبحث العلمي ونقل هذا الشغف إلى ابنته هبة التي تتذكر من طفولتها مجهر والدها الذي وضعه في المنزل ليتسنى لها التعرف على البكتريا والتعلق بالبحث عن أسباب المرض من الطفولة، ليصبح دافعًا لها لدراسة الطب، وتحقق بعد ذلك حلمها حين تخرجت في طب الإسكندرية عام 2004.
بعد التخرج أتيحت لها فرصة السفر إلى أمريكا بعد زواجها من الدكتور ماجد زين الدين، ليُفتح لها الأفق وتحصل على شهادة الدكتوراه في الميكروبيولوجي (الأحياء الدقيقة) سنة 2014 من جامعة كانساس عن بحثها المتعلق بتفاعل فيروس الهربس البسيط النوع 1 مع الخلية المضيفة، هذا البحث الذي ساعد الباحثين على فهم أفضل لبروتينات الفيروس المشفرة (من ناحية الوظيفة والتنظيم) وتم تقديم هذا البحث في أكثر من 12 محفلًا محليًا ووطنيًا.
شغف هبة بالعلم لم يتوقف عند هذا الحد، بل استمرت بالجد والاجتهاد بالتحاقها بزمالة بحثية لما بعد الدكتوراه مدتها ثلاث سنوات في مستشفى سانت جود لأبحاث الأطفال في ممفيس، تينيسي.
ثم تلى ذلك إكمالها لزمالة بحثية أخرى لمدة سنتين بعلم الأحياء الدقيقة السريرية في المركز الطبي بجامعة روتشستر، نيويورك، لتحصل على شهادة البورد الأمريكي في اختصاص الميكروبيولوجي الطبي.
بهذا الثقل الأكاديمي، أصبحث هبة مصطفى بروفيسور مساعد في جامعة جونز هوبكنز (تأسست جامعة جونز هوبكنز عام 1876 في ولاية ميريلاند وتعتبر من أرقى الجامعات وخرّجت قامات عالمية معروفة بالعلم والابتكار، وحتى عام 2019 هناك 39 خريجًًا فيها حصلوا على جائزة نوبل في مجالات مختلفة) ورئيسة لقسم الفيروسات الجزيئية في مختبر الأحياء الدقيقة الطبية عام 2019.
خلال فترة قصيرة من وجودها في جونز هوبكنز، بدأت هبة مصطفى تحديًا جديدًا بإنشاء برنامج بحثي تعاوني يهدف إلى كشف تسلسل الجينوم (الجينوم هو الشريط الوراثي الذي يحمل المعلومات الوراثية المشفرة)، وتطور جينوم الفيروسات الذي يرتبط بمدى قدرته على الإصابة.
امرأة تواجه الوباء
خلال جائحة كورونا، ترأست هبة مصطفى فريقًا بحثيًا في مختبر جامعة جونز هوبكنز (هذا المختبر له تاريخ عريق في مواجهة الأوبئة مثل H1N1 وإيبولا والإنفلونزا) هدفه الكشف عن الإصابة بفيروس كورونا بشكل سريع وسهل، حيث يمكن إجراء الفحص منزليًا عن طريق مسحة تؤخذ من البلعوم وتعطي نتائج دقيقة خلال خمس ساعات ويمكن إجراء ألف فحص يوميًا.
خلال 3 أيام فقط من حصولها على جينوم فيروس كورونا استطاعت هبة مصطفى مع فريقها الوصول إلى هذا الفحص الثوري الذي يتيح الكشف المبكر عن الإصابة (من خلال كشف وجود جينوم الفيروس في العينة من عدمه)، وبذلك يمنع تفشي العدوى ويخفف الضغط على المستشفيات والمؤسسات الصحية.
بهذا العمر الأكاديمي القصير استطاعت هبة مصطفى نشر العديد من الأبحاث المتعلقة بالمادة الجينية للفيروسات، وأبحاث عن فيروس الإنفلونزا وغيرها من الأبحاث، لتثبت أن المرأة بإمكانها الوصول إلى أرقى مراتب العلم وأن العلم هو ضالة الإنسان بغض النظر عن جنسه وعرقه ودينه.